بقلم: عبد الهادى مصباح
الجهاز المناعي لديه قدرة عجيبة يستطيع من خلالها أن يفرق بين العدو والحبيب, ففي الوقت الذي لايهاجم أي عضو من أعضاء الجسم, نجده يهاجم أي جسم غريب مهما كان حجمه أو تكوينه اذا تجرأ ودخل الي حصن الجهاز المناعي العتيد.
والسر في ذلك يكمن في كلمة سر الليل أو البصمة الجينية الموجودة في تكوين كل خلية من خلايا الجسمHLA, والتي يطلب الجهاز المناعي إبرازها في حالة نشاطه وهجومه.
فاذا أفلحت الخلية أو العضو في إبراز بطاقتها أو هويتها الجينية, فإن الجهاز المناعي يعرف من خلال ذلك أن هذا العضو أو هذه الخلية من الأصدقاء الذين لاينبغي مهاجمتهم, أما اذا فشل العضو أو الخلية في إبراز كلمة سر الليل فإن الجهاز المناعي يعامله معاملة الأعداء ويهاجمه ويدمره, مما يؤدي الي مضاعفات خطيرة في الجسم قد تؤدي في بعض الأحيان في النهاية إلي الموت0
وقد يحدث هذا الخلل في عضو أو أكثر من عضو في الجسم, مما يتسبب في حدوث مرض أو مجموعة من الأمراض سميت بأمراض المناعة الذاتية.
فاذا هاجم الجهاز المناعي المادة البيضاء في المخ والنخاع الشوكي وهي المادة المكونة للغلاف الميليني المحيط بأعصاب الجسم كله( لو شبهنا العصب بسلك الإيريال فإن الخلايا العصبية تمثل السلك النحاسي الداخلي, والغلاف البلاستيك المحيط به يمثل الغلاف الميليني) مما يؤثر علي نقل الإشارة العصبية, ويتسبب ذلك في حدوث أعراض تتراوح مابين التنميل وضعف النظر, وحتي الشلل الذي يمكن أن يصيب كل أعصاب الجسم أو بعضها, وهو ما يعرف بمرض تصلب الأعصاب المتعددMultipleSclerosis أو اختصاراM.S., واذا هاجمت خلايا الجهاز المناعي خلايا جزر لانجرهانز في البنكرياس فانها تدمرها وبالتالي تعجز عن افراز الانسولين اللازم لحرق الجلوكوز مما يتسبب في اصابة الشخص بالسكر, ويحدث هذا غالبا مع حالات السكر المعتمد علي الانسولين أو النوع الأولJuvenilediabetesIDDM وهو الذي يصاب به الأطفال والمراهقون0
وقد يأتي هجوم الجهاز المناعي علي مكان اتصال الأعصاب بالعضلات, مما يسبب ارتخاء العضلات في الجسم كله وهو ما يعرف بمرضMyastheniaGravis, وقد يأتي أيضا في الغدة الدرقية فيتسبب في افراز كميات كبيرة من هرمون الثيروكسين السام فيما يسميGravesDisease الذي يؤثر علي سائر أعضاء الجسم, أما اذا حدث الهجوم علي البروتين المبطن للمفاصل فان ذلك يؤدي الي حدوث التهابات الروماتويد التي قد تشمل بعض أعضاء الجسم الأخري مثل الجلد والكبد والكلي والطحال مثلما يحدث في حالات الذئبة الحمراء, وقد يحدث هذا الهجوم علي صمامات القلب أو الكلي كما في حالات الحمي الروماتيزمية ويسبب مضاعفات خطيرة0 واذا حدث وهاجم الجهاز المناعي الجلد فقد يسبب ذلك مرض الصدفية وأحيانا مرض الفقاعة.
وسوف نبدأ اليوم في تعريف القارئ بأحد أمراض المناعة الذاتية وهو مرض تصلب الأعصاب المتعددM.S., وقد عـرف هذا المرض في أوروبا منذ مئات السنين, ويعتقد الباحثون اعتقادا شبه مؤكد بأن أوغـوستـوس فـريدريك دي إستي1848/1794 الحفيـد غـير الشرعي للملك جورج الثالث مـلك بريطانيا العظمي فـي ذلك الوقت- قد أصيب بهذا المرض, أما من نـاحية التاريخ الطبي للمـرض فإن أول من قام بتدوين أعراض هذا المـرض كان طبـيبا إنجليزيا.
والتصلب المتعدد هو مرض التهابي مزمن, يصيب الجهاز العصبي المركزي المخ والحبل الشوكي وذلك بسبب قيام الجهاز المناعي للجسم بمهاجمة أنسجته الخاصة بالجسم نفسه فيما يعرف بالمناعة الذاتية حيث يقوم بتدمير غشاء الميلين الذي يغلف معظم الخلايا العصبية في المخ, مما يسبب تكون بقع(لويحات) من المناطق الخالية من الميلينplaquesofdemyelination مما يتسبب في ظهور أعراض المرض والاعاقة فيما بعد.
وقد لوحظت شـيوع أكبر للمرض في شرائح معينة من الناس حسب اختلاف العمر والجنس والجغرافيا والطعام الذي يتناولوه, فيتركز المرض غالبا في الفئات العمرية ما بين20 و45 عاما, وكغيره من أمراض المناعة الذاتية يزيد في النساء عنه لدي الرجال و تبلغ هذه النسبة في الفئات العمرية المنخفضة1:2لصالح النساء, وسرعان ما تتقارب هذه النسبة بين الجنسين بعد عمر الخمسين,كما لوحظ ان نسب الإصابة بالمرض تزداد اضطراد كلما ابتـعدنا عن خط الاستواء.
أما عن تأثيرالسلوك الغذائي فهناك علاقة واضحة ما بين الإكثار من تناول الدهون الحيوانية في الغذاء وبين مرض التصلب المتعدد, وتدعم هـذه العلاقة الإطار الجـغرافي لتوزيع المرضي, حيـث إن الشعـوب التي تسكن بعيدا عن خـط الاستواء هي الأكثر تناولا لهذا النوع من الدهون مقارنـة بالشعوب التي تسكن في المناطق الاستوائية. وفي دراسة أجريت حديثا بالنرويـج لـوحظ أن نسبـة الاصابة بالمرض تزداد في المجتمعات الزراعية( حيث اللحوم الحيوانية هي مكـون أساسي بالوجبـات) عن المجتمعات السمكيـة( التي تعتمد علي الأسماك بشكل أساسي).
يضاف إلي ذلك بعض عوامل الخطر التي تزيد معها نسبة حدوث المرض كما أن لها علاقة بتحفيـز الانتكـاسـات ومن أهمها العامـل النفسـي, فقد سجلـت حـالات عـديدة مـن انتكـاسـات المرض حدثت مباشرة لأفراد أثناء مرورهم بحالات من التوتر النفسي عقب وفيات أو حوادث لقريب أو عزيز في الوسط القريب المحيط بهم, ومن بين هذه العوامل أيضا التدخين حيث إن نسبة المرضي من المدخنين أعلي منها عـند غير المدخنين, وللحملات أيضا دور في تسريع الانتكاس في أول6 شهور, وصولا إلي آخر ثلاثة أشهر من الحمل وفترة الإرضاع, حيث تقل نسبة الانتكاس بشكل كبير, ولوحظ أيضـا أن الانتكاس يكثر فـي فصلي الشتاء والربيع وخصـوصا بعد الاصابة بأمراض الشتـاء المختلفة كالزكام والإنفلونزا وغيرها, وهناك العامل الجيني أيضا.
ولكن هنا يأتي السؤال الأهم وهو: ما الذي يدفع الجهاز المناعي للقيام فجأة وبلا إنذار مسبق بمهاجمة أعضاء الجسم نفسه؟؟!وللاجابة عن هذا التساؤل المحير وضعت العديد من النظريات المدعومة بالمشاهدات نذكر أهمها فيما يلي:
أ-النظرية الجينية: علي الرغم من أن مرض التصلب المتعدد لا يعتبر مرضا وراثيا إلا أنه قد تم التـعـرف علـي العديد مـن الجينـات التـي قد ترتبـط بـالمـرض ومن أشهرهـا الاختلافـات الجينيـة الموجودة علي الكروموسوم السادس في جينات معينةhumanleukocyticantigenHLA2DR,2D,2B,3A, وهناك أيضا إختلافات في الجينات المسئولة عن تصنيع بعض المـستقبلات الموجودة علي الخلايا ومـن أشهرها مستقبلات إنترلوكين2Interleukin2 ب وإنترلوكين7Interleukin.7
وقد لوحظ أن نسبة الإصابة بين الأقارب من الدرجة الاولي تكون أعليت نسبيا من مثيلاتها بين عامة اناس قد تصل إلي عشرين ضعفا, كما يلاحـظ أنه إذا أصيـب واحـد من التوأمـين المتماثلينidenticaltwins بالمرض فإن هناك إحتمالا بنسبة31% أن يصاب به الاخر, وهذه النسبة بالطبع أعلي بكثير من النسب الموجودة عند عامة الناس. ج- النظرية البيئية: التوزيـع الجـغرافي للمرض قـد يـعـطـي دليلا ما علي العلاقة بيـن الظـروف البيئية كالطقس والتعرض لأشعة الشمس وبالتالي نـسب تكوين فيتامين د في الجسم من نـاحية, وما بين الاصابة بالمرض من الناحية الاخري.وهناك مشاهدة غريبة حيث لوحظ أن نـسبة الإصابة بـالمرض فيمـن هاجـروا من مناطق قليلة الإصابة لنفترض مثلا من سكان دول خـط الاستـواء حيث تكاد تنعدم الإصابة بالتصلب المتعدد الي المنـاطق التي تكـثر فيها نسب الإصـابة ولنفترض دولة في شمال الكرة الارضية مثل أمريكا أو شمال أوروبا بشرط أن تكون الهجرة قد تمت قبل سن15 سنة, فإن نسب الاصـابة لهؤلاء المهاجريـن ترتفع لتصبح قريـبة من مثيـلاتها لدي السكـان الأصليين, أما اذا تمت الهجرة بعد هذا السن فإن المهاجر يحتفظ بالنسبة المنخفضة للإصابة كما في بلده الأصلي والعكس صحيح.
ب ـ النظرية الجرثومية: وتفترض هذه النظرية وجود عدوي ما( غالبا ما تكون فيروسية) تقوم بإحداث الإختلال المناعي الموجود.وتـدعم هذه النظرية بالتحاليل المعملية التي تبين أن الأفراد المصابين بالمرض غالبا ما يوجد لديهـم عند إجراء تحـاليل للـدم وللسـائل الشوكي المحيـط بالمخ نـسب عالية من الأجسـام المضادة لبعض الفيروسات مثل فيروس الحصبة(measles) أو فيروسات الهيربس(Herpesvirus) أو فيروس إبشتاين بارت(Epsteinbarrvirus).... وغيرها. كما تم اكتشاف بعض الفيروسات الحيوانية التي تسبب عند الحيوانات أمراضا عصبية يتم فيها تدمير غشاء الميلين, ولكن لم تكتشف مثل هذه الفيروسات عند البشر بعد.
المزيد من مقالات عبد الهادى مصباح<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
ساحة النقاش