التعتيم الاجتماعي
بقلم: د. نسمة البطريق
لاشك ان التقدم في العلوم والتكنولوجيا, خاصة فيما يتعلق بتكنولوجيا الاعلام والاتصال الجماهيري وصناعة المعرفة ونشرها هي نعمة كبيرة, لم تكن لتتحقق إلا بالعمل والاتقان .
ومستوي لائق من التطور العلمي والحضاري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي, فالدول المتقدمة الصناعية في الغرب لم تصل إلي هذا المستوي الفكري والعلمي والتكنولوجي إلا من خلال الرغبة في التقدم.
فما حققته من إنجازات علمية وصناعية وتكنولوجية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية كان هائلا, خاصة منذ أوائل التسينيات من القرن العشرين في مجالات التكنولوجيا وعلوم الفضاء وصناعة الأقمار الصناعية التي أصبحت أحد أهم وسائل نقل المعارف والمعلومات والثقافات, وأتاحت مجالات عديدة أفادت كثيرا البشرية, فطورت من شكل ومضمون المعرفة وساهمت في مزيد من التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وبصفة خاصة في تنمية معارف الانسان, فهي نعمة حقيقية لايمكن إنكارها, فكما أن التقدم التكنولوجي يساهم مساهمة فعالة في مزيد من تنمية قدرات الانسان الخلاقة وتمكنه من سيطرة أكبر علي قوانين الطبيعة وتحقيق الوفرة الانتاجية في المجتمع فإن تحقيق كل ذلك مرهون ومشروط بتوافر بيئة اجتماعية وفكرية دافعة علي مواصلة التقدم والعمل والابتكار والنهضة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وسيادة القانون والعدل الاجتماعي وصيانة حق الشعوب في المعرفة, معرفة الحقيقة بكل جوانبها.
تلك النعمة قد تنقلب إلي نقمة وتصبح وبالا, وأحد أسباب التعتيم الاجتماعي والتراجع الثقافي والفكري وأداة من أدوات السيطرة والتسلط والتبعية الثقافية والعلمية والسياسية, وذلك اذا سادت بيئة لاتمكن الانسان في المجتمع من الترقي والتنمية والنهوض والحماية, بيئة تتعامل مع وسائل تكنولوجية متقدمة دون أن تنمي تلك الطاقات البشرية وتعمل علي إصلاح مقومات نهضتها وتطورها, فالدول النامية العربية والافريقية دول قضت عقودا عديدة من عمر شعوبها تبحث عن مسار للنهوض والتطور اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا دون أن تجني شيئا من هذا السباق سوي مزيد من التفتت والانقسام في الداخل, ومزيد من اتساع الهوة التي تباعد بينها وبين الدول الكبري وبين دول أخري عاشت ظروفا مماثلة كالهند والصين وغيرها.. ولكنها حققت قدرا كبيرا من التقدم بالرغم من ظروفها التي تماثلت مع غيرها من الدول النامية وبدأت طريق التنمية في ذات التاريخ..
فلتراجع العديد من مشروعات التنمية الخلاقة بالنسبة لعدد كبير من دول منطقتنا العربية أثره الكبير في مزيد من اتساع الهوة بينها وبين الدول المتقدمة في العلوم والتكنولوجيا, خاصة أن الدول المتقدمة انطلقت بقوة في مجالات عديدة خاصة التقدم المذهل منذ ستينيات القرن الماضي في صناعة تكنولوجيا الأقمار الصناعية, خاصة تكنولوجيا الإعلام والاتصال الجماهيري, كصناعات أدخلت علي مجتمعاتنا وننفق الكثير من دخلنا القومي لاقتنائها فإستغلت في أغلب الاحيان ليس لتنمية قدرات الأفراد, ولكن للترفيه اللاواعي وتصبح عندئذ أدوات لتسطيح العقول والتكاسل الفكري خاصة بين الشباب والأطفال, فاستغلت مؤسسات الاعلام والاتصال الجماهيري الكبري الغربية هذا التقدم التكنولوجي والعلمي في ظل تلك الظروف التراجعية في دولنا إلي إحكام سيطرتها ليس فقط في مجالات تصدير تكنولوجيا الاعلام ووسائلها المتعددة بل إلي السيطرة الاقتصادية علي الدول النامية فأصبح التطور العلمي والتكنولوجي والصناعي في مجالات تكنولوجيا الاعلام ووسائل الاتصال والثقافة إحدي أدوات تهديد الأمن الثقافي والاقتصادي والأيديولوجي لعدم قدرة تلك الدول النامية علي توظيف هذه النظم بطريقة تنمي فكر شعوبها التي تراجعت في مجالات عديدة, فأصبح المجال مفتوحا لمزيد من السيطرة عن طريق إعادة تشكيل الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في تلك الدول النامية لمنح الأولوية المطلقة لفلسفة الاقتصاد الحر الاستهلاكي ولاتاحة الفرصة لاستمرار مظاهر التبعية ليس فقط الاقتصادية والثقافية والمعرفية بل والسياسية داخل البيئة الاجتماعية والاقتصادية للدول النامية والعربية.
ولقد أدي هذا الوضع اللاتوازني إلي أن أصبح اقتناء التكنولوجيا لايخدم التقدم والتنمية الفكرية ولا يصون حق الشعب والأمة في عالمنا النامي في المعرفة.
فبدلا من أن توظف تكنولوجيا العلوم والاعلام التي تشتري بأموال طائلة من الغرب لخدمة التقدم والتنمية الفكرية للانسان ولصالح كل الجماعات والفئات في المجتمع ولصيانة حق الفرد في معرفة تراثه وتاريخه والحقائق المتعددة, تصبح التكنولوجيا والعلوم في مجالات نشر المعرفة واحتكارها من قبل قلة إحدي أدوات القهر والتراجع الاجتماعي والفكري. وإحدي أدوات الدعاية الكاذبة وتغييب الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي, فأدي كل ذلك إلي غياب الحوار شبه الكامل بين الثقافات المختلفة بين الدول العربية والنامية بصفة عامة, والدول المتقدمة في الشرق والغرب, والي صعوبة تكوين أنظمة ثقافية وإعلامية للاتصال والمعلومات قادرة علي نشر ثقافتها وتعني بأهداف التنمية خاصة تنمية المعرفة وتراث أمتنا الفكرية والعلمية.
فالنعم والأدوار الوظيفية لوسائل الاعلام الوطنية التي يمكن الحصول عليها في دول العالم العربي من التطور العلمي والتكنولوجي لايمكن قياسها من خلال كم ما تنفقه دولنا من أموال علي شراء هذه التكنولوجيا المتقدمة خاصة في مجالات وسائل الاعلام والاتصال الجماهيري ولكن تقاس تلك النعم علي ما تنشره تلك الوسائل من مضمون ومعلومات ومعارف قادرة علي التنمية والتحضر.
ساحة النقاش