إشراق‏..‏ أم تنوير؟‏!‏
بقلم: د.محمد عبدالفضيل القوصى
لايهدف هذا التساؤل إلي المقارنة بين لفظ ولفظ‏,‏ ولا إلي المفاضلة بين مصطلح ومصطلح‏,‏ وإنما يهدف الي إبراز الفجوة الهائلة بين مفهومين متعاكسين‏,‏ واتجاهين بينهما بعد المشرقين‏!!‏ فمفهوم الإشراق.

 

ذلك المفهوم الذي حمل لواءه ـ علي مدي تاريخ الفكر الاسلامي الحافل ـ مفكرون عظام‏,‏ من ذوي القامات السامقة‏:‏ يمثل تجسيدا حيا‏,‏ ومزجا خصيبا بين مايحمله الاسلام من نور النقل‏,‏ وضياء العقل‏,‏ وقبس البصيرة‏,‏ وطاقة الوجدان‏,‏ كما يمثل بالاضافة الي ذلك ذخيرة فعالة دافعة يمكن ان تشحذ عقول الأمة‏,‏ وتستحث إراداتها حين تفتر منها الهمة‏,‏ أو يصيبها التخلف والغفلة وحينئذ يتحول هذا الاشراق الي إحياء لما تيبس من العروق أو نضب من العزائم‏,‏ أو تراخي من الارادات‏!!‏
حسب المرء ههنا أن يستعيد الخطوط البارزة للمشروع الفكري عند أبي حامد الغزالي‏,‏ ثم عند الشاطبي‏,‏ ثم عند العز بن عبد السلام‏,‏ لكي يعثر لدي كل من هؤلاء علي جانب من جوانب هذا الاحياء‏,‏ بعد أن يضاف إلي تلك الجوانب تجارب العصر‏,‏ ودروس انكساراته وانتصاراته‏,‏ وكل ذلك في إطار من ثوابت الأمة‏,‏ وقطعياتها الراسخة‏.‏
أما مفهوم التنوير علي الضفة المقابلة فإنه يؤسس لقطيعة معرفية مع المعارف السابقة عليه‏,‏ سعيا لإحلال العقل بديلا عن النقل‏,‏ كما أن مفهوم التنوير فوق ذلك يسعي بكل دأب إلي تذويب كل مايميز الدين من خصائص ثابتة‏,‏ ومن معالم وتضاريس فارقة‏,‏ لكي يضحي الدين فضاء قابلا لكل تفسير لايتأبي‏,‏ ولايستعصم‏,‏ ثم يمسي ـ أعني الدين وقد استحال الي مجرد نصائح عامة غائمة هائمة‏,‏ لايفترق فيها دين عن دين‏,‏ ولاملة عن ملة‏,‏ والدين كما يسعي اليه سدنة التنوير‏:‏ لامناص له من أن يغمض العين عن كل مايتمايز به عن الآخر المختلف‏,‏ فالتمايز في زعمهم تشرذم‏,‏ والتعدد‏:‏ فتنة‏,‏ والمناعة الذاتية‏:‏ دعوة للعداء‏,‏ وترويج للتطرف‏,‏ وواجهة للتخلف‏!!!‏
ثم أقول شتان بين إشراق يتلمس السبيل الي المستقبل‏,‏ مستضيئا بمصابيح الهدي الإلهية المصدر‏,‏ وبين تنوير يهشم تلك المصابيح تهشيما‏,‏ ويستأنف البحث عن المستقبل من جديد‏,‏ وكأن لم يكن في ماضي الأمة إلا العدم والخواء وقبض الريح‏!!‏
ـ شتان بين إشراق يستعمل العقل والتجربة حيث ينبغي استعمال العقل والتجربة‏,‏ ويستند الي النص الثابت حيث يجب الاستهداء بالنص‏,‏ وبين تنوير يود لو أن بينه وبين النص أمدا بعيدا‏,‏ حتي يصبح العقل وحده هو الملجأ والملاذ‏,‏ والمرجع والمآب‏!!‏
شتان بين إشراق يستمسك فيه المسلم بما يميزه عمن عداه‏,‏ ويستعصم بما يحدد معالم هويته الاسلامية‏,‏ دون أن يصده ذلك عن معاملة المختلفين معه دينا وعقيدة بالعدل والنصفة‏,‏ والبر والقسط‏,‏ وبين تنوير يطمح إلي أن تذهب معالم الهوية أدراج الرياح‏,‏ وأن تمسخ كل جوانب المنعة الذاتية إلي غير رجعة‏!!‏
شتان بين إشراق يطمح إلي أن يتعايش المسلم المستمسك بأصول عقيدته مع المختلفين معه في العقائد تحت ظل وطن واحد يتساوون تحت سمائه حقا وواجبا‏,‏ وأملا وألما وبين تنوير يري أنه لاتعايش الا حين تذوب الهوية‏,‏ وتنمحي الذاتية‏,‏ ويزول التعدد‏,‏ وينتفي التمايز‏!‏
لقد ابتغت العولمة أن تصنع قريبا من هذا الصنيع لأسباب شتي وذلك بأن تجعل الأنماط الثقافية المتعددة‏:‏ نمطا واحدا‏,‏ وأن تصهرها جميعا في بوتقة القرية الكونية الواحدة‏,‏ فإذا بالإثنيات والعرقيات التي كانت هاجعة قابعة في ركن قصي من الذاكرة البشرية وقد استيقظت من سباتها‏,‏ فتناثرت الكيانات العظمي‏,‏ وانهارت السرديات الكبري‏,‏ واصطلي العالم بصراع ملتهب‏,‏ لايهدأ له أوار‏!!‏
والحق أن المرء لتعتريه الدهشة حين يخلط سدنة التنوير بين الاستمساك بمضامين العقيدة‏,‏ وثبات المقومات الدينية للمسلم في العقل الجمعي للأمة‏,‏ وبين التعصب والتطرف‏,‏ والعداء والتأزم‏,‏ والاحتقان والعنف‏,‏ في غفلة بائسة عن أن التعصب والتطرف ظاهرة متعددة الأعماق‏,‏ متشعبة الاسباب‏,‏ وفي غفلة بائسة ايضا عن أن الظاهرة الاجتماعية لايمكن أن تفسر علي وجهها الصحيح إلا بتحليل جميع العوامل التي تفاعلت لكي تنتجها‏,‏ وفي غفلة بائسة كذلك عن أن هذا الخلط ينطوي علي تبسيط فقير لظاهرة شديدة التعقيد‏,‏ تتأبي بطبيعتها علي أحادية النظرة‏,‏ وسطحية التناول‏!!‏
كما أن المرء لتعتريه الدهشة ايضا حين يريد سدنة التنوير أن تعالج الأمة الاسلامية مشكلاتها وتتخلص من أثقالها باستنساخ الحل الأوروبي الغربي المسيحي ذاته‏,‏ فتستعير نفس مقولاته وترتدي نفس أرديته‏,‏ وتخوض نفس معاركه تحت لافتة التنوير البراقة الخادعة‏.‏
ألم يكن العلامة ابن خلدون علي صواب حين كشف في مقدمته عن ولع المغلوب بتقليد الغالب‏,‏ والسير في ركابه‏,‏ والنسج علي منواله؟؟
 

 

المزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى<!-- AddThis Button BEGIN <a class="addthis_button" href="http://www.addthis.com/bookmark.php?v=250&pub=xa-4af2888604cdb915"> <img src="images/sharethis999.gif" width="125" height="16" alt="Bookmark and Share" style="border: 0" /></a> <script type="text/javascript" src="http://s7.addthis.com/js/250/addthis_widget.js#pub=xa-4af2888604cdb915"></script> AddThis Button END -->
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 129 مشاهدة
نشرت فى 17 يوليو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,764,061