بقلم: رجائى عطية
في أجسام الناس وأفعالهم وأفكارهم منذ أول التاريخ أشياء مهمة جدا في حياتهم يحرص كل منهم علي سترها وعدم التحدث عنها أو في شأنها إلا لحاجة أو لضرورة مقبولة معترف بها في المجتمع وخلال ذلك فلا يمكن أن يقدم علي كشفها سوي المجنون أو الصغير غير المميز أو الساقط في نظر الناس.
هذا التكتم علي هذه الدواخل والأفعال ـ خاصية آدمية لا نظير لها في دنيا الحيوان ويعزوها الآدميون إلي الدين تارة وإلي القانون الاخلاقي تارة أخري.. بيد أن هذا التكتم يبدو أعمق جذورا من ذلك لانه ينطوي علي تجاهل متعمد للواقع الذي يعلمه كل إنسان عن نفسه, وعلي التظاهر بأنه غير موجود وغير مهم.. برغم استحالة الاستغناء عنه لأي آدمي حي في أي عصر وفي أي جماعة ولعله أن يكون أوثق ارتباطا بخصوصية ذات الآدمي ووعيه لذاته وما يتصل اتصالا شديدا بها, وهذا بدوره لا نظير له لدي الأحياء الاخري التي لم تعرف الحياء الذي لدي البشر. هذا الحياء هو احساس يقظ بأن لذات الآدمي منزلة وحرمة تصونه من إطلاع الآخرين علي خصوصياته التي ينفرد بها ولا يمتهنها بإشراك الآخرين فيها رؤية أو سماعا أو حكاية!
وهذا الحياء رصيده لدي الآدمي أغني وأقوي بكثير من رصيد الالتزام بالصدق والصراحة والجرأة, وتغفر الجماعة أو تسقط وتهمل ما في هذا الكتمان من التمويه والتغافل والستر.. لأنه يحمي حماية بديهية جميع اعضائها بلا تفريق أو تمييز بين مهم وغير مهم ويبدو أن هذا الشعور الأولي بالحياء أو العار من كشف أو انكشاف هذه الأمور الخاصة هو الخطوة الأولي التي لابد منها لشعور أعم وأشمل عند البشر, وهو الشعور بالاعتبار والقيمة والشرف الذي يتنافسون عليه وتختلف فيه الانصبة بين المهمين أو من يعتقدون أن لهم نصيبا من الأهمية, وبين نصيب الآخرين من العاديين القانعين أو الراضخين, وهذا النصيب يتفاوت ويتزايد ويتناقص لدي هؤلاء وأولئك بحسب الأعمار والأوقات والظروف والأحوال لكنه لاينعدم في ذاكرة الحي قط, ما لم يفقد تذكره لذاته وهويته بحيث لا يعود يعرف أنه إنسان ذو منزلة وحرمة وحياء!
ويبدو أنه في فطرتنا ضرب من تعمد الاستغناء أحيانا عن الصدق, وفي تجاهل الواقع في بعض الأمور وحرص علي اخفاء حقيقة ما لدينا من جهة أو أخري, ولعل هذا يفسر سهولة تسرب الكذب العمدي وغير العمدي إلي وعي الآدمي وإلي فكره واعتقاده ويفسر صعوبة مراقبته لنفسه وربما لغيره في ضرورة تحري الواقع, وحسن الاستعداد لإعلانه وتمام الشجاعة في إقراره والتسليم به كما يفسر إلي حد بعيد مرونة خياله الهائلة واتساع أبعاد امانيه وقدرة خياله الفائقة علي القفز فوق الموانع والعوائق الفعلية وعلي تخطي قصور وصعوبات بل واستحالات الحاضر إلي مستقبل قريب أو بعيد حافل بالمعجب والمطرب, لا أثر فيه للمتاعب والنقائص الماضية أو الحاضرة أو المتوقعة.
وربما كان هذا هو الذي فتح للأناسي علي مصراعيه ـ أبواب الفنون والآداب ـ من شعر ونثر ونحت ورسم وتصوير وموسيقي وغناء وتمثيل ولون حياتهم بما يسمونه بالجمال احيانا وبالذوق احيانا أخري أو يعتبرونه من مظاهر التحضر أو التمدن أو الترقي فضلا عن أنه ينفض من حياتهم باستمرار ـ جانبا من الإملال والرتابة!
كما يبدو أن الآدميين لم يستطيعوا في ماضيهم أو حاضرهم ولايستطيعون في مستقبل معقول أن يقصوا خيالهم هذا وما فيه من زخارف وأماني وآمال أو عزاء وسلوان ـ عن واقعهم الذي يعيشونه وعن واقعهم الذي يشتغلون بتحسينه وتطويره تحسبا للمستقبل ذلك أن حياتهم الواعية وغير الواعية ـ يتداخل بعضها في بعض ويصعب جدا حتي علي المتشدد المتكلف من أهل العلم الوضعي ان يمنع تسرب ما هو في حقيقته خيال إلي ما يعتقد أنه واقع.
وتقريبا كلنا ينسي دائما أنه ليس هو الذي صنع ذاته لا جسما ولا نفسا ولا عقلا ولا صنعه أبواه, ونسيان هذه الحقيقة هو الذي جعل الآدميين يعيشون ما داموا في صحة وعافية, علي اعتقاد أو وهم أنهم غير مدينين بوجودهم ولا بشيء إلي غيرهم وهذا الاعتقاد منح خيالهم جواز الاختلاط التام بكل ما لديهم عن أنفسهم وعن محيطهم وهو الذي منح حكم كل منهم علي ذاته وعلي محيطه قوة يطلقون عليها في القضاء قوة الأمر المقضي ومن هنا جاءت فيما يبدو قلة جدوي الاقناع الذي يخاطب العقل فقط شفاهة أو كتابة وذلك برغم كثرة ما قيل أو كتب مما لا سبيل إلي حصره.
واعتمد الناس في اقناع بعضهم بعضا علي وسائل الإعلان والإعلام والدعاية والدعاوي التي تخاطب الخيال والعواطف أولا, وهي تعول علي المحاكاة والتقليد فإنقاذ الآدمي من شطحات خياله عملية عسيرة ليس فقط في شأن الآدمي العادي المنصرف طوال وقته إلي كسب معاشه وإنما هي عسيرة ايضا بالنسبة للآدمي المتخصص في العلوم الطبيعية أو العلوم العقلية التي تخاطب عقله في أوقات جده, وهذا أمر غريب جدا قد يشير إلي بطء التطور الحقيقي في النوع البشري وإلي أن نوعنا ربما بحاجة لآلاف السنين لحمل المتخصصين فضلا عن الأغلبية الغالبة من الناس ـ علي المزيد من الالتفات الجاد لدور العقل في مستقبل البشرية لأن العقل هو الدعامة الأولي لرقي كتلة النوع التي يبدو أنه لايزال حظها منه إلي الآن قليلا أو أقل من القليل!
وكما يحاول كل آدمي أن يخفي عوراته ونقائصه وضعفه وفقره, يحاول ايضا أن يستر عداواته وأحقاده ونفوره وملله وحيرته وجهله وعناده ويأسه وندمه.. يحاول ذلك الاخفاء بكل ما في وسعه من الوسائل والحيل والمزاعم والادعاءات والميول والانحيازات وألوان التشدد والغصب وصور الموافقة والمسايرة والرضا والقبول والتسليم والإذعان وهو ينقل ويتوارث ذلك كله لغة وسلوكا وعادات وأعرافا وآدابا وتقاليد وعقائد ومصدقات ويزيد توالي وتتابع النقل والتوارث عبر الاجيال ـ يزيد ذلك كله ثباتا, وكادة يصعب معها علي العقل أو الفطنة أو الفهم أن يجد طريقا إلي العلاج أو التلطيف أو الحد أو التخفيف, جري ذلك ويجري برغم الاجتهاد البالغ في محاولة التوعية والافهام والتنوير والتعليم من جانب العارفين الذين لايألون في ذلك جهدا!!
فكل ما يظنه أي فرد منا في نفسه وموقفها من الالتزام بالواقع والتمسك بالصدق والعزوف عن الباطل تحته مباشرة طبقات فوق طبقات من الخيال وهو خيال إما غير متعمد أو متعمد في بداية أمره ثم صار مألوفا بالاعتياد عليه ونسيان بدايته واستحالته إلي حق بدخوله في نطاق المصدقات والمعتقدات المتعلقة بأوضاعنا وماضينا وحاضرنا كأفراد وكأعضاء في جماعات لا يسمح أي منا لأحد بمناقشة صحتها فضلا عن نقدها وكشف ما فيها من خلط وأخلاط!
وهذه الطبقة التحتية داخل كل منا من السعة والعمق والجسامة بحيث يتعذر علي الآدمي أن يغير منها شيئا ذا بال وإن كان البشر لا يكفون في كل عصر عن تعديلها وتغييرها من جهة الشكل والصورة والمظهر مسايرة منهم لتبدل الأزمنة والأمكنة والظروف والأحوال.. وهذا يستبقي ولا يمس دوام تداخل الكذب في الصدق والصحيح في الباطل والواقع في الخيال.. ذلك لأن هذا كله من محصلة تداخل عواطف الآدمي في مسيرة عقله وحواسه وشعوره في مجري بصيرته ونظرته للأمور واندفاعه ووحدته خلال ما يسنده لنفسه من الحرص علي الاعتدال والاتزان.
والسؤال هنا هو: هل يمكن بطريقة ما ـ وقف هذا التداخل الذي يبدو أنه لا ينضبط والذي يؤدي إلي ما لا حد له من الخلط والغلط.
إن هذه التقوية مارسها بالفعل ويمارسها بعض الآدميين في كل عصر لكنهم قلة قليلة جدا واتصالها بالغالبية الغالبة محدود جدا بينما هذه الغالبية ـ بالنظر لانشغالها بلقمة العيش وضرورات الحياة المادية ـ لا تنمي عقولها ولا تتاح لها فرصة مناسبة لهذه التنمية بل وتضللها رؤاها لصور الحياة الرضية التي تحياها القلة المترفة!
نعود فنقول إن عاطفة الحياء والاستحياء لدي الآدميين هي مصدر ميلهم إلي الستر والتستر علي جوانب من واقعهم المادي والمعنوي وهي كباقي العواطف البشرية غير مزدوة بحدود قابلة للمعرفة أو آلية يتوقف الإنسان حتما عند بلوغها.. فاتساعها يختلف باختلاف الأمزجة والتقديرات والأحوال والبيئات. وقد انفتح بهذا باب الستر والتستر لاحتواء ومحاولة إخفاء الشهوات والاطماع والاحقاد وغير ذلك من ضلالاتنا وأسلس إلي نفاق تميز به الآدميون وساد في جماعاتهم وأفرادهم ولم ينج من شرور هذا كله إلا القليلون!
ثم يجب ألا ننسي أن سرعة الانتقال والتغيير الهائلة في خواطر الآدمي وصعوبة حصر وعيه في شيء معين لمدة من الوقت قد قلل ويقلل الفرص اللازمة للتدبر والروية ووزن الأمور وهذا يعجز الآدمي العادي عن مواجهة تتابع أخطائه وخطاياه وتكراره إياها بصورة عفوية آلية. ويحول بينه وبين الاحتكام للعقل والفطنة والهدوء, ومن ثم لا يجد منفذا ميسرا إلا الاعتماد علي اعتياده هو وأمثاله علي التغابي والستر ومحاولة إخفاء الواقع بالتظاهر بعكسه!!
المزيد من مقالات رجائى عطية<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش