الافتعال والحقيقة في الأزمة اليونانية(2 ـ2)
بقلم: أســـامــــة غــــيـــث
مع ازمة اليونان المالية وتداعياتها الاوروبية والعالمية قفز بشدة الي سطح التحليلات الدولية الرصينة احاديث مكثفة عن ظاهرة الافتعال في الأزمات علي امتداد الكرة الأرضية.
وبرزت احاديث تؤكد أن الأزمة تحتاج دائما إلي قرار مسبق من القوي العالمية المؤثرة والنافذة اكثر من احتياجها الي اسباب واقعية وعملية تدفع إلي الأزمة وتتسبب في حدوثها واشتعالها ومازالت هذه النوعية من التحليلات تكتفي فقط لا غير بطرح التساؤلات المشروعة ولا تصل الي حدود تعريف القوي العالمية الديناصورية الخفية التي تدير شئون العالم من خلف الستار او من فوق خشبة المسرح وتصدر تعليماتها وأوامرها النافذة الموهوبة الجانب والقابلة للتطبيق مهما كانت تكاليفها ومهما كانت نتائجها فادحة ومدمرة, ويرجع اصحاب هذه التحليلات تساؤلاتهم عن نظرية المؤامرة او التدبير غير المفهوم وغير المبرر الي أن الحالة اليونانية ليست هي الحالة الوحيدة الأوروبية التي تنطبق عليها مواصفات الترشح لاندلاع أزمة مالية كارثية بل يشاركها في نفس مواصفات الترشح العديد من الدول الاوروبية الأخري مثل إيطاليا وايرلندا واسبانيا والبرتغال وغيرها, ومع ذلك فإن احاديث الأزمة واحتدامها وتصاعدها تم فقط لا غير في نطاق الحدود اليونانية والأكثر اثارة للتساؤل أن الازمة تركت حتي اصابت اليورو بأضرار شديدة واثارت استفهامات جادة حول مستقبله كعملة اوروبية موحدة وتسببت في انهيارات عاصفة بأسواق المال العالمية واندفع الجميع في جميع قارات الدنيا إلي هاوية الذعر من كارثة مالية عالمية جديدة بالرغم من ضآلة وزن اليونان عالميا بمقاييس المال والاقتصاد والاستثمار والأعمال.
وقد طرحت صحيفة الفاينانشيال تايمز نموذجا لمعقولية وعدم معقولية الأزمات الكارثية بدول العالم المختلفة وهو نموذج يثبت بكل الوضوح أن درجة سلامة او عدم سلامة المؤشرات الاقتصادية والمالية للدولة لا يمكن أن يفسر فقط اندلاع الأزمة وكارثيتها واعتمد التحليل علي مقارنة مؤشرات الأرجنتين في عام2001 وقت تفجر ازمتها ووصول اوضاعها الاقتصادية والمالية في اشهر قليلة إلي مرحلة الانهيار التام والكامل في ظل الانهيار المروع لسعر صرف عملتها الوطنية مع ارتفاع التضخم لاكثر من عشرة آلاف في المائة والتوقف عن سداد الديون العامة والخاصة وانهيار الصناعة والتجارة والمصارف وتفشي البطالة وتكسير عظام الطبقة الوسطي والاتساع المدمر للفقر وقياسا بمؤشرات اليونان في ظل ازمتها الأخيرة فان المؤشرات المالية والاقتصادية فأن ازمة الارجنتين ما كان يجب أن تحدث علي الاطلاق وكأن الازمة لا تخضع لمنطق مالي واقتصادي محدود ومرسوم يمكن أن يكون مرجعية للباحثين والدارسين ويكون علامة فارقة بين الخطأ والصواب وفقا لمعايير علم الاقتصاد بجميع تفريعاته وتفصيلاته وبكل مناهج بحثه ونظرياته ومدارسه العالمية المختلفة.
دور قوي العالم الخفية في اشعال الحرائق المدمرة
وتكشف مؤشرات الارجنتين واليونان عن حقيقة دور القوة العالمية المؤثرة صاحبة الكلمة العليا والقرار الأول والأخير في صناعة الأزمات كما تطرح في نفس اللحظة تساؤلات عن تأثير وفعالية الاوضاع الداخلية للدول وتركيبة نظم الحكم ومؤسساته عن التسبب في اندلاع الأزمات الكارثية حتي لو كانت المؤشرات المالية والاقتصادية بعيدة عن الوصول الي مناطق الخطر والتلويح بشبح الازمة القادمة يضاف الي ذلك تساؤلات مشروعه لابد وأن تطرح نفسها عن ظواهر الفساد بطبيعتها وحدودها بكل معانيها السياسية والمالية والاجتماعية والاقتصادية ودورها في صناعة مناخ الأزمة وكان المؤشرات وحدها لاتنفع بل تدفع المحللين الاكاديميين والمتخصصين في شئون المال والاقتصاد الي نفق مظلم يدفعهم الي العجز الكامل عن التحليل الصحيح وعن التوصيف الدقيق ففي حالة الارجنتين لحظة اندلاع الأزمة كان العجز بالموازنة العامة لايتعدي3% من الناتج المحلي الاجمالي وهي النسبة المثالية التي حددتها اتفاقية ماستريخت للتأهل للأنضمام لعضوية العملة الاوروبية الموحدة وكانت المديونية العامة50% من الناتج المحلي الاجمالي وهي تقل عن المعدل المثالي الذي حددته الاتفاقية والبالغ60% يضاف الي ذلك أن معاناة الارجنتين فيما يخص ميزان المدفوعات والتعامل مع العالم الخارجي كانت لاتتعدي2% من الناتج المحلي الاجمالي.
وفي المقابل فإن المؤشرات اليونانية لحظة اندلاع الازمة كانت تقول بما يفوق معدلات الارجنتين اضعافا مضاعفة ويتعدي كافة القواعد التي وضعتها الاتفاقيات والمعاهدات الاوروبية واتفاقية ماستريخت المحددة لعضوية منطقة اليورو بأضعاف مضاعفة حيث أن العجز في ميزانية اليونان يبلغ13,6% من الناتج المحلي الاجمالي وحده الاقصي وفقا لقواعد عضوية اليورو3% فقط وهو ما يعني أن العجز اليوناني بلغ نحو اربعة اضعاف حدود الأمان الملزمة والواجبة اما الدين العام اليوناني فقد بلغت نسبته115% من الناتج المحلي الاجمالي بالمخالفة للقاعدة الاوروبية القائلة بأن الحد الاقصي60% فقط لاغير وهو ما يعني أن المديونية العامة لليونان تبلغ نحو ضعف الحد الاقصي الذي تضمنته اتفاقية ماستريخت وعلي الرغم من هذه التجاوزات المالية القارضة فان كل السلطات الاوروبية المختصة تغافلت عن الخلل وتصاعده واستمراره حتي وصل الي معدلات قياسية تتناقص بالتمام والكمال مع القواعد الواجبة الاحترام والا فقدت الدولة أهليتها لعضوية منطقة اليورو العمله الموحدة لأوروبا ويعني ذلك بكل ببساطة أن الأزمة اليونانية كان من الواجب أن تنفجر من سنوات طويلة حتي في ظل تزوير الحسابات القومية التي أخفت أزمة المؤشرات الاساسية مما يبرز علي السطح قضية أولوية العقاب السياسي فقط لا غير.
أزمة النمور الآسيوسة وأحاديث العقاب السياسي
وتطبيق نفس المنهج التحليلي علي أزمة النمور الاقتصادية الاسيوية في خريف عام1997 يؤكد نفس النتائج السابقة التي يؤكد عليها النموذجان الارجنتيني واليوناني المؤكدة أن الازمات لا تعكس دائما مبررات مالية واقتصادية فعلية ففي حالة النمور فإن النمور التي انهارت في نفس اللحظة والتوقيت ما كانت تتشارك في نفس درجة السوء والازعاج وفقا للمؤشرات المالية والاقتصادية وما كانت أيضا تتشارك في نفس التركيبة السياسية الداخلية وكانت هناك اختلافات واضحة في درجة تفشي الفساد والانحراف والرشوة وحدة الصراع الاجتماعي والأثني والعقيدي ففي الحالة الاندونيسية كانت مؤشرات الدولة الرئيسية وبالتالي حساباتها القومية وكذلك ميزانيات شركاتها ومنشآتها وفي مقدمتها المؤسسات المالية والمصارف مزورة وملفقة لا تعكس الواقع الفعلي وتصطنع واقعا وهميا وهي درجة من الفساد تشارك في صناعتها الحكومة والعام والخاص والسلطة السياسية العليا للدولة حتي إن الفساد والرشوة والانهيار السياسي كان علامة بارزة للدولة ونظام الحكم وكان الحال كذلك في تايلاند بالكثير من عمومياته وتفصيلاته ـ وهي مازالت تعاني من غالبية الأعراض والأمراض حتي يومنا هذا دون الحديث عن تفجر الأزمات المالية والاقتصادية بها ـ وكانت اندونيسيا وتايلاند تعيشان فوق مستنقع شديد العفونة والتلوث نتيجة للفساد الهائل للمعاملات المالية الذي تشارك فيه بشكل مبارك البنوك الدولية الكبري التي تتولي تدبير التمويل للقروض سيئة السمعة حيث كانت تقدم قروضا قصيرة الأجل بفائدة مرتفعة وآجال سداد قصيرة في الوقت الذي تدرك فيه تماما أن هذه القروض سيتم اعادة اقراضها في صورة قروض طويلة الأجل وبفائدة أقل وأن هناك رشوة متعارف عليها يتقاسمها المسئولون عن البنوك وغيرهم تبلغ25% من قيمة القروض علي الأقل وكأنها تسعيرة رسمية لتسهيل الأعمال تؤدي في النهاية للعجز الكامل عن سداد المديونية التي قامت حساباتها أصلا ومن الاساس علي تقديرات فاسدة ومضللة لابد وأن تظهر حقيقتها عندما تتسع حلقات العجز عن السداد بحكم أن من دفع رشوة للحصول علي قروض لابد أن يتعامل من منطلق الرشوة للتهرب من السداد وضمان الحماية من الملاحقة القانونية عالميا أن القانون غائب مع فساد سلطات الدولة والحكم وأجهزتها وفساد سلطات المؤسسات العامة والخاصة.
وفي مقابل هذه الصورة البشعة والمروعة لدول قائمة علي قاعدة وركيزة الفساد في جميع الأعمال والمعاملات مما يحتم حدوث الأزمة والكارثة كان هناك دولتين هما ماليزيا وكوريا الجنوبية اللتين جرفهما إعصار الأزمة الكارثية في طريقه كانتا خارج سياق الفساد الاندونيسي والتايلاندي بدرجة كبيرة وكان موقهما في سياق من الانضباط المالي والاقتصادي علي الأقل فيما يخص الحسابات القومية ومؤشرات الدولة الرئيسية بما يعني أنهما بحسابات الاقتصاد والمال الدقيقة خارج نطاق الطوفان وبعيدا عن مده وجزره ولكنهما اندفعا الي قلب العاصفة بمعدلات كارثية لا تقل كثيرا عن اندفاع اندونيسيا وتايلاند الي الهاوية وطفت نتيجة أحاديث علي السطح تتحدث عن عقاب سياسي لرئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد عقابا علي مواقفه الاقليمية والدولية ومواقفه في نطاق التجمع الاسلامي وتجمع الدول النامية مع تحقق الهدف المطلوب وأطاحت الأزمة ـ بعد فترة ـ بمهاتير محمد كرمز من رموز الدول النامية في زمن لا يعترف بالرموز وبالقادة وكانت التركيبة السياسية الكورية تحتاج ايضا الي اعادة ضبط وتنظيم من منظور القوي العالمية النافذة والمؤثرة ولكن هذه الاحاديث التي تتداخل فيها العوامل السياسية مع المؤشرات المالية الاقتصادية تلاشت بسرعة عن بؤرة الاحداث وكأن القوة القاهرة والآمرة عالميا لا تسمح بتداول هذه التحليلات بل تملك سلطة الدول وتتجاوز سيادتها وتضيف سلطة رقابة أصيلة الي سلطة الدولة الرقابية بل تملك القدرة علي تجاوزها وتوجيه الاحداث وفقا لمفهومها ومخططها وأولوياتها.
وقد حققت أزمة النمور الاسيوية مع اتساع نطاقها فرصة عملية للبنوك العالمية في مقدمتها البنوك الألمانية وكذلك البنوك الاسيوية وفي مقدمتها البنوك اليابانية أن تقوم بعملية تنظيف واسعة النطاق للقروض الرديئة بعد أن تصاعدت قيمتها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات بمعدلات ضخمة وبقفزات كبيرة متوالية في التسعينيات مع اتساع نطاق الاستثمار في النمور الآسيوية وغالبيته العظمي استثمارات خارجية خاصة في اندونيسيا وتايلاند وما تراكم عليه من مديونيات مشكوك في سداد الجزء الأكبر منها وكان لابد أن يتم تنظيف محافظ هذه البنوك من هذه الديون سيئة السمعة منعدمة الارتباط بالقواعد المصرفية السليمة للأقراض وما يعنيه ذلك من الحاجة الي تكوين احتياطيات ضخمة تبحث عن المبرر والسبب الظاهري المقنع وجاء طوق النجاة من الأزمة الآسيوية وانهيار المؤسسات المالية والمصارف وافلاسها وتوقفها الكامل عن سداد ديونها وحصلت بذلك المؤسسات المالية والبنوك العالمية علي طوق النجاة وحجة حشد الأموال للاصلاح لمواجهة الموقف الطاريء الكارثي وكان نفس السيناريو قد تكرر في الثمانينيات مع انفجار ازمة مديونية دول امريكا اللاتينية وخسائرها المروعة المقدرة بمئات المليارات من الدولارات.
أهمال خطط إنقاذ اليونان للأسباب الحقيقية للأزمة
وفي الأزمة اليونانية فإن تحليلات الإعلام العالمي الرصين والمتخصص لا تتفاءل كثيرا بخطة الانقاذ الضخمة البالغ قيمتها110 مليارا يورو خلال ثلاث سنوات يقدمها الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد الدولي ويرجع عدم التفاؤل والحذر الشديد في الترحيب بروشتة الاصلاح الي الشك في قدرة روشتات الاصلاح التقليدية الصادرة عن صندوق النقد الدولي والتي تعكس وصفة يمينية محافظة تنتمي الي الأصولية الرأسمالية ثبت عجزها علي امتداد ازمات دول العالم المختلفة وخلفت مآسي اجتماعية وانسانية واقتصادية فادحة كما حدث في البرازيل في الثمانينيات وكما حدث في الأزمة الاسيوية وكانت أكثر الدول سرعة في التعافي هي ماليزيا الرافضة تماما لوصفات الصندوق للاصلاح والعلاج وإصرارها علي تنفيذ مايخالفها مائة وثمانين درجة وكذلك عدم نجاح روشتة الصندوق في اصلاح ازمتي روسيا والارجنتين عام1998 وما لحق باقتصاد الدولتين من دمار وما لحق بالمقرضين الخارجيين من خسائر بالغة الضخامة.
كما تبدي التحليلات العالمية في جانب منها ـ تخوفها الشديد من التركيز علي الأزمة اليونانية باعتبارها أزمة سيولة مالية بالدرجة الأولي ووضع خطط الإنقاذ لتوفير المزيد من السيولة في حين أن طبيعة الأزمة اليونانية تؤكد انها اعمق من ذلك بكثير وانها ترتبط بالهيكل الاقتصادي والمالي لليونان وتراكمات المشاكل عبر سنوات طويلة إضافة لاتساع نطاق الفساد والرشوة وضخامة حجم التهرب الضريبي للقطاع الخاص وما يعنيه من نزيف مستمر للايرادات العامة الواجبة وتحذر هذه التحليلات من أن تخفيض عجز الموازنة العامة وما يعنيه من تخفيض الانفاق العام مع سعي الحكومة لفرض المزيد من الانضباط الضريبي علي القطاع الخاص لضمان تحصيل الايرادات الاكثر والأوفر سيؤدي بالضرورة الي فرض اوضاع الركود علي الاقتصاد اليوناني وتخفيض معدلات النمو وتراجع التجارة الخارجية وزيادة معدلات البطالة وهي جميعا مؤشرات سلبية لابد وأن تتسبب في تعميق المشاكل الهيكلية للاقتصاد وفي نفس الوقت فإن تحليلات صحيفة الفاينانشيال تايمز تشير إلي توالي ارتفاع الدين العام ووصوله الي148% من الناتج المحلي الاجمالي في عام2016 وهو ما يصل لضفي ونصف الضعف عن معدل اتفاقية ماستريخت للدين العام البالغ60% كحد اقصي مما يترك اليونان في قلب العاصفة ويتركها في خانة التصنيف بعدم الصلاحية للاستمرار في عضوية منطقة اليورو والاكثر خطورة ان ضخامة الدين العام ومايترتب عليه من اقساط وفوائد كبيرة لابد وأن تضغط علي الموازنة العامة وتهدد اي اصلاحات مالية لتخفيض عجزها بالفشل بل وقد يصل الحال الي دفع اليونان لاعلان الإفلاس الفعلي الذي تجاوزته خلال الازمة الراهنة
وتؤكد التحليلات ان خطة الانقاذ تجاهلت بشكل كامل مقتضيات الاصلاح الضرورية التي كانت تستوجب أن يتم اعادة جدوله المديونية العامة اليونانية القائمة بشكل كامل بما يضمن تخفيضها بصورة ملحوظة خاصة أنها مرتفعة وتبلغ حاليا115% من الناتج المحلي الاجمالي وتتسبب اقساطها واسعار فائدتها المرتفعة في اعباء كبيرة تؤدي لزيادة عجز الموازنة وتؤدي لمزيد من الأقراض والاستدانة لسداد مستحقات الدين الحالي في حلقة مفرغة كان لابد وان تضمن خطة الانقاذ الخروج منها كما حدث في العديد من حالات اعادة جدولة المديونية العامة للدول وما تضمنته من الاعتراف بضرورة تخفيض المديونيات الرسمية واعادة جدولة مدد السداد وتخفيض الفاتورة وكذلك الاعتراف بانخفاض القيمة السوقية للمديونية العامة المستحقة للبنوك والقطاع الخاص واعادة جدولتها وفقا لهذه القيم وليس وفقا للقيمة الاسمية الصادر بها السندات او التي تمت بناء عليها التعاقدات واعتبار ان هذا الاسلوب هو السبيل الوحيد لتخفيض الدين العام اليوناني والمساهمة في السيطرة علي عجز الموازنة العامة
ومما يدفع للحيرة ويثير بشكل متصل ومتواصل المزيد من علامات الاستفهام والشك في حقيقة وطبيعة الأزمات العالمية ووجود قوة خفية قادرة دائما علي اشعال الازمة أو إخمادها حتي في غياب المبررات الاقتصادية والمالية الموضوعية والعلمية الجدل الحاد حول قرارات الاصالح والانعاش المحورية واثارته بشكل فجائي مع الاعلان الاوروبي الصارخ بنهاية خطط التحفيز الاستثنائية مع تطبيق سياسات متشددة للاصلاح المالي وضبط عجز الموازنات العامة وتخفيض الدين العام بعد ان تصاعدت لمعدلات فلكية.
***
وما يرتبط بتعميق الحيرة واثارة علامات الاستفهام والتعجب لا يرتبط فقط بقرار إنهاء خطط الانقاذ الاستثنائية ولكن يرتبط بتوقيت الإنهاء في ظل ما أحدثته الازمة اليونانية من كوارث داخل البيت الأوروبي الواحد وايضا ما احدثته من كوارث لمنطقة اليورو, وادت لضعف سعر وتراجع الثقة به كعملة احتياطي دولية بديلة للدولار, ولكنه يرتبط ايضا وبالأساس بالتسرع والتعجل في الغاء خطط الانقاذ الاستثنائية التي تتضمن تيسيرات لمساندة المؤسسات المالية والبنوك وتوفير السيولة اللازمة لأعمالها ومعاملاتها بالرغم من كل المؤشرات التي تؤكد أن الوضع المالي الأوروبي والعالمي مازال بكل المعايير في مرحلة التعافي الهش وأن اوضاع المؤسسات المالية والبنوك مازالت بالتـأكيد في مرحلة حرجة ولم تتجاوز بالفعل مرحلة الخطر ودوائرها الحمراء.
وقد اصدر البنك المركزي الأوروبي يوم29 يونيو الماضي قرارا آثار الكثير من اللغط والجدل أوروبيا وعالميا بوقف التسهيلات الأئتمانية المقدمة للمؤسسات المالية في دول المجموعة منذ الأزمة العالمية بشروط ميسرة لمدة عام وبفائدة1% فقط كجناح رئيسي من أجنحة خطط التحفيز بعد أن وصلت معاملات البنوك الي درجة عالية وخطيرة من عدم الثقة وعدم الامان ووصلت المعاملات فيما بين البنوك بعضها البعض الي ما يشبه التوقف علي الرغم من أنها القاطرة الحقيقية لتوفير السيولة الآمنة في المعاملات فيما يسمي تقليديا الانتربنك وقد صدر القرار بصورة فجائية وتضمن عدم تجديد التسهيلات حال استحقاقها واستبدالها بتسهيلات لمدة ثلاثة أشهر فقط وهو ما يؤثر علي سيولة البنوك بشكل كبير مما يؤثر علي قدرتها في التعامل مع رصيد القروض القائم ويقلل من قدرتها علي تقديم القروض الجديدة التي يعاني الجميع من انخفاضها وعدم توافرها عند الحاجة إليها مما يؤثر سلبا علي الاستثمار والاعمال والمعاملات.
ومع صدور قرار البنك المركزي الأوروبي ظهر لأيام قليلة وكأن العالم مقدم بالفعل علي أزمة جديدة فقد انخفضت اسعار الاسهم عالميا الي ادني مستوي خلال الاشهر السبعة الأخيرة وانخفض اليورو امام الين الياباني الي معدلات غير مسبوقة منذ ثمانية اعوام ونصف كما انخفضت اسهم المؤسسات المالية والبنوك بحدة في البورصات وبلغ معدل انخفاضها في البورصات الاوروبية4.5% وفي امريكا4% ونتيجة لذلك تعمقت حالة عدم اليقين بالنسبة لمستقبل الاقتصاد العالمي والاصلاح المالي وكأن القوة الخفية صاحبة النفوذ والسلطان عالميا لم تتخذ قرارها النهائي حتي الآن وكأن أوضاع المعاناة من الأزمة واشباحها مازالت هي التفضيل الأنسب والاقرب لقناعات هذه القوة مهما كانت ضخامة الخسائر وكارثية فاتورة التكاليف التي لابد وان تذهب في نهاية الأمر الي جيوب البعض وتضاف الي رصيد ثرواتهم ونفوذهم وسلطانهم.. ؟!
المصدر: الافتعال والحقيقة في الأزمة اليونانية(2 ـ2)
بقلم: أســـامــــة غــــيـــث
مع ازمة اليونان المالية وتداعياتها الاوروبية والعالمية قفز بشدة الي سطح التحليلات الدولية الرصينة احاديث مكثفة عن ظاهرة الافتعال في الأزمات علي امتداد الكرة الأرضية.
وبرزت احاديث تؤكد أن الأزمة تحتاج دائما إلي قرار مسبق من القوي العالمية المؤثرة والنافذة اكثر من احتياجها الي اسباب واقعية وعملية تدفع إلي الأزمة وتتسبب في حدوثها واشتعالها ومازالت هذه النوعية من التحليلات تكتفي فقط لا غير بطرح التساؤلات المشروعة ولا تصل الي حدود تعريف القوي العالمية الديناصورية الخفية التي تدير شئون العالم من خلف الستار او من فوق خشبة المسرح وتصدر تعليماتها وأوامرها النافذة الموهوبة الجانب والقابلة للتطبيق مهما كانت تكاليفها ومهما كانت نتائجها فادحة ومدمرة, ويرجع اصحاب هذه التحليلات تساؤلاتهم عن نظرية المؤامرة او التدبير غير المفهوم وغير المبرر الي أن الحالة اليونانية ليست هي الحالة الوحيدة الأوروبية التي تنطبق عليها مواصفات الترشح لاندلاع أزمة مالية كارثية بل يشاركها في نفس مواصفات الترشح العديد من الدول الاوروبية الأخري مثل إيطاليا وايرلندا واسبانيا والبرتغال وغيرها, ومع ذلك فإن احاديث الأزمة واحتدامها وتصاعدها تم فقط لا غير في نطاق الحدود اليونانية والأكثر اثارة للتساؤل أن الازمة تركت حتي اصابت اليورو بأضرار شديدة واثارت استفهامات جادة حول مستقبله كعملة اوروبية موحدة وتسببت في انهيارات عاصفة بأسواق المال العالمية واندفع الجميع في جميع قارات الدنيا إلي هاوية الذعر من كارثة مالية عالمية جديدة بالرغم من ضآلة وزن اليونان عالميا بمقاييس المال والاقتصاد والاستثمار والأعمال.
وقد طرحت صحيفة الفاينانشيال تايمز نموذجا لمعقولية وعدم معقولية الأزمات الكارثية بدول العالم المختلفة وهو نموذج يثبت بكل الوضوح أن درجة سلامة او عدم سلامة المؤشرات الاقتصادية والمالية للدولة لا يمكن أن يفسر فقط اندلاع الأزمة وكارثيتها واعتمد التحليل علي مقارنة مؤشرات الأرجنتين في عام2001 وقت تفجر ازمتها ووصول اوضاعها الاقتصادية والمالية في اشهر قليلة إلي مرحلة الانهيار التام والكامل في ظل الانهيار المروع لسعر صرف عملتها الوطنية مع ارتفاع التضخم لاكثر من عشرة آلاف في المائة والتوقف عن سداد الديون العامة والخاصة وانهيار الصناعة والتجارة والمصارف وتفشي البطالة وتكسير عظام الطبقة الوسطي والاتساع المدمر للفقر وقياسا بمؤشرات اليونان في ظل ازمتها الأخيرة فان المؤشرات المالية والاقتصادية فأن ازمة الارجنتين ما كان يجب أن تحدث علي الاطلاق وكأن الازمة لا تخضع لمنطق مالي واقتصادي محدود ومرسوم يمكن أن يكون مرجعية للباحثين والدارسين ويكون علامة فارقة بين الخطأ والصواب وفقا لمعايير علم الاقتصاد بجميع تفريعاته وتفصيلاته وبكل مناهج بحثه ونظرياته ومدارسه العالمية المختلفة.
دور قوي العالم الخفية في اشعال الحرائق المدمرة
وتكشف مؤشرات الارجنتين واليونان عن حقيقة دور القوة العالمية المؤثرة صاحبة الكلمة العليا والقرار الأول والأخير في صناعة الأزمات كما تطرح في نفس اللحظة تساؤلات عن تأثير وفعالية الاوضاع الداخلية للدول وتركيبة نظم الحكم ومؤسساته عن التسبب في اندلاع الأزمات الكارثية حتي لو كانت المؤشرات المالية والاقتصادية بعيدة عن الوصول الي مناطق الخطر والتلويح بشبح الازمة القادمة يضاف الي ذلك تساؤلات مشروعه لابد وأن تطرح نفسها عن ظواهر الفساد بطبيعتها وحدودها بكل معانيها السياسية والمالية والاجتماعية والاقتصادية ودورها في صناعة مناخ الأزمة وكان المؤشرات وحدها لاتنفع بل تدفع المحللين الاكاديميين والمتخصصين في شئون المال والاقتصاد الي نفق مظلم يدفعهم الي العجز الكامل عن التحليل الصحيح وعن التوصيف الدقيق ففي حالة الارجنتين لحظة اندلاع الأزمة كان العجز بالموازنة العامة لايتعدي3% من الناتج المحلي الاجمالي وهي النسبة المثالية التي حددتها اتفاقية ماستريخت للتأهل للأنضمام لعضوية العملة الاوروبية الموحدة وكانت المديونية العامة50% من الناتج المحلي الاجمالي وهي تقل عن المعدل المثالي الذي حددته الاتفاقية والبالغ60% يضاف الي ذلك أن معاناة الارجنتين فيما يخص ميزان المدفوعات والتعامل مع العالم الخارجي كانت لاتتعدي2% من الناتج المحلي الاجمالي.
وفي المقابل فإن المؤشرات اليونانية لحظة اندلاع الازمة كانت تقول بما يفوق معدلات الارجنتين اضعافا مضاعفة ويتعدي كافة القواعد التي وضعتها الاتفاقيات والمعاهدات الاوروبية واتفاقية ماستريخت المحددة لعضوية منطقة اليورو بأضعاف مضاعفة حيث أن العجز في ميزانية اليونان يبلغ13,6% من الناتج المحلي الاجمالي وحده الاقصي وفقا لقواعد عضوية اليورو3% فقط وهو ما يعني أن العجز اليوناني بلغ نحو اربعة اضعاف حدود الأمان الملزمة والواجبة اما الدين العام اليوناني فقد بلغت نسبته115% من الناتج المحلي الاجمالي بالمخالفة للقاعدة الاوروبية القائلة بأن الحد الاقصي60% فقط لاغير وهو ما يعني أن المديونية العامة لليونان تبلغ نحو ضعف الحد الاقصي الذي تضمنته اتفاقية ماستريخت وعلي الرغم من هذه التجاوزات المالية القارضة فان كل السلطات الاوروبية المختصة تغافلت عن الخلل وتصاعده واستمراره حتي وصل الي معدلات قياسية تتناقص بالتمام والكمال مع القواعد الواجبة الاحترام والا فقدت الدولة أهليتها لعضوية منطقة اليورو العمله الموحدة لأوروبا ويعني ذلك بكل ببساطة أن الأزمة اليونانية كان من الواجب أن تنفجر من سنوات طويلة حتي في ظل تزوير الحسابات القومية التي أخفت أزمة المؤشرات الاساسية مما يبرز علي السطح قضية أولوية العقاب السياسي فقط لا غير.
أزمة النمور الآسيوسة وأحاديث العقاب السياسي
وتطبيق نفس المنهج التحليلي علي أزمة النمور الاقتصادية الاسيوية في خريف عام1997 يؤكد نفس النتائج السابقة التي يؤكد عليها النموذجان الارجنتيني واليوناني المؤكدة أن الازمات لا تعكس دائما مبررات مالية واقتصادية فعلية ففي حالة النمور فإن النمور التي انهارت في نفس اللحظة والتوقيت ما كانت تتشارك في نفس درجة السوء والازعاج وفقا للمؤشرات المالية والاقتصادية وما كانت أيضا تتشارك في نفس التركيبة السياسية الداخلية وكانت هناك اختلافات واضحة في درجة تفشي الفساد والانحراف والرشوة وحدة الصراع الاجتماعي والأثني والعقيدي ففي الحالة الاندونيسية كانت مؤشرات الدولة الرئيسية وبالتالي حساباتها القومية وكذلك ميزانيات شركاتها ومنشآتها وفي مقدمتها المؤسسات المالية والمصارف مزورة وملفقة لا تعكس الواقع الفعلي وتصطنع واقعا وهميا وهي درجة من الفساد تشارك في صناعتها الحكومة والعام والخاص والسلطة السياسية العليا للدولة حتي إن الفساد والرشوة والانهيار السياسي كان علامة بارزة للدولة ونظام الحكم وكان الحال كذلك في تايلاند بالكثير من عمومياته وتفصيلاته ـ وهي مازالت تعاني من غالبية الأعراض والأمراض حتي يومنا هذا دون الحديث عن تفجر الأزمات المالية والاقتصادية بها ـ وكانت اندونيسيا وتايلاند تعيشان فوق مستنقع شديد العفونة والتلوث نتيجة للفساد الهائل للمعاملات المالية الذي تشارك فيه بشكل مبارك البنوك الدولية الكبري التي تتولي تدبير التمويل للقروض سيئة السمعة حيث كانت تقدم قروضا قصيرة الأجل بفائدة مرتفعة وآجال سداد قصيرة في الوقت الذي تدرك فيه تماما أن هذه القروض سيتم اعادة اقراضها في صورة قروض طويلة الأجل وبفائدة أقل وأن هناك رشوة متعارف عليها يتقاسمها المسئولون عن البنوك وغيرهم تبلغ25% من قيمة القروض علي الأقل وكأنها تسعيرة رسمية لتسهيل الأعمال تؤدي في النهاية للعجز الكامل عن سداد المديونية التي قامت حساباتها أصلا ومن الاساس علي تقديرات فاسدة ومضللة لابد وأن تظهر حقيقتها عندما تتسع حلقات العجز عن السداد بحكم أن من دفع رشوة للحصول علي قروض لابد أن يتعامل من منطلق الرشوة للتهرب من السداد وضمان الحماية من الملاحقة القانونية عالميا أن القانون غائب مع فساد سلطات الدولة والحكم وأجهزتها وفساد سلطات المؤسسات العامة والخاصة.
وفي مقابل هذه الصورة البشعة والمروعة لدول قائمة علي قاعدة وركيزة الفساد في جميع الأعمال والمعاملات مما يحتم حدوث الأزمة والكارثة كان هناك دولتين هما ماليزيا وكوريا الجنوبية اللتين جرفهما إعصار الأزمة الكارثية في طريقه كانتا خارج سياق الفساد الاندونيسي والتايلاندي بدرجة كبيرة وكان موقهما في سياق من الانضباط المالي والاقتصادي علي الأقل فيما يخص الحسابات القومية ومؤشرات الدولة الرئيسية بما يعني أنهما بحسابات الاقتصاد والمال الدقيقة خارج نطاق الطوفان وبعيدا عن مده وجزره ولكنهما اندفعا الي قلب العاصفة بمعدلات كارثية لا تقل كثيرا عن اندفاع اندونيسيا وتايلاند الي الهاوية وطفت نتيجة أحاديث علي السطح تتحدث عن عقاب سياسي لرئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد عقابا علي مواقفه الاقليمية والدولية ومواقفه في نطاق التجمع الاسلامي وتجمع الدول النامية مع تحقق الهدف المطلوب وأطاحت الأزمة ـ بعد فترة ـ بمهاتير محمد كرمز من رموز الدول النامية في زمن لا يعترف بالرموز وبالقادة وكانت التركيبة السياسية الكورية تحتاج ايضا الي اعادة ضبط وتنظيم من منظور القوي العالمية النافذة والمؤثرة ولكن هذه الاحاديث التي تتداخل فيها العوامل السياسية مع المؤشرات المالية الاقتصادية تلاشت بسرعة عن بؤرة الاحداث وكأن القوة القاهرة والآمرة عالميا لا تسمح بتداول هذه التحليلات بل تملك سلطة الدول وتتجاوز سيادتها وتضيف سلطة رقابة أصيلة الي سلطة الدولة الرقابية بل تملك القدرة علي تجاوزها وتوجيه الاحداث وفقا لمفهومها ومخططها وأولوياتها.
وقد حققت أزمة النمور الاسيوية مع اتساع نطاقها فرصة عملية للبنوك العالمية في مقدمتها البنوك الألمانية وكذلك البنوك الاسيوية وفي مقدمتها البنوك اليابانية أن تقوم بعملية تنظيف واسعة النطاق للقروض الرديئة بعد أن تصاعدت قيمتها في عقدي الثمانينيات والتسعينيات بمعدلات ضخمة وبقفزات كبيرة متوالية في التسعينيات مع اتساع نطاق الاستثمار في النمور الآسيوية وغالبيته العظمي استثمارات خارجية خاصة في اندونيسيا وتايلاند وما تراكم عليه من مديونيات مشكوك في سداد الجزء الأكبر منها وكان لابد أن يتم تنظيف محافظ هذه البنوك من هذه الديون سيئة السمعة منعدمة الارتباط بالقواعد المصرفية السليمة للأقراض وما يعنيه ذلك من الحاجة الي تكوين احتياطيات ضخمة تبحث عن المبرر والسبب الظاهري المقنع وجاء طوق النجاة من الأزمة الآسيوية وانهيار المؤسسات المالية والمصارف وافلاسها وتوقفها الكامل عن سداد ديونها وحصلت بذلك المؤسسات المالية والبنوك العالمية علي طوق النجاة وحجة حشد الأموال للاصلاح لمواجهة الموقف الطاريء الكارثي وكان نفس السيناريو قد تكرر في الثمانينيات مع انفجار ازمة مديونية دول امريكا اللاتينية وخسائرها المروعة المقدرة بمئات المليارات من الدولارات.
أهمال خطط إنقاذ اليونان للأسباب الحقيقية للأزمة
وفي الأزمة اليونانية فإن تحليلات الإعلام العالمي الرصين والمتخصص لا تتفاءل كثيرا بخطة الانقاذ الضخمة البالغ قيمتها110 مليارا يورو خلال ثلاث سنوات يقدمها الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد الدولي ويرجع عدم التفاؤل والحذر الشديد في الترحيب بروشتة الاصلاح الي الشك في قدرة روشتات الاصلاح التقليدية الصادرة عن صندوق النقد الدولي والتي تعكس وصفة يمينية محافظة تنتمي الي الأصولية الرأسمالية ثبت عجزها علي امتداد ازمات دول العالم المختلفة وخلفت مآسي اجتماعية وانسانية واقتصادية فادحة كما حدث في البرازيل في الثمانينيات وكما حدث في الأزمة الاسيوية وكانت أكثر الدول سرعة في التعافي هي ماليزيا الرافضة تماما لوصفات الصندوق للاصلاح والعلاج وإصرارها علي تنفيذ مايخالفها مائة وثمانين درجة وكذلك عدم نجاح روشتة الصندوق في اصلاح ازمتي روسيا والارجنتين عام1998 وما لحق باقتصاد الدولتين من دمار وما لحق بالمقرضين الخارجيين من خسائر بالغة الضخامة.
كما تبدي التحليلات العالمية في جانب منها ـ تخوفها الشديد من التركيز علي الأزمة اليونانية باعتبارها أزمة سيولة مالية بالدرجة الأولي ووضع خطط الإنقاذ لتوفير المزيد من السيولة في حين أن طبيعة الأزمة اليونانية تؤكد انها اعمق من ذلك بكثير وانها ترتبط بالهيكل الاقتصادي والمالي لليونان وتراكمات المشاكل عبر سنوات طويلة إضافة لاتساع نطاق الفساد والرشوة وضخامة حجم التهرب الضريبي للقطاع الخاص وما يعنيه من نزيف مستمر للايرادات العامة الواجبة وتحذر هذه التحليلات من أن تخفيض عجز الموازنة العامة وما يعنيه من تخفيض الانفاق العام مع سعي الحكومة لفرض المزيد من الانضباط الضريبي علي القطاع الخاص لضمان تحصيل الايرادات الاكثر والأوفر سيؤدي بالضرورة الي فرض اوضاع الركود علي الاقتصاد اليوناني وتخفيض معدلات النمو وتراجع التجارة الخارجية وزيادة معدلات البطالة وهي جميعا مؤشرات سلبية لابد وأن تتسبب في تعميق المشاكل الهيكلية للاقتصاد وفي نفس الوقت فإن تحليلات صحيفة الفاينانشيال تايمز تشير إلي توالي ارتفاع الدين العام ووصوله الي148% من الناتج المحلي الاجمالي في عام2016 وهو ما يصل لضفي ونصف الضعف عن معدل اتفاقية ماستريخت للدين العام البالغ60% كحد اقصي مما يترك اليونان في قلب العاصفة ويتركها في خانة التصنيف بعدم الصلاحية للاستمرار في عضوية منطقة اليورو والاكثر خطورة ان ضخامة الدين العام ومايترتب عليه من اقساط وفوائد كبيرة لابد وأن تضغط علي الموازنة العامة وتهدد اي اصلاحات مالية لتخفيض عجزها بالفشل بل وقد يصل الحال الي دفع اليونان لاعلان الإفلاس الفعلي الذي تجاوزته خلال الازمة الراهنة
وتؤكد التحليلات ان خطة الانقاذ تجاهلت بشكل كامل مقتضيات الاصلاح الضرورية التي كانت تستوجب أن يتم اعادة جدوله المديونية العامة اليونانية القائمة بشكل كامل بما يضمن تخفيضها بصورة ملحوظة خاصة أنها مرتفعة وتبلغ حاليا115% من الناتج المحلي الاجمالي وتتسبب اقساطها واسعار فائدتها المرتفعة في اعباء كبيرة تؤدي لزيادة عجز الموازنة وتؤدي لمزيد من الأقراض والاستدانة لسداد مستحقات الدين الحالي في حلقة مفرغة كان لابد وان تضمن خطة الانقاذ الخروج منها كما حدث في العديد من حالات اعادة جدولة المديونية العامة للدول وما تضمنته من الاعتراف بضرورة تخفيض المديونيات الرسمية واعادة جدولة مدد السداد وتخفيض الفاتورة وكذلك الاعتراف بانخفاض القيمة السوقية للمديونية العامة المستحقة للبنوك والقطاع الخاص واعادة جدولتها وفقا لهذه القيم وليس وفقا للقيمة الاسمية الصادر بها السندات او التي تمت بناء عليها التعاقدات واعتبار ان هذا الاسلوب هو السبيل الوحيد لتخفيض الدين العام اليوناني والمساهمة في السيطرة علي عجز الموازنة العامة
ومما يدفع للحيرة ويثير بشكل متصل ومتواصل المزيد من علامات الاستفهام والشك في حقيقة وطبيعة الأزمات العالمية ووجود قوة خفية قادرة دائما علي اشعال الازمة أو إخمادها حتي في غياب المبررات الاقتصادية والمالية الموضوعية والعلمية الجدل الحاد حول قرارات الاصالح والانعاش المحورية واثارته بشكل فجائي مع الاعلان الاوروبي الصارخ بنهاية خطط التحفيز الاستثنائية مع تطبيق سياسات متشددة للاصلاح المالي وضبط عجز الموازنات العامة وتخفيض الدين العام بعد ان تصاعدت لمعدلات فلكية.
***
وما يرتبط بتعميق الحيرة واثارة علامات الاستفهام والتعجب لا يرتبط فقط بقرار إنهاء خطط الانقاذ الاستثنائية ولكن يرتبط بتوقيت الإنهاء في ظل ما أحدثته الازمة اليونانية من كوارث داخل البيت الأوروبي الواحد وايضا ما احدثته من كوارث لمنطقة اليورو, وادت لضعف سعر وتراجع الثقة به كعملة احتياطي دولية بديلة للدولار, ولكنه يرتبط ايضا وبالأساس بالتسرع والتعجل في الغاء خطط الانقاذ الاستثنائية التي تتضمن تيسيرات لمساندة المؤسسات المالية والبنوك وتوفير السيولة اللازمة لأعمالها ومعاملاتها بالرغم من كل المؤشرات التي تؤكد أن الوضع المالي الأوروبي والعالمي مازال بكل المعايير في مرحلة التعافي الهش وأن اوضاع المؤسسات المالية والبنوك مازالت بالتـأكيد في مرحلة حرجة ولم تتجاوز بالفعل مرحلة الخطر ودوائرها الحمراء.
وقد اصدر البنك المركزي الأوروبي يوم29 يونيو الماضي قرارا آثار الكثير من اللغط والجدل أوروبيا وعالميا بوقف التسهيلات الأئتمانية المقدمة للمؤسسات المالية في دول المجموعة منذ الأزمة العالمية بشروط ميسرة لمدة عام وبفائدة1% فقط كجناح رئيسي من أجنحة خطط التحفيز بعد أن وصلت معاملات البنوك الي درجة عالية وخطيرة من عدم الثقة وعدم الامان ووصلت المعاملات فيما بين البنوك بعضها البعض الي ما يشبه التوقف علي الرغم من أنها القاطرة الحقيقية لتوفير السيولة الآمنة في المعاملات فيما يسمي تقليديا الانتربنك وقد صدر القرار بصورة فجائية وتضمن عدم تجديد التسهيلات حال استحقاقها واستبدالها بتسهيلات لمدة ثلاثة أشهر فقط وهو ما يؤثر علي سيولة البنوك بشكل كبير مما يؤثر علي قدرتها في التعامل مع رصيد القروض القائم ويقلل من قدرتها علي تقديم القروض الجديدة التي يعاني الجميع من انخفاضها وعدم توافرها عند الحاجة إليها مما يؤثر سلبا علي الاستثمار والاعمال والمعاملات.
ومع صدور قرار البنك المركزي الأوروبي ظهر لأيام قليلة وكأن العالم مقدم بالفعل علي أزمة جديدة فقد انخفضت اسعار الاسهم عالميا الي ادني مستوي خلال الاشهر السبعة الأخيرة وانخفض اليورو امام الين الياباني الي معدلات غير مسبوقة منذ ثمانية اعوام ونصف كما انخفضت اسهم المؤسسات المالية والبنوك بحدة في البورصات وبلغ معدل انخفاضها في البورصات الاوروبية4.5% وفي امريكا4% ونتيجة لذلك تعمقت حالة عدم اليقين بالنسبة لمستقبل الاقتصاد العالمي والاصلاح المالي وكأن القوة الخفية صاحبة النفوذ والسلطان عالميا لم تتخذ قرارها النهائي حتي الآن وكأن أوضاع المعاناة من الأزمة واشباحها مازالت هي التفضيل الأنسب والاقرب لقناعات هذه القوة مهما كانت ضخامة الخسائر وكارثية فاتورة التكاليف التي لابد وان تذهب في نهاية الأمر الي جيوب البعض وتضاف الي رصيد ثرواتهم ونفوذهم وسلطانهم.. ؟!
http://www.ahram.org.eg/230/2010/07/17/5/29677.aspx
ساحة النقاش