بين القومية والأمة
بقلم:د. محمد عادل عبدالعزيز
ظهرت فكرة القوميات للمرة الأولي في تاريخ الإنسانية بالقارة الأوروبية في القرن التاسع عشر, وذلك منذ أن استخدم جويسيبي ماتزيني الزعيم والسياسي القومي الإيطالي هذا المصطلح للمرة الأولي ـ حوالي سنة1835.
وقد احتل مفهوم القومية مكانة بارزة في الفكر السياسي, والتاريخي والاجتماعي والثقافي, قال ماتزيني: إن القومية هي انتماء جماعة بشرية واحدة لوطن واحد شريطة أن تنتمي إلي تاريخ مشترك ولغة واحدة في أرض هذا الوطن. وأضاف العلماء الألمان وعلي رأسهم هردر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحدة الثقافة ووحدة مصادر التأثير الروحي. ثم اضاف الماركسيون اسسا اخري للقومية اهمها وحدة التكوين النفسي ووحدة السوق الاقتصادية. ولكن الدارسين من بعدهم مثل( كوهن وكامينا وغيرهما) يكتفون عادة بوحدة اللغة ثم التاريخ المشترك الذي يخلق الانتماء ـ أو الشعور به ـ لأرض واحدة ومؤسسات اجتماعية وقضايا مشتركة. إن هذا المفهوم للقومية الذي جاء به السياسيون والأوربيون يتفق ومفهوم القومية في عصر الرسل عليهم السلام.
فقد عرف العالم القديم عبر تاريخه الطويل أقواما في أرجائه المختلفة جاء ذكرهم في الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل ثم القرآن الكريم.
فالقوم في القرآن الكريم, هم أهل قرية واحدة وهذا ما نفهمه من قوله تعالي:( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين) كما نفهم من القرآن الكريم أيضا أن هؤلاء القوم يجمعهم نسب, فيقول سبحانه:( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون* فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون* تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون* ألم تكن آياتي تتلي عليكم فكنتم بها تكذبون* قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين) وأخيرا يشير القرآن الكريم إلي أن أفراد هؤلاء القوم تجمعهم أيضا وحدة اللغة حيث يقول سبحانه:( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه).
وفي خلال القرن التاسع عشر وحتي أوائل القرن العشرين, ارتبطت النزعة القومية( سياسيا) بحركة التحرير والوحدة في البلدان الغربية التي كانت مقسمة مثل إيطاليا وألمانيا وبولندا ومثل شعوب ودول أوروبا التي كانت خاضعة للاحتلال التركي أو للاحتلال الروسي او النمساوي في شرق ووسط أوروبا.
فقد كانت إيطاليا قبل جاريبالدي مدنا متناثرة متصارعة ضعيفة متخلفة, وألمانيا قبل بسمارك كانت مقاطعات مفككة وإمارات متصارعة لكنها أصبحت قوي دولية يحسب لها حساب.
حقا إن الوحدة هدف العاقلين منذ فجر التاريخ, لذلك كانت حركية القومية في أوروبا تهدف إلي تعميق الشعور الوطني, والتأكيد علي وحدة الدولة.
لكن إذا كان كل شئ في الدنيا عملة ذات وجهين, فإن فكرة القوميات وإن أدت إلي ظهور ألمانيا الموحدة, وإيطاليا الموحدة, فإنها علي الوجه الآخر جعلت أوروبا تدفع ثمنا باهظا تمثل في حربين عالميتين راح ضحيتهما أكثر من70 مليون قتيل. وكانت هذه المجازر المروعة نتيجة التعصب والمغالاة في فرض فكرة القومية المتناقضة بالضرورة مع القوميات الأخري المجاورة والرافضة لجميع أشكال وجود الآخرين.
لذلك اتفق الجميع علي أن كلمة( قوم) تعبير عن نزعة ذاتية, وخصائص مشتركة تميز البعض عن الكل, وتعطي إحساسا بالانتماء, يجعل( المسألة القومية) رابطة لا تخلو من انحياز, يصل إلي حد التعصب الذي يؤدي, في كثير من المناسبات, إلي الربط بين القومية والعنصرية.
وقد استوعبت أوروبا الدرس وأدركت خطورة تفشي النزعات القومية وظهر بعض كبار المفكرين من أمثال جان بول سارتر, وبرنارد شو وبعض السياسيين مثل تشرشل وديجول الذين حاولوا بلورة فكر جديد مناقض لفكر القومية القائم علي الانغلاق والتناطح مع الآخرين. لكن كوامن القومية قد تفجرت مرة جديدة في أوروبا في أواخر القرن العشرين وأدت إلي عمليات تصفية عرقية ومذابح عندما تفسخت يوغوسلافيا السابقة وبدأ التناحر بين أبناء القوميات الصربية و البوسنية والكرواتية. الأمر الذي أدي بأوروبا أن تسعي نحو الاتحاد الذي سيؤدي بالضرورة إلي اصطدام أوروبا الموحدة بروسيا.
وإذا كانت حركية القومية في أوروبا كانت بهدف توحيد الإمارات المتصارعة والمقاطعات المفككة والتي بلغت ذروتها بمشروع الوحدة الأوروبية, فإن حركية القومية في الكيان العربي وإن كانت بهدف التخلص من الاستعمار الأوروبي والحكم التركي إلا أنه للأسف أدي إلي تفتيت وحدته. وإذا كانت القومية تقوم أساسا علي انتماء جماعة بشرية لكيان جغرافي واحد ولغة واحدة, فإن الأمة لا يحدها بالضرورة كيان جغرافي واحد ولا لغة واحدة ويوضح القرآن الكريم أن الأمة هي الكل الذي يخضع لحكم كتاب واحد: شريعة ومنهاجا ومنسكا, وذلك لقوله تعالي في سورة الأنبياء: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ويقول سبحانه في سورة الجاثية: كل أمة تدعي إلي كتابها
وأوضح أنه في فرض نظام الأمة عدم تناقض مصالح الأمة مع الآخرين, فإذا كان نظام الأمة يقبل التعددية العرقية فإنه أيضا يقبل التعددية الدينية داخل كيان الأمة في الوحدات ذات الغالبية الإسلامية, كما يقبل خضوع الأقلية الإسلامية للغالبية غير الإسلامية الذين يعيشون في الكيانات غير المسلمة, لأن العبرة ليست الخضوع لحكومة إسلامية بالضرورة, وإنما العبرة بالخضوع لحكم القرآن الكريم شرعة ومنهاجا.
وقد أكد وصول العثمانيين إلي كرسي الخلافة أن العروبة لم تكن هي التي حملت الإسلام إلي الشعوب التي قبلته, وإنما هو الإسلام الذي حوي العربية وكان أوسع منها, هذا علي الرغم من عربية لغة القرآن الكريم, وأن رسول الإسلام عربي.
ساحة النقاش