ثورة يناير.. وثقافة الديمقراطية
بقلم: د. عبد المنعم المشاط
في الوقت الذي أذهلت فيه ثورة52 يناير العالم كله من حيث فاعليتها, ونقائها وقدرتها علي التعبئة وحشد المشاركة, بقدر ما كشفت بجلاء عن الحاجة الملحة في مصر والوطن العربي إلي ثقافة الديمقراطية.
وهو ما يتوافق مع ما ذكره المفكر اللبناني المتميز غسان سلامة بأنه لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين, فمهما تم من إنشاء المؤسسات السياسية, ومن وضع دستور راق ومتميز, ومن الإقدام علي إجراء استفتاءات وانتخابات, إلا أن نجاح الديمقراطية يتوقف, أولا وأخيرا, علي مدي وجود وانتشار فهم ثقافة الديمقراطية, وهي التي تعني الاعتقاد الراسخ لدي المواطنين بأن السيادة لهم, وأنهم مصدر السلطات, وأن القائمين علي الأمر يعملون لتحقيق المصلحة العامة, وتعني كذلك سيادة القانون علي الجميع دون تحيز, أو استثناء, أو انتقاء, كما تمتد إلي الإعلاء من قيمة المحاسبية, سواء كانت سياسية أو شعبية, وتعطي أيضا الحق في التنظيم, وتحفز المواطنين علي المشاركة الفاعلة, وتعني فوق ذلك وبعده احترام الاختلاف, وتقدير الرأي الآخر دون حساسية أو عداء.
ولا يغرب عن البال كم اندثرت الثقافة الديمقراطية في مصر عقب ثورة2591, التي ألغت الأحزاب السياسية, وحولت النظام السياسي إلي نظام الحزب الواحد, وآمنت بالديمقراطية الاجتماعية, واختصمت الديمقراطية السياسية, بما فيها المشاركة الحرة, وتجذرت هذه السمات في الفترة ما بين1891 و1102 إلي الحد الذي تحول النظام السياسي برمته إلي نظام شمولي يسوده الحزب الوطني الديمقراطي, وتسير في ركابه الأحزاب الأخري الهزيلة, التي تحولت, مثلها مثل الحزب الوطني, إلي أحزاب نخبوية لا علاقة لها بالجماهير, وانتفي دورها جميعا في عملية التنشئة السياسية بما فيها غرس ثقافة الديمقراطية بين المواطنين, ومما زاد الطين بلة أنه لم توجد مادة واحدة أو موضوع واحد في أي مقرر دراسي مصري في مختلف مراحل التعليم حول ثقافة الديمقراطية, وكيفية الانتفال من النظام الشمولي إلي النظام الديمقراطي.
إن التحول الديمقراطي الذي ينبغي أن يرقي إلي مستوي الثورة, والذي يعد نقطة فاصلة عن النظام الشمولي, يتطلب, وبصورة ملحة, نشر وتعميم ثقافة الديمقراطية داخل المجتمع المصري, وبين ربوعه بصورة تدفع المواطنين إلي الاحترام المتبادل, والمشاركة الطوعية الفاعلة, والاختيار الحر, وتبدأ الثقافة الديمقراطية من مؤسسات التنشئة السياسية, سواء كانت الأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو المسجد أو الكنيسة أو المعبد أو النادي أو الحزب السياسي وغيرها من منظمات المجتمع المدني, وعلي الرغم من أنها عملية معقدة وطويلة الأمد, نظرا لتجذر الثقافة الشمولية والسلطوية, إلا أن هناك أبعادا ملحة ينبغي علي كافة مؤسسات المجتمع أن تتعامل بها, وتبذل قصاري جهدها في نشرها, وهي تلك الأبعاد التي تعد المواطنين, في مرحلة التحول الديمقراطي الراهنة, إلي فهم دورهم السياسي ومحاولة الإعلاء منه.
ولا يمكن أن يتأكد الدور السياسي للمواطنين في مرحلة التحول إلي النظام الديمقراطي, إلا إذا أيقنوا أنهم يشكلون عصب الحياة السياسية, وأنهم أصحاب الكلمة العليا في النظام السياسي, كما أنهم أساس الإرادة العامة, كما رأي جان جاك روسو, وأنهم الطرف الأقوي في العقد الاجتماعي بينهم وبين السلطة السياسية, كما رأي جون لوك, وهكذا يصبحون أصحاب القوة السياسية الفاصلة, ولديهم الرغبة والإرادة في استخدامها إزاء السلطة الحاكمة بما فيها رئيس الدولة, ويقتضي هذا الفهم المعرفة التامة بالدستور ومبادئه الأساسية التي تجعل الشعب مصدر السلطات, كما أنها تقضي بالمساواة التامة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين, أو النوع, أو المستوي الاقتصادي, ويعود الفضل لثورة52 يناير في إعطاء المصريين هذا الإحساس الجياش بالقوة والقدرة علي التأثير, بيد أن التحدي الرئيسي في هذا الشأن يكمن في استدامة هذا الشعور وتوظيفه في العملية السياسية.
ويرتبط بما سبق تأكيد حرية المصريين في التنظيم السياسي, بما في ذلك إنشاء الأحزاب السياسية, وهي مسألة جد جديدة, ومن نتاج الثورة أيضا, فقد درج المصريون علي أن الحزب الوطني الديمقراطي, عن طريق سكرتيره العام, وهو رئيس لجنة الأحزاب, يتحكم بصورة مطلقة في حق المصريين في التنظيم السياسي, وهكذا فإن أكثر من58% من الأحزاب القائمة في مصر الآن, هزيلة كما هي, قد أنشئت بقرار من المحكمة الإدارية العليا, علي الرغم من أن النظام السابق قد اخترقها وجندها وروضها كما شاء, وقد ثبت منذ قيام الثورة وحتي الآن, أن ثقافة التنظيم السياسي غائبة. إن جوهر الديمقراطية يرتبط بمعدل المشاركة السياسية, التي تختلف عن التعبئة السياسية, فبينما الأولي اختيارية طوعية, فإن الثانية إكراهية وإجبارية, وبينما تستمر الأولي وتنمو وتتسع, فإن الثانية سرعان ما تنهار وتودي بالنظام السياسي برمته, كما حدث للاتحاد السوفيتي والدول الشمولية مثل مصر حتي1102, ولاشك أن تحفيز المواطنين علي المشاركة يستلزم اقتناعهم وثقتهم في التطور السياسي, وفي العملية السياسية, وبدورهم المؤثر والفعال في نتائجها, وفي حرص النظام السياسي علي احترام اختيارات المواطنين, وإذا كانت الساحة السياسية مفتوحة أمام الجميع للمنافسة علي هذا التحفيز, فإنه ينبغي علي المؤسسات التعليمية, ومؤسسات المجتمع المدني أن تلعب دورا موازيا إن لم يزد, في هذا الصدد, علي الجماعات ذات الاتجاهات الأيديولوجية أو الدينية المختلفة, فمما لاشك فيه أن إحدي سمات الديمقراطية التي يجب أن نتعلمها هي التنافسية واستخدام الفرص المتاحة, وحتي تزيد معدلات المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة, والاستفتاء علي الدستور الجديد, يجب أن تزيد معدلات المشاركة علي06% علي الأقل ممن لهم حق التصويت.
إن نجاح الديمقراطية يقتضي الإعلاء من قيم وأدوات المحاسبية والمساءلة, سواء كانت السياسية أم الشعبية, وتستلزم كذلك احترام تنفيذ قرارات أجهزة الرقابة المالية وغيرها من الأجهزة الرقابية, كما أنه يجب تمكين المجتمع المدني من الرقابة علي الأداء الحكومي والتنفيذي, حفاظا علي الحياد والموضوعية في الأداء, وحرصا علي عدم التحول مرة أخري إلي نظام شمولي يسلب المواطنين حقوقهم.
إن ضمان التحول إلي ديمقراطية تشاركية حقيقية في مصر يقتضي, بادئ ذي بدء, نشر وتعميق ثقافة الديمقراطية, بما تعنيه من احترام الآخر, والقبول بالأغلبية, والاقتناع بأن الأقلية اليوم يمكن أن تصل إلي الحكم غدا, ويتم تداول السلطة بناء علي اختيارات المواطنين.
ساحة النقاش