طبقـات فحـول الشعـراء

الرجوع إلى قائمة المقالات

 

 

 

 

طبقـات فحـول الشعـراء

عرض وتحليل ونقد

 

 

 

 

 

د. نبيل خالد أبو على

أستاذ النقد الأدبي المشارك

الجامعة الإسلامية ـ غـزة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ملخـص

        قد تبدو العودة إلى كتاب طبقات فحول الشعراء ودراسته من جديد مستغربة بعد تلك الدراسات العديدة التي تعرضت له ؛ التي جاءت في معظمها في بطون كتب النقد كجزء ضروري لتمثيل بدايات التأليف النقدى .

        ولكن الأكثر غرابة حقاً ألاَّ نجد دراسة متأنية تحاول استكناه حقيقة الكتاب والوقوف على ماهية ضوابط ابن سلام النقدية ؛ التي كانت في نهاية المطاف أبلغ تصوير لحالة النقد الأدبي في صورته الأولى المنظمة .

        لذلك استعرضت هذه الدراسة مختلف المباحث والقضايا التي عالجها الكتاب ، واهتمت بالقضايا الأدبية والنقدية منها واعتنت بتحليلها وإبداء الرأي فيها ، وقد حرص الباحث على الكشف عن ماهية مقاييس ابن سلام النقدية ومدى موضوعيتها ، واستجلاء حقيقة مقاييس الجودة التي اعتمدها ابن سلام في تصنيف فحول الشعراء وإنزالهم منازلهم من طبقاته ، ثم إبداء الرأي في تلك الطبقات ومناقشتها في ضوء منجزات الحركة النقدية والتنبيه على أوجه القصور ومواطن الإصابة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أمـا قبـل :

        فقد حظي كتاب ابن سلام باهتمام كثيرٍ من النقاد والدارسين ، وأكاد أزعم أنه لا يخلو كتاب في النقد أو الأدب من ذكر ابن سلام وطبقاته . وقد وقفت على العديد من تلك الكتب التي تعرض أصحابها لطبقات ابن سلام ، ورأيت أن بعضهم كان مدفوعاً وهو يتحدث عن النقد الأدبي عند العرب إلى التعرض لذكر مصنف ابن سلام لأنه فقط يمثل البداية التي لا يمكن إغفالها ، ولمّا كانت العجالة هي سمة تلك الدراسات فإن أصحابها تسرعوا في إصدار الأحكام وأغفلوا بعض جوانب الكتاب وقضاياه الهامة([1]).

        أما البعض الآخر فكان أكثر عناية بالكتاب ومباحثه ، إذ دفعهم الإعجاب بمقدمة ابن سلام النظرية وعقليته العلمية ـ على حد رأيهم ـ إلى تناول قضايا الكتاب وإظهار الرأي فيها . ولأنهم ـ في الغالب ـ اتبعوا الطريقة الانتقائية فيما تناولوا من قضايا الكتاب ، واستغنوا ـ غالباً ـ بما أجمله ابن سلام في مقدمته عن البحث في ثنايا الكتاب ، فقصروا في البحث عن مقاييس ابن سلام النقدية أو بعضها ، وأغفلوا ذكر بعض القضايا التي يعد ابن سلام أبا عُذْرَتِها([2]) ، رأيت لكل ذلك وبعد طول نظر أن أحبّر هذا البحث الذي يستعرض أبواب الكتاب وفصوله ، ويقف على مباحثه وقفات منقرة ، ويناقش قضاياه النقدية ، ويبين ما لها وما عليها ، ويحاول الوقوف على ما استقر في ثناياه من ضوابط النقد الأدبي ومعاييره الفنية .

*     *     *

محمد بن سلام :

        هو أبو عبد الله محمد بن سلاّم بن عبيد الله بن سالم الجمحىّ البصرىّ ، مولى قُدامة بن مظعون الجمحىّ بالولاء، ولد بالبصرة سنة 139 هجرية ، 756 ميلادية ، وتوفى في بغداد سنة 232 هجرية ،847 ميلادية . نشأ في البصرة بيئة علماء العربية الأوائل وفحولها ، والتقى كثيراً من علماء اللغة والنحو ورواة الأدب والأخبار الثقات ، وسمع من شيوخ العلم والحديث والأدب وروى عنهم ، فحدّث عن حماد بن سلمة ، ومبارك بن فَضَالة ، وزائدة بن أبى الرُّقاد ، وأبى عَوَانة ، والأصمعى ، وأبى عبيدة...

   وقد اشتهر بسعة علمه وصدق روايته ، وممن روى عنه من الثقات : أحمد بن يحى ثعلب ، وأبو حاتم السجستانى ، وأبو الفضل الرياشى ، والمازنى ، والزيادىّ ، وأحمد بن حنبل ، وابنه عبد الله بن أحمد ، وأبو خليفة الجمحى . وقد ذكر صاحب الفهرست أن لابن سلاّم إلى جانب " كتاب طبقات فحول الشعراء " ثلاثة كتب أخرى هى : الفاصل في مُلَح الأخبار والأشعار، وبيوتات العرب ، والحلاب وأجر الخيل ، وأضاف ياقوت كتاباً رابعاً هو: غريب القرآن([3]).

        إن كتاب طبقات فحول الشعراء من أقدم كتب النقد الأدبي([4]) ، ومؤلفه من أوائل النقاد الذين اعتنوا بالشعر والشعراء ؛ فهو أول من خص النقد الأدبي بدراسة مستقلة بعد أن كان جُملاً وفقرات متناثرة في بطون الكتب([5]) .

ماهيـة الكتـاب :

        افتتح ابن سلام كتابه بمقدمة قيِّمة تعكس أهمية الكتاب وغايته ومنهجه ، أما أهمية الكتاب فتتجلى في عدة أمور ؛ منها : اهتمامه بالشعر العربى القديم ، وحيوات قائليه وأحوالهم ، يقول : " ذكرنا العرب وأشعارها ، والمشهورين المعروفين من شعرائها وفرسانها وأشرافها وأيامها ، إذ كان لا يحاط بشعر قبيلة واحدة من قبائل العرب ، وكذلك فرسانها وساداتها وأيامها ، فاقتصرنا من ذلك على مالا يجهله عالم ، ولا يستغنى عن علمه ناظر في أمر العرب ، فبدأنا بالشعر([6]) " .

وهو في عمله هذا لا يهدف إلى جمع أشعار القدماء والحديث عن أخبارهم وأيامهم فحسب ، بل إن هدفه الرئيس هو تخليص ذلك الشعر مما علق به من شوائب ، وما أضيف عليه من مصنوع مُفْتَعَلٍ ، ثم التنبيه على مكانة كل شاعر ومنزلته بين شعراء عصره .

        ولكى يحقق ابن سلام هذه الغاية نراه قد استعرض معظم المقاييس النقدية التي كانت سائدة في عصره ، ثم حدد بعض الثوابت التي سيأخذ بها ؛ من ذلك ما نراه من تبرير رفضه الأخذ بما ورد في بطون الكتب من أشعار ، يقول : " وقد تداوله قوم ـ أى الشعر ـ من كتابٍ إلى كتابٍ ، لم يأخذوه عن أهل البادية ، ولم يعرضوه على العلماء . وليس لأحد ـ إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شئ منه ـ أن يَقبل من صحيفة ، ولا يروى عن صُحُفى([7]) " ، ومنها ما نراه من اِلتزامه برأى الجماعة حين يقول : " وقد اختلفت العلماء بعد في بعض الشعر ، كما اختلفت في سائر الأشياء ، فأما ما اتفقوا عليه ، فليس لأحد أن يخرج منه([8]) " . ثم تحدث عن أهمية عمل الناقد وما ينبغى أن يتزود به من صنوف العلم والثقافة ، إضافة إلى الذوق والفطرة ؛ والدربة والممارسة([9]) ، وذلك لكى يتمكن من القيام بالمهام الملقاة على عاتقه ، والتى منها إضافة إلى تمييز الجيد من الردئ ؛ تخليص ذلك الشعر مما دخله من مصنوع .

        وفى مقدمة كتابه تحدث أيضاً عن الكثير من الأمور التي تتعلق بالشعر وبداياته ، وبعض ما أصابه من عيوب وآفات تتعلق بالنشأة الأولى وتدلل عليها ، وأبرز أخبار الشعر والشعراء ، وما طرأ على الشعر في الإسلام .. ، وكذلك اللغة العربية وأول من تحدث بها ، والنحو العربى ونشأة مباحثه وتطورها .. ، وقبل أن يشرع في بناء طبقاته حدد المنهج الذى سيسير عليه بقوله  : " .. فاقتصرنا من الفحول المشهورين على أربعين شاعراً ، فألَّفْنا مَنْ تشابه شعره منهم إلى ُنَظرائه ، فوجدناهم عشر طبقات ، أربعة رهط كل طبقة ، مُتَكافِئين مُعْتِدلين .([10])" ، وقال في موضع آخر : " .. ثم إنا اقتصرنا ـ بعد الفحص والنظر والرواية عمن مضى من أهل العلم ـ إلى رَهْطٍ أربعة ، اجتمعوا على أنهم أشعر العرب طبقة ، ثم اختلفوا فيهم بَعْدُ . وسنسوق اختلافهم واتفاقهم ، ونسمِّى الأربعة، ونذكر الحجة لكل واحد منهم ـ وليس تَبْدِئَتُنَا أحدهم في الكتاب نحكم له ، ولا بد من مبتدأٍ ـ ونذكر من شعرهم الأبيات التي تكون في الحديث والمعنى([11]) .

القضايا النقدية التي تناولها ابن سلام في طبقاته

أولاً : قضية الانتحال:

        تعد قضية الشعر الموضوع أبرز القضايا النقدية التي عالجها ابن سلام في كتابه ، وهو أول من انتبه إلى خطورة هذه القضية في عصره ؛ ذلك العصر الذى ازدهرت فيه حركة التدوين ، حيث اهتم علماء العربية بجمع العلوم والمعارف العربية والإسلامية من أفواه الرواة، وعكفوا على تحقيقها والتأكد من صحة روايتها وتخليصها مما علق بها من أغاليط الرواة ووضع الوضَّاعين . وقد لاحظ ابن سلام أن بعض الشعر الجاهلى الذى يتناقله الرواة مصنوع ، واستدل على ذلك بدليلين ، أولهما : عدم وجود قرينة على انتماء بعض ما يتداوله الرواة مكتوباً إلى العصر الجاهلى ، فهو لم يأت مروياً عن أهل البادية ، ولم يعرض على علماء العربية الثقات . وثانيهما : يعود إلى ضعف مستوى ذلك الشعر ، فهو شعر " مصنوعٌ مُفْتَعَلٌ موضوعٌ كثير لا خيرَ فيه ، ولا حُجَّةَ فىعَرَبِيَّةٍ ، ولا أدبٌ يُستفاد ، ولا معنىً يُسْتخرج ، ولا مَثَلٌ يُضْرَب ، ولا مديحٌ رائعٌ ، ولا هجاءٌ مُقْذِعٌ ، ولا فخرٌ مُعْجِبٌ ، ولا نسيبٌ مُسْتَطْرَفٌ..([12])"، ومن هؤلاء الرواة نجده ينتقد محمد بن إسحق صاحب السيرة ، إذ يرى أنه هجَّن الشعر وأفسده وأورد في كتابه أشعاراً لأناس لم يقولوا الشعر قط ، بل أورد أشعاراً ترجع إلى قوم عاد وثمود ، قال : "كتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط ، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال ، ثم جاوز ذلك إلى عادٍ وثمودَ ، فكتب لهم أشعاراً كثيرة ، وليس بشعر ، إنَّما هو كلامٌ مؤلَّفٌ معقودٌ بقَوَافٍ([13]) " ، الأمر الذى جعل ابن سلام ينفى هذا الشعر ، ويرفضه ؛ مبيناً الأدلة التي تستدعى رفضه ، وهى :

1 ـ أدلة قرآنية : وتتمثل فيما جاء في القرآن الكريم من آيات عديدة تتحدث عن الأمم السابقة وانقطاع دابر بعضها ، فالله U يقول : ] وأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الأُولَى وثَمُودَ فَمَا أبْقَى [([14]) ويقول في عاد ] فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِن بَاقِيَةٍ [([15]) فإذا كان الله U قد أهلك قوم عاد وثمود جميعاً فمن إذن حمل هذا الشعر ؟ ، ومن أدَّاه منذ آلاف من السنين؟([16]) .

2 ـ أدلة تاريخية : وتتمثل في رجوع ابن سلام إلى تاريخ اللغة العربية ؛ واختلاف لهجات العرب ، وكذلك إلى تاريخ الشعر العربى ، حيث يرى :

ـ أن اللغة العربية لم تكن موجودة في عهد عاد وثمود ، وليس يصح في الأذهان أن يوجد شعر بلغة لم توجد بعد . فأول من تكلم بالعربية هو إسماعيل بن إبراهيم واسماعيل كان بعد عاد وثمود([17]).

ـ أن الشعر الموضوع ـ المنحول ـ الذى نسبه الرواة إلى قوم عاد لا يمثل لغة عاد ، فعاد من اليمن ؛ ولسان اليمانيين يختلف عن هذا اللسان العربى ، ويستدل ابن سلام على ذلك بقول أبى عمرو بن العلاء: " العرب كلُّها وَلَدُ اسماعيلَ ، إلاّ حِمْيَرَ وبقايا جُرْهُم([18]) " ، وقوله : " مالسانُ حِمْيَرَ  وأقاصِى اليمن اليوم بلساننا ولا عربيَّتهم بعربيَّتنا([19])" ويقيم الحجة على رواة تلك الأشعار الموضوعة فيقول : " فكيف بما على عهد عاد وثمود ، مع تداعيه وَوَهْيِه ؟ فلو كان الشعر مثل ما وُضِع لابن إسحاق، ومثل ما روى الصُّحُفِيُّون ، ما كانت إليه حاجة ، ولا فيه دليل على علم([20]) " .

ـ أن تاريخ الأدب العربى لا يذهب بالشعر الجاهلى إلى ذلك العصر الموغل فى القدم ، بل إن ازدهار الشعر لم يكن قبل الإسلام بكثير ، " ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل فى حَاجتِة ، وإنَّما قُصّدَتْ القصائد ، وطُوِّلَ الشعر فى عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد مناف ، وذلك يدلّ على إسقاط شعرِ عادٍ و ثمودَ وحِمْيَرَ وتُبَّع([21]) .

        ثم يحدد ابن سلام الأسباب التى جعلت العرب تصنع الشعر وتنسبه لأناس لم يقولوه ، فيرى أن الانتحال يرجع إلى عاملين :

الأول : العصبية القبلية فى العصر الاسلامى : إذ حرصت بعض القبائل العربية على أن تضيف لإسلامها ضروباً من المكانة والمجد ، فوجدت فى الشعر ضالتها . ومعلوم أن الشعر الجاهلى قد ضاع منه الكثير ، قال أبو عمرو بن العلاء : " ما انتهى إليكم ممَّا قالت العرب إلاّ أقُّله ، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير([22]) " . أما أسباب ضياع ذلك الشعر فقد بيَّنها ابن سلام فى قوله : " فجاء الإسلام ، فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ، ولَهَتْ عن الشعر وروايته . فلما كثر الإسلام ، وجاءت الفتوح ، واطمأنَّت العرب بالأمصار ، وراجعوا رواية الشعر ، فلم يؤولوا إلى ديوان مُدوَّن ولا كتاب مكتوب ، وألْفَوا ذلك وقد هلك من العرب مَنْ هلك بالموت والقتل ، فحفظوا أقل ذلك ، وذهب عليهم منه كثير([23])" . لذلك لاحظ ابن سلام قيام بعض القبائل التى قَلَّ نصيبها فيما بقى من شعر بالوضع على ألسنة شعرائهم ، يقول ابن سلام : " فلما راجعت العرب رواية الشعر ، وذِكر أيامها ومآثرها ، استقلَّ بعض العشائر شعر شعرائهم ، وما ذهب من ذكر وقائعهم . وكان قوم قلَّتْ وَقائعُهم وأشعارهم ، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار ، فقالوا على ألسنة شعرائهم ثم كانت الرُّواة بعد ، فزادوا فى الأشعار التى قيلت. ([24]) " .

الثانى : الرواة وزيادتهم فى الأشعار : لم يقتصر دور بعض الرواة على وضع الشعر ونسبته إلى غير قائليه بل تجاوز ذلك بكثير ، فهم رغم وضعهم فى المرتبة الثانية بعد تزيد العشائر أشد خطراً على الشعر والشعراء ، حيث لم يقتصر دورهم على الوضع بل تجاوزه إلى التزييف والخلط ، من ذلك مثلاً ما كان يفعله حمَّاد الراوية ، الذى " كان ينحل شعرَ الرجُلِ غيرَه ، وينحله غيرَ شعره ، ويزيد فى الأشعار([25]) " . وقد ذكر ابن سلام العديد من الروايات والوقائع التى تدلل على تزيد الرواة فيه ؛ وتزييفه وخلطه([26]) .

        وهنا تجدر الإشارة إلى أن ابن سلام قد وضع قاعدة نقدية هامة من قواعد الدرس النقدى التطبيقى ؛ حيث لفت الأنظار إلى ضرورة تحقيق النص قبل دراسته ، والتأكد من صحة نسبته لقائله ؛ و صحة روايته ، وهو يرى أن هذا الأمر رغم صعوبته إلا أنه لا يخفى على أهل العلم : " وليس يُشْكِلُ على أهل العلم زيادةُ الرواةِ ولا ما وَضَعوا ، ولا ما وضع المولَّدون ، وإنما عَضَّلَ بهم أن يقولَ الرجلُ من أهل البادية من وَلَدِ الشُّعراء ، أو الرجلُ ليس من ولَدِهم ، فَيُشْكِل ذلك بعض الإشكال([27])".

ثانياً : فكرة الطبقات :

        سعى ابن سلام ـ منذ البداية ـ إلى جمع شتات مشاهير الشعراء وجعلهم فى طبقات تبين مكانتهم ، وهذا العمل كان يتطلب من ابن سلام التعرض للنصوص الأدبية بالتحليل حتى يظهر جمالها الفنى ويعلل قصورها ، إلا أنه انصرف إلى الشعراء أنفسهم ذاكراً لهم مايراه جيداً دون أن يذكر أسباب تلك الجودة فى الغالب ، و لو نظرنا إلى مصنفه سنجد أنه يشتمل على 114 شاعراً جاء توزيعهم فى الطبقات التالية :

1 ـ  طبقات الشعراء الجاهليين : وهى عشرة ، فى كل طبقة أربعة شعراء.

2 ـ طبقات الشعراء الإسلاميين : وهى عشرة ، فى كل طبقة أربعة شعراء .

3 ـ طبقة أصحاب المراثى : وتضم ثلاثة شعراء وشاعرة ـ الخنساء ـ، وهى المرأة الوحيدة التى أوردها ابن سلام فى طبقاته .

4 ـ طبقة شعراء القرى العربية : وتنطوى على اثنين وعشرين شاعراً ، قسِّموا على النحو التالى :

        أ ـ شعراء المدينة خمسة ، ثلاثة من الخزرج و اثنان من الأوس .

        ب ـ شعراء مكة تسعــــــة .

        ج ـ شعراء الطائف خمسة .

        د ـ شعراء البحرين ثلاثــة .

        هـ ـ طبقة شعراء اليهود وتشمل ثمانية شعراء .

        وقد نبَّه ابن سلام ـ وهو يُقْدِم على وضع الشعراء فى طبقات ـ على أن ذكره شاعر قبل قرنائه فى الطبقة الواحدة لايعنى أنه الأعلى مكانة ؛ المُقَدَّم على باقى شعراء الطبقة ؛ بل إن هذا الأمر لا يخضع لأى معيار نقدى ؛ لأنه لا بد أن يبدأ بذكر أحدهم ، يقول : " وليس تَبْدِئَتُنا أحدَهُم فى الكتاب نحكُمُ له ، ولا بُدَّ من مُبْتَدَأٍ([28])" . ومع ذلك فإننا نجد ابن سلام ـ فى كثير من الأحيان ـ يوازن بين شعراء الطبقة الواحدة ، أو بين شاعر وآخر داخل الطبقة ، فيورد رأى العلماء فيهم ويختار من شعرهم ما يؤكد هذا الرأى ، ثم يفسر بعض الكلمات الغريبة التى قد ترد فى الشعر ـ وهذا قليل ـ أو يورد آراء علماء اللغة فيها ، وفى حالات قليلة يبيِّن رأيه ، وشواهد ذلك فى طبقاته كثيرة ؛ من ذلك ـ مثلاً ـ ما نراه فى المفاضلة بين شعراء الطبقة الأولى من الجاهليين ؛ وهم : امرؤ القيس والنابغة الذبيانى وزهير بن أبى سلمى والأعشى ، حيث يورد العديد من آراء العلماء واختلافهم فى المفاضلة بين شعراء هذه الطبقة ، من ذلك قوله : " أخبرنى يونس بن حبيب : أن علماء البصرة كانوا يقدِّمون امرأ القيس بن حُجْر ، وأهل الكوفة كانوا يقدِّمون الأعشى ، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدِّمون زهيراً والنابغة([29])" ، وفى تبرير تفضيل امرئ القيس على شعراء طبقته قوله : " فاحتجّ لامرئ القيس من يُقدّمه قال : ما قال ما لم يقولوا ، ولكنه سَبَقَ العربَ إلى أشياء ابتدَعها ، واستَحْسَنَتْها العربُ ، واتَّبعتْه فيها الشعراء : استيقافُ صَحْبِه ، والتَّبْكَاءُ فى الدِّيار ، ورقَّةُ النَّسيبِ ، وقُرْب المأخَذ ، وشَبَّه النِّساءَ بالظِّباءِ والبَيْضِ ، وشَبَّه الخَيْل بالعِقْبان والعِصِىِّ ، وقَيَّدَ الأوَابد ، وأجادَ فى التشبيه ، وفَصَلَ بين النَّسيب وبين المعنَى([30])" ، أما ابن سلام فيرى أن امرأ القيس : " كان أحسن أهل طبقته تشبيهاً ، وأحسن الإسلاميين تشبيهاً ذو الرُّمَّة([31])" . ثم يورد آراء من احتج من العلماء للنابغة وزهير والأعشى ، ويناقش بعضها ويبيّن رأيه فيها أحياناً([32]) .

     وقد اعتمد ابن سلام فى مفاضلته بين الشعراء وتصنيفهم فى طبقات تبين مكانتهم الأدبية ومرتبتهم الشعرية على ثلاثة مقاييس عامة ؛ هى :

1 ـ كثرة شعر الشاعر .

2 ـ تـعـدد أغــراضــه .

3 ـ جـــودة شـــعـــره .

        أما مقياس الكثرة واعتماد ابن سلام عليه فى المفاضلة بين الشعراء فنراه جلياً فى غير موضع من كتابه ، من ذلك ـ مثلاً ـ ما نراه فى تبرير تأخر منزلة طَرَفَة بن العبد وعَبيد بن الأبرص وعَلْقَمَة بن عَبَدَة وعَدِى بن زيد ، إلى الطبقة الرابعة ، إذ يقول: " وهم أربعة رَهْطٍ فحولٌ شعراء ، موضعهم مع الأوائل ، وإنَّما أخلَّ بهم قلَّة شعرهم بأيدى الرُّواة([33])" . وكذلك قوله فى معرض حديثه عن الطبقة السابعة : " أربعة رَهْط مُحْكِمون مُقِلّون ، وفى أشعارهم قِلّةٌ ، فذاك الذى أخَّرهم([34])" .

        وكذلك مقياس تعدد الأغراض الذى يتضح أثره بصورة جلية فى مواضع عديدة من طبقاته ، من ذلك ـ مثلاً ـ ما نراه فى تبرير وضع كُثَيِّر عزة فى الطبقة الثانية من فحول الإسلام ، وجميل بن مَعْمَر فى الطبقة السادسة ؛ مع أن جميلاً مُقَدَّمٌ فى التشبيب على كُثَيِّر وعلى أصحاب النسيب جميعاً ، قال ابن سلام : " وكان لكُثَيِّر فى التشبيب نصيبٌ وافرٌ ، وجميلٌ مُقَدَّمٌ عليه ـ وعلى أصحاب النسيب جميعاً ـ فى النسيب ، وله فى فنون الشعر ما ليس لجميل . وكان جميلٌ صادق الصبابة ، وكان كُثَيِّر يتقوَّل ، ولم يكن عاشقاً ، وكان راوية جميل([35])" .

        ولا يخفى على الدارس أن الكثرة وتعدد الأغراض لايمكن بحال الاعتماد عليهما كمقياسين نقديين لدرس الشعر وتقويمه ، وأن ابن سلام نفسه كان قد أشار ـ فى مقدمته ـ إلى قضية الإنتحال والوضع فى الشعر ، وأن الرواة لعبوا دوراً خطيراً فى الإقلال من شعر شاعر ، والإكثار من شعر غيره .. لذلك أرى أن أهمية هذين المقياسين تنبع من ارتباطهما بمقياس الجودة ، فالشاعر المكثر المجيد مُقدًَّم ـ عند ابن سلام ـ على الشاعر المُقلّ المُجيد ، والمُكثر المُجيد المُتعدد الأغراض مُقدَّم على المكثر المجيد الذى لم يَقُل إلاّ فى غرض أو اثنين ، أما كثرة الشعر وتنوع أغراضه فإنهما لا يجعلان الموصوف بهما مُقدّماً إذا كان شعره رديئاً . لذلك نرى ضرورة التعرف على كيفية حكم ابن سلام على الشعر بالجودة ، وما هى أسس تلك الجودة حين يقول ـ مثلاً ـ : " كان قُرَاد بن حَنَش من شعراء غطفان ، وكان قليل الشعر جيِّدَه([36])" ، أو يقول فى حسان بن ثابت : " وهو كثير الشعر جيده([37])" ، أو يقول: " وكان الأسْودُ شاعراً فَحْلاً ، وكان يُكثِر التنقُّل فى العرب يُجاوِرهم ، فيَذمُّ ويَحْمَدُ، وله فى ذلك أشعارٌ . وله واحدةٌ رائعةٌ طويلةٌ، لاحقةٌ بأجْودِ الشعر ، لو كان شَفَعها بمثلها قدَّمناه على مرتبته([38])" .

        إذن ما هى المقاييس التى استند إليها ابن سلام وهو يصدر الحكم بالجودة فيقدم شاعراً على آخر ، أو يقرن شاعراً بآخر ؟

ــ لم ينكر ابن سلام جهود السابقين ونظراتهم فى الشعر والشعراء ، بل يكاد الاعتماد على آراء أهل العلم والخبرة أن يكون أهم مقاييس الجودة عنده ، هذا ما يقرره ابن سلام فى مقدمة كتابه حين يقول : " واحتججنا لكل شاعر بما وجدنا له من حُجَّة ، وما قال فيه العلماء([39]) ، وكذلك حين يقول : " ثم إنَّا اقتصرنا ـ بعد الفحص والنظر والرواية عمَّن مضى من أهل العلم ـ إلى رَهط أربعة اجتمعوا على أنهم أشعر العرب طبقة ، ثم اختلفوا فيهم بَعْدُ . وسنسوق اختلافهم واتفاقهم ، ونسمِّى الأربعة ، ونذكر الحجة لكل واحد منهم([40])" . فهو غالباً ما يستقصى آراء العلماء فى منزلة شعراء طبقاته ، وأحياناً يناقش تلك الآراء ويبيّن رأيه فيها . وأمثلة ذلك كثيرة متنوعة ، منها قوله فى النابغة الجعدى : " كان الأصمعى يمدحه بهذا وينسبه إلى قلة التكلف([41])" ، وقوله كان علماؤنا يقولون : أحسنُ الجاهلية تشبيهاً امرؤ القيس ، وأحسن أهل الإسلام تشبيهاً ذو الرُّمَّة([42])" .

        ومما تجدر ملاحظته فى هذا الموضع أن عدم تعقيب ابن سلام على بعض ما يورده من آراء العلماء ، إنما يعنى موافقته على تلك الآراء ، أو فلنقل عدم تحفظه عليها ، وإلاّ لما وجدناه يخالف ما لا يروقه من تلك الآراء فى مثل قوله : " وكان كُثَيِّر شاعر أهل الحجاز ، وإنهم ليُقَدِّمونه على بعض من قَدَّمنا عليه([43])"، وكذلك قوله فى رؤبة بن العجّاج : " وقال بعضهم : إنه أفصحُ من أبيه . ولا أحسِب ذلك حقاً([44])" ، ومثل هذه الآراء على قلتها تدلل على إعمال ابن سلام فكره وتقليبه الرأى قبل أن يعتد به ويعتمده([45]) .

ــ إن السبق والإبداع مقياس هام من مقاييس الحكم بالجودة عند ابن سلام ، حيث رأيناه يبرر تقديم امرئ القيس على فحول شعراء الجاهلية بقوله : "ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها ، واستحسنتها العرب ، واتبعه فيها الشعراء([46])" ، كما نراه يبرر وضع الراعى النميرى فى طبقة فحول الإسلاميين الأولى بقوله : " وكان يُقال له فى شعره : كأنه يَعْتَسِفَ الفلاة بغير دليل ! أى أنه لا يحتذى شعر شاعرولا يعارضه([47])" .

ــ وللمقاييس الفنية العامة أثر واضح فى حكم ابن سلام على الشعر بالجودة ، وهى كثيرة متنوعة تتصل بلفظ الشعر ؛ أو بلغته ؛ أو معانيه وصوره ..، وهى فى معظمها عامة تحتاج إلى توضيح وتحديد . ففى مفاضلته بين بيت شعر لجرير وآخر للأخطل ؛ نجده يقول : " قال لى معاوية بن أبى عمرو بن العلاء : أى البيتين عندك أجودُ ؟ قول جرير :

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا             وأنْدَى العَالَمِين بُطُـــــــونَ راحِ

   أم قولُ الأخطل :

شُمسُ العَدَاوَةِ حتى يُسْتَقَادَ لهم         وأعْظَمُ النَّاسِ أحْلاماً إذا قَدَرُوا

فقلتُ : بيت جرير أحلى وأسْيَر ، وبيت الأخطل أجزل وأرزن([48])" ، هكذا نجده يصف بيت جرير بأنه أحلى ، ولا ندرى معايير هذا الوصف ، أو متى يكون الشعر حلواً ؟! . ومثله وصف عَبْدُ بنى الحَسْحَاس بأنه " حلو الشعر ، رقيق حواشى الكلام([49])" ، وكذلك وصف القُطامِى بأنه " رقيق  الحواشى ، حلو الشعر([50])" . حيث لا نستطيع أن نحدد معايير رقة الحواشى ولا ماهيتها . ومع ذلك فإننا لا نعدم وجود بعض المعايير المحددة الدلالة ؛ مثل جزالة اللفظ ؛ وشرف المعنى وفخامته..([51]) .

ــ والغرض الشعرى وسبل معالجته واستقصائه من الأمور التى أخذها ابن سلام فى حسبانه وهو يصنف الشعراء ويحكم على شعرهم بالجودة ، من ذلك ـ مثلاً ـ قوله فى المديح فى شعر كُثَيِّر : " ورأيتُ ابن أبى حَفصَة يُعجبه مذهبه فى المديح جداً ، يقول : كان يستقصى المديح([52])" .

   ومثله براعة التشبيه الذى نراه أحياناً أساساً للمفاضلة بين الشعراء ، من ذلك ـ مثلاً ـ قوله : " كان ـ امرؤ

التحميلات المرفقة

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 64/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 7663 مشاهدة
نشرت فى 22 يونيو 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,603,594