<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

نحن والغرب

 [الكاتب: محمد قطب]

حين تكون المقدمات كلها صحيحة، فينبغي أن تؤدي إلى نتيجة صحيحة..

ما دام الإسلام هو القوة التقدمية الهادية المرشدة إلى الطريق الصحيح.. وما دامت الحضارة الغربية تشتمل على كل هذا القدر من الانحراف والردة إلى عالم الحيوان.. فقد كان ينبغي أن نكون نحن - المسلمين - في مقعد القوة والتمكن والتقدم والحضارة والسلطان، والنظافة الكاملة في التعامل والأخلاق، والترابط في المجتمع، ويكون الغرب في مكان الضعف والذلة والهوان.. ولكن الأمر الواقع هو العكس. فالغرب ليس قوياً فقط، وليس " متحضراً " فحسب، بل إنه في معاملاته الفردية نظيف نظافة ملحوظة، مستقيم استقامة واضحة.. قلما يخدع الإنسان منهم غيره، أو يغشه، أو يحاوره أو يداوره. أو يكذب عليه في مجال التعامل اليومي، وفوق ذلك يخلص في عمله ويتقنه ويضع فيه كل جهده.. بينما نحن - المسلمين! - نغش ونخدع، ونحاور ونداور، ونكذب وننافق، ولا نخلص في عملنا ولا نتقنه ولا نضع جهدنا الحقيقي فيه.

دين بلا نظافة.. ونظافة بلا دين!

تلك هي الصورة التي تربك أفهام الأجيال الناشئة في العالم الإسلامي فتصرفها عن الإسلام!

وهي لا تنصرف عنه تلقائياً.. وإنما بذل جهد جهيد خلال القرن الماضي كله وما يزال يبذل في هذا القرن للوصول إلى هذه النتيجة..

جهد جهيد بذله المبشرون والمستشرقون.. ثم تلقفه منهم " تلاميذهم " المسلمون (!) في الشرق الإسلامي، فأخذوا يرددون الأسطوانة ذاتها، ولا يملون من ترديدها ليصلوا في أذهان الأجيال الناشئة إلى الربط بين هذه " الحقائق " الظاهرية.. لتصل إلى النتيجة المطلوبة..

المبشرون بادئ ذي بدء كانوا يقولون إن الإسلام رجعي متأخر.. بدليل التأخر والرجعية المخيمة على أهله. والمسيحية تقدمية متحضرة.. بدليل الحضارة والتقدم الموجود في الغرب المسيحي.

والمستشرقون على آثارهم [وهم بقية منهم لبسوا مسوح البحث " العلمي " ليخفوا وراءها مسوح التبشير] قالوا إن سر التأخر والرجعية كامن في الإسلام ذاته. فهو - بذاته - الذي قاد أهله إلى الانحطاط والتأخر، لأنه جامد لا يتطور ولا يسمح بالتطور! [ولعلهم يقولون أيضا إنه يدعو إلى الجهل وعدم الأخذ بأسباب القوة!!].

ثم جاء تلاميذهم من " المسلمين ".. من " قادة " الفكر والصحافة والأدب والسياسة يقولون: هلم ننبذ تعاليم هذا الدين الرجعي الجامد المتأخر.. لكي نتحضر. لكي نصبح مثل أوربا لكي ننال العلم والقوة والتقدم والسلطان.

والتقت تلك الإيحاءات السامة كلها في نفوس الأجيال الناشئة في العالم الإسلامي، لتؤدي إلى نتيجة معينة: نحن متأخرون لأننا مسلمون وأوربا متحضرة لأنها ليست مسلمة!

ثم دار الزمن دورة واختفت من الأفق أقوال المبشرين المباشرة.. فقد احتجبوا عن العمل المباشر بعد أن اطمأنوا إلى قيام تلاميذهم " المسلمين " بالدعوة بدلا منهم، واطمأنوا إلى سياسة الدولة التعليمية التي أوحوا بوضعها عن طريق الاستعمار الذي كان بيده مقاليد الحكم والتوجيه.. سياسة لا تعلم الناشئة شيئاً عن حقيقة الإسلام، وإنما تعلمهم بدلا منه أوربا وحضارتها وتفوقها الساحق.. وتعلمهم كذلك شبهات حول الإسلام يتسرب إلى أفهامهم تأثيرها المسموم بوعي أو بغير وعي. واطمأنوا كذلك إلى دور المدارس الأجنبية وما تحدثه من آثار سامة في تحطيم عقائد المسلمين، وليّ أعناقهم إلى أوربا و " الحضارة " الأوربية.. واطمأنوا أخيراً إلى تكبير تلاميذهم وتضخيمهم حتى يصبحوا هم قادة الفكر والتوجيه ويصبح في أيديهم من السلطان ما يكفي لتثبيت ذلك التوجيه..

واختفت كذلك من الأفق حملة المستشرقين المباشرة على الإسلام، التي كانت على أشدها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ ظهر للمستشرقين بالتجربة العملية أنها أدت إلى عكس الغرض المطلوب، إذ أيقظت المسلمين من سباتهم، ووجهت مشاعرهم وعقولهم وأقلامهم إلى الدفاع عن الإسلام. فظهرت عشرات من الكتب أو مئات تدافع عن الإسلام. وكان في هذا خطر عظيم على الهدف المنشود من وراء حركة الاستشراق. خطر صرح به المستشرق المعاصر " ولفرد كانتول سميث " في كتابه " الإسلام في التاريخ المعاصر Islam in Modern History " حيث يقول في أكثر من مكان في كتابه: إن الحركة المتحررة التي قادها الكتاب المتحررون، والتي اتجهت إلى نقد الدين، كانت كفيلة بأن تؤتي ثماراً طيبة. لولا أن حركة " الدفاع " عن الإسلام قد حالت دون هذه الثمار!!

لذلك اتجه المستشرقون إلى وسيلة أخبث، تنوّم المشاعر للسموم بدلا من أن توقظها للخطر الماثل، وهي البدء بتمجيد الإسلام وتعظيمه، وإعطائه حقه المنصف، حتى إذا استرخت أعصاب القارئ المسلم على المديح، واطمأنت نفسه إلى " نزاهة القصد والضمير العلمي! " في هذا المستشرق أو ذاك، دس له السم في العسل، ووضع في خلال المديح والتمجيد ما يشاء من التشويه والتشكيك، وهو مطمئن إلى مفعوله الأكيد! ثم.. الإيحاء - بل التصريح - بأن الإسلام كان عظيماً ونافعاً وتقدمياً أيام زمان! أما اليوم فهو عقبة في سبيل التقدم، ولا مجال لهذا التقدم إلا بالأخذ بوسائل الغرب في كل شيء [انظر كل كتب المستشرقين المعاصرين! وبصفة خاصة كتاب " جب " " الاتجاهات الحديثة في الإسلامModern Trends in Islam " وكتاب " جرونيباوم " " الإسلام... " وكتاب سميث المشار إليه " Islam in Modern History "].

اختفت الحملة الأولى والثانية وظهرت في الأفق دعوة جديدة، هي التي ما تزال قائمة حتى اليوم، على يد أولئك " التلاميذ " المخلصين من " المسلمين! ".

إن أوربا اليوم متقدمة.. وهي ليست متدينة!

لقد طرحت الدين جانباً فتقدمت وتحضرت ووصلت إلى القوة والسلطان!

ونحن متدينون (!).

وفي الوقت ذاته متأخرون!

فينبغي أن نسلك الطريق القويم.. ننبذ ديننا - كما فعلت أوربا - فنتقدم ونتحضر ونصل إلى القوة والسلطان! وليس من الضروري أن نكفر ونلحد! إنما يجب أن نسارع إلى فصل الدين عن كل ما له علاقة بواقع المجتمع وواقع الحياة!

وتلك هي خلاصة السموم كلها التي وضعها التبشير والاستشراق والاستعمار!!

* * *

ولكن.. بغض النظر عن هذه القصة الطويلة التي استغرقت قرنين من الزمان، فإن هناك واقعاً ملموساً ينبغي تبين أسبابه: واقع القوة والتمكن و " النظافة " الحسية والمعنوية في الغرب في المعاملات اليومية [بصرف النظر عن شئون الجنس!] ووقائع الضعف والتخلف و " القذارة " الحسية والمعنوية في الشرق " الإسلامي " [بالإضافة إلى انتشار الفساد الخلقي في شئون الجنس!!].

هذا واقع ينبغي تبين أسبابه، لتتضح القضية في أذهاننا على حقيقتها، وتتضح الصلة بين المقدمات التي قدمناها كلها وبين الواقع.. وإلا فقدت دلالتها الحقيقية وأصبحت غير ذات موضوع!

* * *

هذا الواقع.. حقيقةٌ مضللة!

وظاهر هذه الحقيقة يقول: هناك دين بلا نظافة [في الشرق] ونظافة بلا دين [في الغرب].

وباطن الحقيقة ليس كذلك!

والمرجع هو التاريخ...

إن أوربا اليوم ليست متدينة.. بمعنى أن الدين لا يحكم الحياة. لا يحكم واقع المجتمع، ولا يحكم الاقتصاد والسياسة، ولا يحكم التعليم، ولا يحكم التوجيه الفكري للناس. وإن كان - فيما عدا هذا - قد يسيطر على مشاعر الناس لحظات في داخل الكنيسة، أو الاحتفال بقديس من القديسين أو.. في التأثر ببعض الأساطير!!

ولكنها دون شك لم تكن كذلك قبل قرون..

يومئذ كانت العقيدة في النفوس أرسخ، وتوجيهها للحياة أشد..

وربما لم تكن أوربا في يوم من الأيام مسيحية بكل معنى الكلمة. فقد ظلت في أعماق الضمير الأوربي - تحت القشرة المسيحية - رواسب عميقة من آثار الفكر اليوناني والحضارة الرومانية الوثنيين، يوجهان جوانب من الحياة الأوربية بوعي أو بغير وعي.. ولكن هذا لا ينفي أن العقيدة المسيحية كانت هي الغالبة في القرون الوسطى.

ثم ضاق الناس بكنيستهم لأسباب عدة:

كانت الكنيسة قوة طاغية غاشمة تفرض على الناس الإتاوات والعشور وترهقهم من أمرهم عسراً.

وكانت تفرض عليهم الخضوع المذل لرجال الدين.

وتفرض عليهم أفكاراً " علمية " مزيفة، باسم أنها كلمة السماء. فإذا أثبت العلم التجريبي والنظري كذبها راحت الكنيسة تحرق العلماء وتعذبهم كما فعلت بكوبرنيكوس وجاليليو وجوردانو برونو لأنهم لم يوافقوا على نظريتها في شكل الأرض ومركزها من الكون.

إلى جانب ذلك مهزلة صكوك الغفران التي تحول الدين إلى سخرية لاهية ضخمة، وتنزع عنه كثيراً من جديته وقداسته.. وكذلك الفسد الخلقي الذريع الذي كان يمارسه " رجال الدين! " متسترين وراء مسوح الرهبان، مما يعف عنه الفرد العادي غير المتمسك بأهداب الدين!

كل ذلك أحدث انفصاماً بين الدين وحياة الناس.. وعزل الدين من الواقع الحي إلى داخل الوجدان.

ثم حدث حادث ضخم في الحياة الأوربية ترتبت عليه آثار في غاية الخطورة. وهو الحروب الصليبية.

ففي تلك الحروب التي انهزم فيها الأوربيون - المسيحيون - في كل حرب تقريبا، وفي النهاية الحاسمة كذلك - تيقظ أولئك الغربيون إلى أمر حاسم: لا بد أن يكون في حياتهم أخطاء واختلالات أدت بهم إلى الهزيمة المنكرة، ولا بد أن يكون في حياة المسلمين من أسباب السلامة والقوة ما مكنهم من الانتصار.

ومن هذه اليقظة تولدت " النهضة " الأوربية.. في كل مجال.

نهضة علمية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وفكرية، وروحية.. الخ.

" لقد كان العلم أهم ما جاءت به الحضارة العربية [148]. على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في أسبانيا، لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام. ولم يكن العلم وحده هو الذي أعاد إلى أوربا الحياة. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية. فإنه على الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون، وأهم ما تكون، في نشأة تلك الطاقة التي تكون ما للعالم الحديث من قوة متميزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره: أي في العلوم الطبيعية، وروح البحث العلمي ". [بريفولت في كتاب " بناء الإنسانية Making of Humanity "].

وعلى الرغم من اهتمام الرجل بالعلوم، وروح البحث العلمي - وما لهذا من دلالة في النهضة الأوربية المعاصرة - فإنه لم يغفل الحقيقة الأوسع مدى وهي أنه " ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة ".

وليس هنا مجال التفصيل في هذا الشأن.. فذلك تتولاه بحوث التاريخ.

ولكنا نقول في إيجاز شديد إن الحروب الصليبية هي التي وجهت أوربا إلى إنشاء نظام " الأمة " بعد أن كانت إقطاعيات يحكم كلا منها إقطاعي تتمثل في شخصه السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويستعبد الناس في الأرض.. وقد وجد الصليبيون في العالم الإسلامي " أمة " تحكمها حكومة مركزية موحدة ويسري فيها قانون واحد يطبق على الجميع بالسوية.. فنقلوا هذا النظام إلى بلادهم فصارت أمما ودولا بعد أن كانت إقطاعيات. وتحطم النظام الإقطاعي وتحرر عبيد الأرض ليصيروا أحراراً كالمسلمين.

والحروب الصليبية وما تلاها من الاحتكاك بالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية هي التي أدت إلى الثورة الدينية على الكنيسة، التي قام بها مارتن لوثر وكالفن في أوربا.

وهي كذلك التي أدت إلى الحركات التحريرية الكبرى ومن بينها الماجنا كارتا وإعلان حقوق الإنسان.

وكانت - إلى جانب ذلك - ذات أثر كبير في الأخلاق الأوربية. فقد أخذ الصليبيون - المنهزمون - عن المسلمين - الظافرين - كثيراً من أخلاقهم الشخصية من صدق وأمانة وإخلاص وتماسك وترابط وتحاب ومودة وتعفف عن الدنايا.. وقد كانوا - في أثناء إقامتهم مع المسلمين في الشام - يرون كيف كان التاجر المسلم إذا جاء وقت الصلاة يترك متجره - مفتوحاً - ويذهب إلى المسجد يؤدي فريضته ثم يعود فلا يسرقها سارق! ويرون كيف يحترم الصغير الكبير، وكيف يتفشى " السلام " بين الناس سواء بالتحية بالفم أو في واقع المجتمع.. كما كانوا يرون دقة أصحاب الصنايع وإتقانهم أعمالهم والإخلاص فيها، وكيف كانت " ذمة " التاجر المسلم رأس ماله الأول، يعد ويفي ويضبط الميعاد!

بهذه الأمور كلها تأثرت الحياة الأوربية إلى جانب الحركة العلمية الكبرى التي نشأت من انتقال المذهب التجريبي من مدارس الأندلس ومدارس الشرق إلى الغرب الأوربي...

وخلاصة هذا الأمر أن الأخلاق الأوربية ذات أصل ديني مسيحي وإسلامي على السواء!

... ولقد وقعت الفجوة بين الدين والحياة في أوربا.. للأسباب التي ذكرناها.

وكانت جفوة تدريجية بطيئة استغرقت بضعة قرون حتى وصلت ذروتها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

وفي أثناء هذه الجفوة تنكر الناس للدين، وفصلوه عن كل القيم النافعة في الحياة!

فصلوه عن العلم.. فنشأت حركة إحياء العلوم على أساس لا ديني.. بل على أسس مناهضة للدين.

وفصلوه عن المجتمع.. فجاء النمو الاجتماعي الحديث على أساس لا ديني (secular) إن لم يكن على أسس معادية للدين.

وفصلوه عن الأخلاق!

قالوا: إن الأخلاق جميلة نعم.. ولكن ليس من الضروري أن نأخذها من تعاليم الدين فلنجعلها قائمة بذاتها، تستمد من " الواقع " أو من " العقل " أو من " الضمير الاجتماعي ". أو من أي معين إلا الدين! [ولا يدخل في هذا الشأن الأخلاق الجنسية.. فهذه قضوا عليها نهائياً بتوجيه الشياطين!].

وهكذا بقيت لأوربا أخلاق.. لكن بغير عنوان الدين!

وقد كانت الجفوة من الشدة والعنف بحيث لم تفصل فقط بين الدين والأخلاق.. بل قد نفّرت الناس تنفيراً من أن يربطوا أي ربط بين الدين والأخلاق.. بل إلى إنكار وجود رابط بينهما على الإطلاق.. بل إلى الإصرار على رفض الأخلاق إن كانت تلبس ثوب الدين، وعدم قبولها إلا أن كانت مفصولة عن الدين واقفة له بالمرصاد!

نعم، يجب أن تكون لنا أخلاق.. ولكن حذار حذار من ربطها بالدين. وإلا تركناها لكم بأجمعها وصرنا لا أخلاقيين! كما أصبحنا من قبل لا دينيين!

وزيادة في التحذير والتنفير تنشأ " مذاهب " كالوجودية تناقش " الأخلاق " من حيث المبدأ، وتقول: لا أخلاق! فما أراه " أنا " خيراً فهو خير.. وما أراه شراً فهو شر!

* * *

ولكن هذه مرحلة في " التطور "!

والذين يظنون أنها يمكن أن تقوم إلى الأبد هم الذين ينظرون إلى رقعة صغيرة من التاريخ! الذين ينظرون إلى عقرب الساعات في الساعة بضع دقائق، ثم يقولون إنه لا يتحرك من مكانه ولا يريم!

لقد بقيت الأخلاق الأوربية - النابعة من المعين الديني - بقيت فترة من الزمن وهي منفصلة عن معينها الأصلي، تسير بقوة الدفع الذاتية، بغير عنوان الدين.

ظلت أوربا فترة من الزمن " نظيفة " الأخلاق، تتعامل على استقامة.. لا يخدعك الغربي ولا يغشك في المعاملات اليومية الفردية. لا يقول لك كلاما ويقصد كلاماً آخر. لا يقدم لك البضاعة المزورة. لا يعطيك الوعد ويخلفه... إلا في السياسة!

وقال الناس - هنا في الشرق الإسلامي -: لا تحتجوا على الغرب بالسياسة.. فالسياسة خدعة! ولكن انظروا إلى التعامل الشخصي. إنها بالضبط الأخلاق التي تنسبونها للإسلام! ولكنها هناك واقع عملي. يربى عليه الطفل فيتشربه، ويربى عليه المجتمع فيصونه! إنها ليست نظريات كالتي تقدمونها باسم الإسلام! ليست مواعظ! إنها حقائق تربوية ضخمة. يبذل فيها جهد دائب لتربية الطفل عليها منذ مولده. يربيه عليها والداه في المنزل، والمدرسون في المدرسة، والواقع الخارجي في المجتمع.. فتتأصل.

الوالدان بذاتهما قدوة.. لا تكذب الأم أمام الطفل ولا الأب فلا يشاهد الطفل الكذب أمام عينيه. فيتعود الصدق من الواقع الموجود في الأسرة. ثم يذهب إلى المدرسة فلا تكذب عليه المدرسة ولا المدرس. ويخرج للمجتمع فيجد الصدق حقيقة.. فينشأ صادقا لا يكذب.

والأمانة كذلك. لا تغش الأم ولا الأب. ولا المدرسة ولا المدرس. ولا الناس في المجتمع. فتصبح الأمانة في نفس الطفل حقيقة.. حقيقة ذات رصيد من الواقع.

وكذلك كل آداب السلوك..

وبهذه الصورة تنشأ كل " الفضائل " التي نفتقدها في الشرق " الإسلامي ". إنها هناك حقيقة ولدينا نحن خواء ومواعظ دينية!

وهم هنالك يصنعونها لا باسم الدين.. وتفلح! ونحن هنا نعظ إليها باسم الدين.. فلا تنجح!

حقا.. هذا هو الوجه الظاهر من القضية..

ولكن هذه كما قلت مرحلة من مراحل " التطور "!.. ولها بعد نتائجها.. الحتمية!

لقد انفصلت الأخلاق في الغرب عن معينها الأصلي. معين الدين. فكيف صارت؟

قامت السياسة بادئ ذي بدء على غير أساس أخلاقي!

في الداخل.. صارت " الطبقة " التي تحكم تشرع لصالحها هي على حساب بقية الطبقات. وظن " علماء " السياسة والاقتصاد هناك أن هذه حتمية " اقتصادية "! وليست حتمية اقتصادية في الواقع. ولكنها تصبح حتمية حين تنفصل السياسة عن مبادئ الدين.. فتصبح السياسة بلا أخلاق! وحين كان المسلمون مسلمين لم تكن هناك طبقة حاكمة تشرع لصالحها. وإنما كان الحكام ينفذون مبادئ الدين التي تقضي بالعدالة بين الجميع!

وفي الخارج.. كانت السياسة الغربية كلها خداعا واحتيالا وغشا ونصبا وسرقة وغصباً وامتصاصاً للدماء! وظن " علماء " السياسة والاقتصاد هناك أن هذه أيضاً حتمية اقتصادية! وإنما هي نتيجة حتمية لانفصال السياسة عن مبادئ الدين! وحين كان المسلمون مسلمين كانت " السياسة " الخارجية هي الصدق والأمانة في السلم وفي الحرب سواء. ومحافظة المسلمين على عهودهم ومواثيقهم مضرب المثل في التاريخ! يقول " ت. و. أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " [ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرين، ص 58 من الترجمة العربية]: " كذلك حدث أن سجل في المعاهدة التي أبرمها أبو عبيدة مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة: فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " ثم قال: ".. فلما علم أبو عبيدة قائد العرب بذلك (أي بتجهيز هرقل لمحاربته) كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردوا عليهم ما جنى من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع. وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم. ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم ". وهذا هو الإسلام!

ثم انفصل السلوك الجنسي عن الأخلاق! وقال الناس هنا وهناك إن هذا " تطور "!

وقد بينا في كل الفصول السابقة أنه ليس " تطورا " وإنما هو انحلال. ولا نحتاج أن نعيد هنا ما قلناه من قبل من آثار الهبوط الجنسي والإباحية الحيوانية في المجتمع الغربي.. فيكفينا في هذا شهادة القرن العشرين، التي أدلى بها الغربيون أنفسهم، وشكوا فيها من انحطاط تلك " الأخلاق ". إنما يعنينا أن نبرز حركة " التطور " المستمرة، الناشئة من انفصال الأخلاق في الغرب عن معينها الأصلي.. معين الدين. وكيف يشمل الفساد جزءاً منها بعد جزء.. لسبب واحد.. هو أنها انفصلت عن ذلك المعين!

إن الذي يزيغ أبصار الناس هنا وهناك.. أن هذا الفساد الخلقي في شئون الجنس - الذي نشأ من ابتعاد المفاهيم الخلقية عن مفاهيم الدين - قد وقف عند هذا الحد، ولم يسر إلى بقية شئون الأخلاق! فماذا علينا إذن - ما دام هذا - ولنسمه الفساد - تطوراً " حتمياً! "، ماذا علينا أن نبيح هذا الفساد الذي لن نستطيع أن نقوِّمه أو نقف في وجهه، ما دامت بقية الكيان الخلقي ما زالت سليمة، والتعامل مستقيما ونظيفاً لم يمسسه السوء؟!

إن الشاب والفتاة في الغرب منحلان خلقيا في شأن الجنس [بمقاييسنا نحن!] ولكنهما ما زالا نظيفي التعامل. لا غش. ولا كذب ولا خداع. واستقامة في الخلق والضمير. وإخلاص في العمل وإتقان.. فماذا نخسر لو جاريناهم وماذا نكسب من دعوى الرجوع إلى الدين؟!

حتى في هذا.. نعود إلى شهادة القرن العشرين!

أين هي " الأخلاق " في الجيل الناشئ في الغرب اليوم؟!

عصابات الخطف والنهب والسرقة والإجرام.. وعصابات الحشيش والأفيون. هل هذه هي الأخلاق؟!

عصابات تيسير الطلاق، التي توقع الأزواج أو الزوجات في جريمة الزنا، ثم تضبطهم متلبسين، لتيسر على الطرف الآخر أن يطلب الطلاق ويقدم الأسباب. والتي يقوم بها أطباء ومحامون.. هل هذه هي الأخلاق؟!

بيـع أسرار الدولة العسكرية لأعدائها مقابل تلبيـة الشذوذ الجنسي.. هل هذه هي الأخلاق؟!

إنها ليست " حالات فردية " مما يوجد في كل مجتمع ولا يلفت إليه الأنظار! إنها ظاهرة اجتماعية تجتمع لها المؤتمرات لتدرسها وتحققها. وتنبه إلى خطورتها!

ثم.. هي آخذة في الازدياد!

حتى الأخلاق " البسيطة " جداً.. التي كانت مضرب الأمثال في الغرب: " الأمانة " في الترام والأتوبيس وعدم " التزويغ " من دفع أجرة الركوب! حتى هذه! صار الجيل الناشئ في أوربا يهرب منها ويخالفها!

قالوا.. هذا أثر الحرب!

وربما كان كذلك! وحقاً إن هذه ليست - بعد - الصورة الغالبة للمجتمع الغربي! ولكنها في طريقها إلى الازدياد.. ومن هنا خطورتها. ومن هنا دلالتها.

كلا! ليست الحرب!

لقد خاض العالم الإسلامي حروبا جمة.. ولقد عاش نصف القرن الأول في حرب دائمة لا تفتر! ومع ذلك فقد كان نصف القرن هذا بالذات هو الفترة التي ترسخت فيها أخلاق الإسلام، وانتشرت في كل مكان وطئته جنود الإسلام!

ليست الحرب! إنما هو الابتعاد عن الدين! هو فصل الأخلاق عن معينها الأصلي الذي لا معين سواه!

لقد خُدع الناس في الغرب خديعة ماكرة حين ظنوا أنهم يستطيعون أن يظلوا بعيداً عن الدين، ثم يظلوا ناجحين، ويظلوا على خلق قويم!

إنها مرحلة من مراحل " التطور ".. لا تثبت! كيف يثبت الناس على المنزلق؟!

لقد بدأ الفساد بالسياسة. ثم شئون الجنس. ثم بقية " الأخلاق ".

ومظاهر القوة والتماسك والصعود والتقدم التي تزيغ أبصار الناس في الشرق وفي الغرب، فيحسبون أنهم يستطيعون أن يبتعدوا عن قانون الله في أي شيء ثم يظلوا ناجحين.. هذه المظاهر خداعة ماكرة! ولنسأل كنيدي.. ولنسأل خروشوف!

إنهما يخشيان نتيجة الانحلال الحالي على مستقبل أمريكا وروسيا! وهما ليسا طفلين صغيرين.. وليسا هازلين.. إنما هما جادان أشد الجد.. يبصران ما لا يبصره هنا الكتاب المزيفون.. التقدميون التطوريون.

إن الغرب يملك قوة حقيقية جبارة وهائلة.. لأنه ما زال يملك رصيداً من " الأخلاق " التي كانت في أصلها مستمدة من الدين.. ولكنه - حين فصلها عن معين الدين - بدأ يهبط.. في كل مجال. ووصل الهبوط إلى الحد المنذر بالخطر.. الذي أطلق الصيحة على لسان كنيدي وخروشوف.

ولن ينهار الغرب غداً.. في أيام أو سنوات!

لا تقاس أعمار الأمم بالأيام والسنوات! وإنما تقاس بالأجيال!

ولكن يتضح الخط الصاعد والخط الهابط من خلال الأجيال!

وشهادة القرن العشرين تقدم لنا الجواب! إنها تقول في أوضح صورة: هذا الجيل في طريقه للانحدار!

كلا.. لا نظافة بلا دين!! إنما هي مرحلة من مراحل الانزلاق.. لم تصل بعد إلى القذارة الكاملة، لأن الأمم تنزلق في بطء شديد.. في أجيال.. وقد بدأ الغرب في الهبوط على المنزلق.. وشهد بذلك الناس هناك!

* * *

أما نحن.. فلسنا مسلمين!

كل دعوى بأننا مسلمون.. باطلة!

مسلمون بأسمائنا؟! مسلمون بسكنانا في الأرض التي " كان " يسكنها المسلمون؟!

أين نحن من الإسلام؟! ماذا فينا يحكمه الإسلام؟!

الإسلام لا يحكم واقع حياتنا كله.. ولا سلوكنا الفردي.. فكيف نكون مسلمين؟!

ولقد كتبت كتابا كاملا سميته " هل نحن مسلمون؟ " بينت فيه كيف بعدنا عن الإسلام وجافيناه. وما أحتاج أن أعيده هنا في هذا الكتاب!

ولكني فقط أقول هذه البديهية التي يستطيع أن يراجعها كل إنسان في نفسه: ماذا فينا يحكمه الإسلام؟!

إن تلك البقية الباقية من العقيدة الإسلامية في صورة " عبادات ". في صورة صوم وصلاة ومسابح، و " حج مبرور ".. كلا! ليست إسلاما!

" لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ " [149]. " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِـي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً " [150].

الإسلام هو أن نكون مسلمين في كل لحظة وكل عمل. كل شئون المجتمع. كل شئون الحياة. كل التعامل الفردي. كل السلوك الشخصي.. وإلا فلسنا بمسلمين.

ونحن ضعاف متخلفون.. كذابون منافقون.. مخادعون غشاشون.. لأننا غير مسلمين.

ويوم كنا مسلمين.. لم يكن شيء من ذلك كله في واقعنا ولا في أخلاقنا!

ولم تكن " الأخلاق " يومئذ وعظا باسم الدين! إنما كانت تربية كاملة في ظل الدين. تربية ينشأ عليها الطفل منذ مولده، ويجد قدوتها في والديه، ورصيدها الواقعي في المجتمع.

ولكننا انحرفنا عن الإسلام في المدى الطويل..!

وما بي هنا أن أدافع عن الإسلام أو أدافع عن الغرب! إن حرباً واحدة أو حربين متلاحقتين أفسدتا من المجتمع الغربي ما أفسدتاه في كل مجال.. حتى الأخلاق الفردية التي كان يفاخر بها الغرب! والعالم الإسلامي قد لاقى صنوفا من الويلات: اليهود والتتار والصليبيين والمستعمرين والمبشرين والمستشرقين، وتلاميذ المبشرين والمستشرقين. والحكام الطغاة من الداخل، والأعداء من الخارج.. وظل متماسكا ألف سنة.. حتى أخذ في الانهيار بعد كل هذه الويلات!

والموجود عندنا اليوم على أي حال ليس دينا بلا نظافة.. وإنما هو لا دين! فقد انحرفنا عن كل مفاهيم الدين، وكل مقومات الدين!

ومع ذلك.. فهناك فرق رئيسي بين انحرافنا وانحراف الغرب!

[148] راجع الهامشة ص 178 من هذا الكتاب: " يقصد الحضارة الإسلامية.. الخ

[149] سورة البقرة [ 177 ]

[150] سورة النساء [ 65 ]

======================

akramalsayed

مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 140 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2011 بواسطة akramalsayed

ساحة النقاش

اكرم السيد بخيت (الطهطاوي)

akramalsayed
ثقافي اجتماعي ديني »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

912,253