في العلم، يبدو أن إطار نظرية المنظومات – ولاسيما كما تنامت إبان العقود الثلاثة الماضية – هو الإطار الأمثل للتعبير عن الأنموذج الإيكولوجي الصاعد. يطرح مقالنا السؤال التالي: ما هو التفكير المنظوماتي – في العلم الحديث؟ يعين الكاتب ثلاثة أوجه عُمُد للتفكير المنظوماتي تتصف بها العلوم كافة. وفي تقديم هذه الأوجه، يتم التشديد على العبور من الأنموذج القديم إلى الأنموذج الجديد.
<!--mstheme-->المصطلحات العُمُد: فلسفة العلوم؛ نظرية المنظومات systems theory؛ النقلة الأنموذجية paradigm shift
يختص الوجه الأول من أوجه التفكير المنظوماتي بالعلاقة بين الجزء والكل. ففي الأنموذج الآلتي، العلمي الكلاسي كان يُعتقد أن دينامية الكل في أية منظومة مركَّبة يمكن أن تُفهَم من خصائص الأجزاء. حسبك أن تعرف الأجزاء، أي خصائصها الأساسية والإواليات التي تتفاعل من خلالها، حتى تستطيع أن تشتق، من حيث المبدأ على الأقل، دينامية الكل. لذا فإن القاعدة المعمول بها كانت الآتية: حتى تفهم أية منظومة مركَّبة ما عليك إلا أن تفتتها إلى قطعها. والقطع لايمكن أن تفسَّر بأكثر من ذلك، إلا بأن تقسَّم إلى قطع أصغر؛ لكنك، بقدر ما تمضي في هذا الإجراء بعيداً، سينتهي بك الأمر عند شوط ما بالحصول على لبنات بناء أساسية – عناصر، جواهر، قسيمات، إلخ – ذات خصائص لايعود بإمكانك أن تفسرها. وبلبنات البناء الأساسية هذه، ذات قوانين التفاعل الأساسية، بوسعك عندئذٍ أن تعيد بناء الكل الأكبر وتحاول تفسير ديناميّته من حيث خصائص أجزائه. لقد بدأ هذا مع ديموقريطس في اليونان القديمة وكان الإجراء الذي صاغه كل من ديكارت ونيوتن والذي صار النظرة العلمية المعمول بها حتى القرن العشرين.
أما في الأنموذج الجديد فالعلاقة بين الجزء والكل هي على العكس من ذلك تماماً. إننا نعتقد أن خصائص الأجزاء لايمكن أن تُفهم إلا من خلال دينامية الكل. فالكل أصل، وحسبك أن تفهم دينامية الكل حتى يمكنك عندئذٍ أن تشتق، من حيث المبدأ على الأقل، خصائص الأجزاء وتفاعلاتها. وهذا الانعكاس في العلاقة بين الجزء والكل حصل في العلم أول ما حصل في الفيزياء إبان العقود الثلاثة الأولى للقرن عندما تمت صياغة نظرية الكوانتوم [الكمّ]. ففي تلك السنين كان مدعاة لدهشة الفيزيائيين العظيمة أن يجدوا أنه ليس بمستطاعهم استعمال مفهوم الجزء – من نحو ذرة، أو قسيم – بالمعنى الكلاسي. فالأجزاء لم يعد بالإمكان تعريفها تعريفاً وافياً. إذ إنها يمكن أن تبدي خصائص مختلفة، تتوقف على السياق الاختباري، فتظهر، على سبيل المثال، على هيئة قسيمات تارة وعلى هيئة أمواج طوراً.
بالتدريج، بدأ الفيزيائيون يدركون أن الطبيعة، على المستوى الذري، لاتظهر بوصفها كوناً ميكانيكياً مؤلَّفاً من لبنات بناء أساسية، إنما بالحري كشبكة من العلاقات، وأنه، في صيرورة الأمر، لاتوجد أجزاء على الإطلاق في هذا النسيج المتلاحم. فأياً كان ما ندعوه جزءاً هو مجرد نموذج يتمتع بشيء من الاستقرار فيلفت انتباهنا بالتالي. لقد بلغ التأثر بالعلاقة الجديدة بين الجزء والكل بفرنر هايزنبرغ، واحد من مؤسِّسي نظرية الكوانتوم، حداً جعله يستعمله عنواناً لسيرته الذاتية الجزء والكل [Der Teil und das Ganze].
<!--mstheme--> من البنية إلى السيرورة
<!--mstheme-->
يتعلق الوجه الثاني من أوجه التفكير المنظوماتي بنقلة من التفكير من حيث البنية إلى التفكير من حيث السيرورة process. التفكير المنظوماتي هو التفكير السيروري. في الأنموذج القديم كان يُظَن أن هناك بنى أساسية، ومن ثم توجد قوى وإواليات تتفاعل من خلالها هذه البنى، فتولِّد سيرورات. أما في الأنموذج الجديد فنعتقد أن السيرورة شأن أولي، وأن كل بنية نرصدها هي تجلٍّ لسيرورة هي منها الأساس. والنقلة من التفكير من حيث البنية إلى التفكير من حيث السيرورة هام بصفة خصة عند التعامل مع منظومات حية. وبناء عليه، فقد عَنْوَنَ إيليا بريغوجين، واحد من المساهمين القادة في نظرية المنظومات الذاتية الانتظام (’’البنى التبديدية‘‘)، كتابه التعليمي الأساسي من الكينونة إلى الصيرورة [De l'Être au Devenir].
لعل الوجه الثالث هو الأعمق بين الأوجه الثلاثة والأصعب على العلماء من حيث التعوُّد عليه. إنه يختص باستعارة المعرفة بوصفها بناء، التي استُعملت في العلم وفي الفلسفة إبان آلاف السنين. يتكلم العلماء على قوانين أساسية fundamental، تشير إلى أساس fundament، أي قاعدة basis بناء المعرفة. على المعرفة أن تُبنى على أسس foundations راسخة ومستتبة؛ فهناك لبنات بناء قاعدية basic للمادة؛ وهناك قوانين أساسية، معادلات أساسية، ثوابت أساسية، مبادئ أساسية. وكل هذا يشير إلى بناء المعرفة، الذي نستعمل للدلالة عليه تعبير Gedankengebäude (بناء الأفكار) الألماني. بذا فإن استعارة المعرفة كبناء ذي أسس متينة استُعمِلت عبر تاريخ العلم والفلسفة الغربيين آلاف السنين.
غير أن أسس المعرفة في العلم تكسرت، أو على الأقل انتقلت عدة مرات، وقد علّق العلماء مراراً على هذا الأمر. فكلما حصلت ثورات علمية كبرى ساد الشعور بأن أسس العلم كانت تتحرك. هكذا كتب ديكارت في كتيِّبه الشهير مقالة في الطريقة حول علوم زمانه: "اعتبرتُ أنه ما من شيء متين يمكن أن يبنى على مثل هذه الأسس المتزحزحة." إذ ذاك شرع ديكارت في بناء علم جديد على أسس راسخة، إنما بعدئذٍ بـ 300 سنة كتب أينشتاين في سيرته الذاتية التعليق التالي على تطور نظرية الكوانتوم:
لكأن الأرض قد سُحِبت من تحت المرء، بلا أي أساس راسخ يمكن أن يقع عليه النظر في أي مكان، كان يمكن للمرء أن يبني عليه.
وهكذا دواليك، على كرّ تاريخ العلم، كان ثمة شعور بأن أسس المعرفة كانت تنتقل، أو حتى تتقوض. وفي الوقت الحاضر، تستدعي النقلة الأنموذجية التي تحدث الآن من جديد مثل هذا الشعور، لكن هذه المرة قد تكون المرة الأخيرة؛ ليس لأنه لن يكون بعد ثمة أي تقدم أو أية تغيرات، بل لأنه لن تكون ثمة بعد أية أسس في المستقبل. قد لانجد من الضروري في أي علم مستقبلي أن نبني معرفتنا على أسس راسخة، وقد نستبدل باستعارة البناء استعارة الشبكة. فكما أننا نرى الواقع من حولنا كشبكة من العلاقات، فإن توصيفاتنا كذلك – مفهوماتنا، نماذجنا، ونظرياتنا – سوف تشكِّل شبكة متواشجة تمثل الظاهرات المرصودة. وفي مثل هذه الشبكة لن يكون ثمة شيء أولي وثانوي، ولن تكون ثمة أسس.
إن استعارة المعرفة كشبكة بدون أساس راسخ هي شيء مقلق جداً لراحة العلماء. ففي الفيزياء صُرِّح بذلك جهراً للمرة الأولى قبل حوالى 40 سنة في النظرية الموسومة بالبوتستراب Bootstrap التي صاغها جيفري تشو. فبحسب نظرية البوتستراب لايمكن اختزال الطبيعة إلى أية كيانات أساسية، من نحو لبنات البناء الأساسية للمادة، إنما يجب أن تُفهَم بالكلية عبر الاتساق الذاتي. الأشياء موجودة بفضل علاقاتها المتساوقة، وعلى الفيزياء كلها أن تنجم وحسب من ضرورة أن مكوِّناتها يجب أن يتساوق بعضها مع بعض ومع ذاتها.
وعلى مدى الأربعين سنة الماضية استعمل تشو مقترب البوتستراب، ومعه معاونوه، لصياغة نظرية شاملة للقسيمات ما تحت الذرية، بالإضافة إلى فلسفة طبيعة أكثر عمومية. وفلسفة البوتستراب هذه لاتتخلى عن فكرة لبنات البناء الأساسية للمادة وحسب، بل لاتقبل أية كيانات أساسية من أي قبيل – لاثوابت، ولاقوانين، ولامعادلات أساسية. الكون المادي يُرى بوصفه نسيجاً دينامياً من الحوادث المتعالقة. وما من خاصية من خصائص أي جزء من أجزاء هذا النسيج تتصف بالأساسية؛ فكلها ينجم من خصائص الأجزاء الأخرى، والاتساق الإجمالي لتعالقاتها يعيِّن بنية النسيج برمته.
إن كون نظرية البوتستراب لاتقبل أية كيانات أساسية يجعلها، برأيي، واحدة من أعمق منظومات الفكر الغربي. وهي، في الوقت نفسه، من الغرابة على طرقنا العلمية المنقولة في التفكير بحيث لاتقتفيها إلا أقلية من الفيزيائيين وحسب.
دور التقريب
إن الأوجه الثلاثة للتفكير المنظوماتي في العلم التي قدَّمتُها هي جميعاً متواكل بعضها على بعض. الطبيعة ترى بوصفها شبكة متواصلة، دينامية من العلاقات، كل ’’الأجزاء‘‘ فيها نماذج مستقرة نسبياً، والظاهرات الطبيعية توصف من حيث شبكة مقابلة من المفاهيم ليس من جزء فيها أكثر أساسية من أي جزء آخر.
هذا المقترَب الجديد إلى العلم يطرح على الفور سؤالاً هاماً. إذا كان كل شيء متصلاً بكل شيء آخر، كيف لك أن تأمل يوماً في فهم أي شيء؟ بما أن كل الظاهرات الطبيعية متواصلة، نحتاج لكي نفسر أياً منها إلى فهم الأخريات جميعاً، الأمر الذي يتعذر القيام به قطعاً. إن ما يجعل تحويل فلسفة النسيج، أو التفكير الشبكي، إلى نظرية علمية أمراً ممكناً هو وجود شيء ما يدعى المعرفة التقريبية. وهذا التبصُّر حاسم لكل العلم الحديث. فإذا رضي المرء بفهم تقريبي للطبيعة، يمكن له أن يصف بهذه الطريقة مجموعات مصطفاة من الظاهرات، مهمِلاً ظاهرات أخرى أقل متاتاً. بذا يستطيع المرء أن يعلِّل ظاهرات عديدة على أساس بضع ظاهرات، وبالتالي أن يفهم أوجهاً مختلفة للطبيعة فهماً تقريبياً بدون أن يضطر إلى فهم كل شيء على الفور.
النظريات العلمية، إذن، توصيفات تقريبية للظاهرات الطبيعية. فهي لاتستطيع أبداً أن تأتي بأي فهم تام ونهائي. وبعبارة فجّة، لايتعامل العلماء مع الحقيقة؛ إنهم يتعاملون مع توصيفات محدودة وتقريبية للواقع.