على التمثيل المكاني لمفهوم الزمن
بنعيسى زغبوش
مسلك علم النفس
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
ظهر المهراز - فاس
المغرب
برتراند طرواديك Bertrand TROADEC
وحدة علم النفس للتكوين والبحث
جامعة تولوز لوميراي (Toulouse-Le Mirail)
فرنسا
صدر هذا المقال ضمن:
زغبوش، بنعيسى، ترواديك، بيرتراند B.TROADEC (2006). "تأثير اتجاه كتابة اللغة وقراءتها على التمثيل المكاني لمفهوم الزمن". الكويت: مجلة الطفولة العربية، المجلد 7، العدد 27. (19-34).
ملخص
يتطرق هذا البحث إلى التمثيل المكاني لمفهوم الزمن وفق مستويين:
- مستوى أول وهو تأطير نظري لمفهوم الزمن، سواء في الفيزياء باعتباره مفهوما نظريا خالصا، أو في السيكولوجيا على أساس أنه يشكل سيرورة معرفية تسمح للفرد بتمثله ذهنيا وتمثيله واقعيا من خلال استحضار استعارات مكانية، وكذا تأثير المعايير الثقافية واتجاه كتابة اللغة وقراءتها على هذا التمثيل.
- ومستوى ثان هو دراسة ميدانية توضح كيف يؤثر اتجاه كتابة اللغة وقراءتها على التمثيل المكاني لمفهوم الزمن لدى عينة من مزدوجي اللغة يقرؤون ويكتبون باللغة العربية (من اليمين إلى اليسار)، وباللغة الفرنسية (من اليسار إلى اليمين)، وكيف يمثلون مفهوم الزمن مكانيا، سواء من خلال نص كتابي أو رسم تمثيلي.
كلمات مفاتيح: مفهوم الزمن، الاستعارة المكانية، تأثير اتجاه اللغة.
Benaissa ZARHBOUCH
Faculty of Letters and Humanities
Dhar El Mehraz
Fez – Morocco
Bertrand TROADEC
Department of Psychology
University of Toulouse-Le Mirail
Toulouse – France
Abstract:
This paper deals with space representation of the concept of time on the basis of two levels: (i) providing a theoretical framework to the notion of time as being purely theoretical as in physics, or as being a cognitive process that allows one to represent it mentally and concretely through evoking space ****phors, the effect to cultural variation and that of the language writing and reading direction on such a representation; (ii) a field work study that highlights the way language writing and reading direction affects space representation of the notion of time among a sample of Arabic-French bilinguals who can read and write the two languages: Arabic (from right to left) and French (from left to right); the focus is on how these bilinguals represent the concept of time space-wise, either through a written text or through a representative drawing.
Key words:
Concept of time, space ****phors, language direction
1. تقديم
الأكيد أن استحضارنا لمفهوم الزمن يدفعنا مباشرة إلى ممارسة عمليات التفكير من خلال مفهوم مجرد. فالزمن ليس شيئا ملموسا خاضعا لحواسنا، بل هو مُدرك من خلال تجلياته في سلسلة من الأحداث/الظواهر (سواء أكانت طبيعية أو بيولوجية أو تاريخية...) التي لها ديمومة duréeمعينة، وتتعاقب وفق نظام معين. إلا أن هذه الأحداث أو الظواهر لا تتسلسل في فراغ، بل تحدث في "مكان" معين. وعندما نقول: "مفهوم المكان" نكون أيضا مدفوعين للتفكير فيه من خلال مفهوم مجرد. فنحن لا ندرك المكان مباشرة، بل ندرك أشياء/أجساما لها امتداد معين في المكان وبأوضاع معينة. فالمكان هو ذلك الوعاء الذي يشمل مجموع الأشياء/الأجسام وهي ثابتة، فلا تتحول إلى ظواهر/أحداث إلا بتدخل الحركة: أي حركة الأشياء فيما بينها وبالنسبة لمن يلاحظها. كما أن الحركة في حد ذاتها لا يمكن إدراكها إلا من خلال السرعة التي تتجلى بها بالنسبة للشخص الملاحظ. من هنا ندرك مدى الترابط العضوي بين مفهوم "الزمن" ومفهوم "المكان" ومفهوم "السرعة"، وبالتالي نخلص إلى المعادلة الفيزيائية التالية: الزمن يساوي المكان مقسوما على السرعة.
إلا أنه لا ينبغي أن ننظر إلى المكان نظرة ضيقة وثابتة، أي باعتباره مجرد حاو للأشياء، بل يجب أن نتناوله أيضا باعتباره يمثل تلك العلاقات التي تربط الأجسام فيما بينها. من هنا فالمكان هو منطق العالم المحسوس، وبما أن الزمن هو نظام ارتباط الحركات (سواء أكانت طبيعية أم باطنية كالأحداث التي نعيد بناءها بواسطة الذاكرة)، فإن الزمن والمكان يتشابهان انطلاقا من أن دور الزمن تجاه الحركات، هو نفس دور المكان تجاه الأشياء الساكنة في لحظة معينة من الزمن. بمعنى آخر، إن المكان كاف لوضع علاقات تجمع الأوضاع المتآنية، لكن بمجرد تدخل الحركة أو تغير الأوضاع، تصبح التحولات -المرتبطة بحالات مكانية متعددة- متعاقبة ويكون الرابط بينها هو الزمن نفسه. وعليه، إذا كان الزمن يتحدد وفق العلاقة التي تربط بين الحركات الحاصلة في المكان، فإن إدراكه يتطلب إدراك هذه العلاقة. ولأن مصطلح "علاقة" يحمل في طياته معنى تركيبيا بين مجموعة من العناصر، فإنه لابد من افتراض وجود زمن عملياتي temps opératoire(1) مبني على علاقات شبيهة بالعمليات المنطقية الأخرى التي يقوم بها الذهن، ولابد أيضا من افتراضه كيفيا أو قياسيا، بمعنى أن العمليات التي تنشئه تظل شبيهة بباقي العمليات المنطقية والمعرفية أو أنها تُدخل وحدات عددية لقياسه وتمثله.
إلا أن هناك أطروحات تناقض ما سلف، وهي أطروحات تفترض أن الزمن هو مجرد حدس للديمومة والتعاقب، بمعنى أنه محدد في الإدراك الظاهري المباشر أو الإدراك الباطني، كما تنادي بذلك بعض الفلسفات ذات التوجه البرغسوني(2). أو بمعنى آخر، إن العلاقات الزمنية تنتج عن حدس مباشر أو عن شكل تصوري، منفصلة تماما عن محتواها. وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فمن الراجح أن لا يجد الطفل أي صعوبة في استيعابه لمفهوم الزمن، باعتبار أن الأحداث أو الصيرورة الزمنية في مختلف تمظهراتها تمر مباشرة تحت ملاحظته. وانطلاقا من أن الحدس لا يصل بطبيعته إلى جوهر الشيء، بل يظل مرتبطا بالظاهرة كمعطى خارجي، فإننا لا نستطيع التأكد من صحة نتائج الحدس عن طريق التجربة، لأن الحدس في عمقه علاقة مباشرة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، وبالتالي فهو يعتمد بالدرجة الأولى على الإحساس الباطني الذي غالبا ما يتأثر بالحالة السيكولوجية للفرد مثل الملل، والتعب، والمنفعة... ولذلك تبقى نتائجه نسبية.
يهدف هذا البحث إلى دراسة العلاقة بين مفهوم الزمن ومفهوم المكان، من خلال دراسة توجه التمثيل المكاني لمفهوم الزمن حسب السياق اللساني والثقافي للفرد. وإذا كانت كل لغة تتصف باتجاه في كتابتها وقراءتها، فكيف سيؤثر هذا الاتجاه على التمثيل المكاني لمفهوم الزمن؟ وما هي الاستعارات المكانية التي يوظفها الأفراد لتمثيل مفهوم مجرد كمفهوم الزمن في الواقع؟ وأكثر من ذلك ما تأثير اتجاه اللغة لدى مزدوجي اللغة على تمثيل هذا المفهوم مكانيا، كما هو الشأن لمن يجيد قراءة اللغة العربية وكتابتها (اتجاه من اليمين إلى اليسار) وكذا اللغة الفرنسية (اتجاه من اليسار إلى اليمين)؟
هذه بعض من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها ضمن الإشكالية العامة لهذا البحث والمتمثلة في تأثير اتجاه اللغة على استعارة مفاهيم مكانية لتمثيل مفهوم الزمن باعتباره مفهوما مجردا لا ندركه إلا من خلال تمظهراته.
ساحة النقاش