الإسلام والدولة المدنية
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى
من ظن أن الإسلام يدعو إلي' الدولة الدينية' فقد نأي عن جادة الحق, وضل عن سواء السبيل, فأبسط ما يمكن أن يقال عن الدولة' الدينية' إن الحاكم فيها ـ أيا كانت ألقابه ـ يدعي أنه يستمد سلطانه من مصدر إلهي,
يمكنه من القبض بيديه علي صولجان السلطتين: المدينة والدينية معا, ويجعله مهيمنا علي رقاب' الرعية' الذين لا يملكون إزاءه سوي الطاعة المطلقة, دون اختيار أو مساءلة, ومن ثم تفقد تلك الرعية: حرية' الفعل' بعسف ذلك الحاكم وخسفه, كما تفقد حرية' العقل' لاعتقادها أن طاعة ذلك الحاكم: خضوع للمشيئة الإلهية, وعصيانه: تمرد علي تلك المشيئة!!
لا شيء من ذلك يدعو إليه الإسلام, بل لا شيء من ذلك إلا أنكره الإسلام, حتي إن المتأمل المنصف يكاد يلمس أن الإسلام يشيد نظامه السياسي علي النقيض من تلك الدولة الدينية خطوة إثر خطوة, حيث يقوم هذا النظام علي الاختيار الحر, والفصل بين السلطات, والضمان للحريات والتمتع بالحقوق والواجبات, والمساواة بين الناس أيا كانت دياناتهم, أو أجناسهم أو طبقاتهم, والحق الأصيل في محاسبة الحاكم ومراجعته ومراقبته, ولئن مرت في تاريخ الإسلام المديد فترات منيت فيها الأمة ببعض الحكام الذين مارسوا الاستبداد والطغيان: فقد كانوا يبتعدون عن الإسلام بمقدار ما يستبدون, وينأون عنه بمقدار ما يطغون!!
بيد أن أحد سدنة التنوير قد ذهب به الشطط مذهبا بعيدا حين خيل إليه أننا حين نرفض الدولة الدينية; ونرتضي الدولة المدنية بديلا عنها: فإننا بذلك نطرح' الدين' ذاته, فتصبح الدولة المدنية آنئذ كما يقول بالنص الحرفي' دولة لا دين لها',' فنسبة هذا الدين أو ذاك إلي الدولة نسبة لا معني لها'!!
ثم يبلغ به الشطط مداه حين يتابع قائلا: إن البديل هو أن' نهتدي بالمبادئ الكلية للأديان, وتجارب الإنسانية, وخبرات الشعوب'!!
بقدر من التأمل المتبصر في تلك الدعوة الصادمة نقول:
أولا: إنه من الواضح الجلي ما يكمن في خبيئة تلك الدعوة من إعادة للحديث عن المادة الثانية من الدستور بجميع عناصرها, تلك المادة التي اختارتها الأمة بملء إرادتها, ولا يماري أحد في أن مثل هذه الأقاويل تتضمن انتقاصا من حق أصيل من الحقوق الدستورية للأمة, فمن العجب إذن أن يتكرر الحديث عن تلك المادة بمناسبة وغير مناسبة وكأنها العقبة الكأداء أمام نيل الحريات وصيانة الحقوق مع أنها- عند أولي الأبصار- ضمان لتلك الحريات, وأمان لتلك الحقوق!!
ثانيا: إن الدعوة إلي' الدولة المدنية التي لا دين لها' كما يمثل نكوصا عن نص أصيل من النصوص الدستورية يتمتع بما يتمتع به سائر تلك النصوص من الثبات والاحترام: فإنه يمثل أيضا نكوصا عما أسماه جان جاك روسو في كتابه المشهور عن العقد الاجتماعي:' الإرادة العامة أو روح الجماعة', تلك التي لا تمثل ـ علي حد تعبيره ـ الإرادات الراهنة فحسب, بل تاريخ الجماعة الماضية, وأهدافها المستقبلية'.
ثالثا: إنه لو كانت قطعيات الإسلام وأصوله الثابتة و شريعته السمحة: قد احتوت علي ما يخدش مبدأ المساواة بين المواطنين متعددي الأديان, أو تضمنت ما يفسد التعايش معهم, أو اشتملت علي مبادئ تحول دون استيعاب حقوقهم الأساسية أو تفرق بينهم في الحقوق والواجبات, أو لو كان في تلك القطعيات الإسلامية ما يمكن أن يكون مصدرا لانبعاث' الدولة الدينية' بشرورها وويلاتها: لكانت الدعوة إلي' الدولة المدنية التي لا دين لها' أو الدعوة إلي إعادة النظر في المادة الثانية من الدستور: أمرا سائغا ومبررا, لكن تلك المحاذير جميعها لا مكان لها في دين تتضمن نصوصه المقدسة الواجبة الأتباع: ما يحض علي البر والقسط, وما يجمع النوع البشري كله تحت مظلة الإنسانية العامة, وما يدحض أضاليل' الدولة الدينية', ويكشف سوءاتها!!
رابعا: إن القول بإحلال المبادئ الكلية للأديان, وتجارب الإنسانية, وخبرات الشعوب:محل الدين: يعني من بين ما يعني: تذويب ما يتسم به الإسلام من الفوارق الجوهرية والإغضاء عما يستعصم به من المعتقدات الثابتة, وما يتميز به من المعالم الفاصلة, وذلك مطلب محكوم عليه بالفشل, لأنه يناقض التكوين الاعتقادي المغروس في بنية المسلم, أما القول بإحلال التجارب الإنسانية, وخبرات الشعوب محل الدين, فأي هذه التجارب والخبرات حينئذ يكون البديل عن' الدين' وهي متباينة متباعدة, بل متعددة متناقضة؟؟ وماذا سوف يتبقي من' مطلقية' القيم الأخلاقية وعموميتها في عالم لا نهتدي فيه إلا بتجارب وخبرات تتوغل فيها' النسبية' و'الذاتية' حتي منتهي منتهاها ؟؟
خامسا: إن كثيرا من دول العالم التي تقوم أنظمة الحكم فيها علي الدساتير الليبرالية والمبادئ المدنية لا تجد حرجا ولا شذوذا من النص في دساتيرها علي دين الأغلبية, دون أن يخل ذلك باحترامها للأديان الأخري, والأمثلة علي ذلك كثيرة في أنحاء متعددة من العالم, فلماذا هذا الإصرار العنيد علي إزاحة' الدين' من إطار الدولة المدنية التي لا تميز بين مواطنيها تبعا لأديانهم, وتتعامل مع مختلف أطيافهم بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات؟؟
فلنقل إننا نختار الدولة التي تكون فيها الأمة مصدر السلطات, والتي تحمي الحريات, وترعي حقوق المساواة بين المواطنين دون تمييز, كما تحرص علي مبدأ الفصل بين السلطات, أما أن نقول مع من يركبون متن الشطط:' إن تلك الدولة المدنية لا دين لها' فإننا نزرع حينئذ في طريقها بذور الشك والارتياب, ونظلمها بذلك ظلما مبينا.
* عضو مجمع البحوث الإسلامية
المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى
ساحة النقاش