سلوك المستهلك في الاقتصاد الإسلامي
موكة الألوكة
من المعروف في النظرية الاقتصادية المعاصرة أن الدورة الاقتصادية تتكوَّن من أربع مراحل من الأنشطة، تبدأ بالإنتاج، مرورًا بالتوزيع، والتبادل، وانتهاءً بالاستهلاك، وحيث إن الاستهلاك يعكسُ الطلب الفعَّال على السلع والخِدمات في أي اقتصاد، فإنه قد أخذ اهتمامًا كبيرًا في بحثِ عملية التوازن الاقتصادي، سواء بالنسبة للمستهلِك الفرد، أو المؤسسة، أو على مستوى الاقتصاد القومي.
ولا بد من الإشارة إلى أن سلوك المستهلِك في النظرية الاقتصادية الرأسمالية، تحكمه قاعدة العقلانية الاقتصادية، أو ما يُعرَف بفرضِ الرشد الاقتصادي؛ حيث تفترضُ النظرية الاقتصادية أن المستهلِك في السوق إنما هو من أجل تعظيم المنفعة بالدخل المتاح لديه؛ لشراء السلع والخدمات، ولذلك فالعقلانية الاقتصادية تُفسِّر سلوك المستهلِك على أنه نتيجة عملية مفاضلة يقوم بها المستهلك بين ما يُنفِقه من دخل لشراء السلعة، وبين ما سيحصل عليه منها من إشباع لحاجاته الفردية، من حيث هو فرد مستقل في تحديد اختياراته وتفضيلاته، ومثله كل فرد آخر؛ حيث يُغلِّب مصلحته الذاتية على مصلحة غيره، بموجب مبدأ الفردية، ومبدأ الحرية الاقتصادية، وعلى رأسها حرية الاستهلاك.
والمستهلِك في إطار النظرية الاقتصادية الرأسمالية، يسعى من وراء إنفاق دخله المحدود وَفْقَ فرضية الرشد الاقتصادي، إلى تحقيق أقصى منفعة ممكنة، بغضِّ النظر عن مشروعية المنفعة، ووسائل الحصول عليها، ومن ثَمَّ فهو مستهلِك متوازن ورشيد طالما أنه يُحقِّق في سلوكه الاقتصادي مبدأ المفاضلة بين ما أنفقه من دخل، وما كسبه من منفعة.
أما في الاقتصاد الإسلامي؛ حيث يرتكز في آلياته - إنتاجًا، وتوزيعًا، وتبادلاً، واستهلاكًا - على قواعد الشريعة الإسلامية، المنبثقة من صلب أحكام الدين الإسلامي، فإن تلك القواعد هي التي تحكم السلوك العامَّ للفرد والمجتمع، بما فيه نشاطه الاقتصادي، وحيث إن آليات أي نظام تُؤثِّر في سلوك أفراده مباشرة؛ لذلك فإن سلوك المستهلِك المسلم بما جعل الله تعالى له من ولاية على عنصر المال (الدخل)، وتملُّكه له على سبيل المجاز؛ حيث جعله مستخلفًا فيه ليقوم على إدارته بمقياس: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7]، فله أن ينتفع به بما هو رزق الله له بما يكفيه ويسدّ حاجته وحاجة مَن يعولُهم، من دون إسراف أو تقتير، على قاعدة: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، بما يعني أن مبدأ الرشد الاقتصادي في نظرية الاستهلاك في الاقتصاد الإسلامي يقوم على قاعدة الاعتدال في الإنفاق، من واقع بُعْدٍ عقدي، حتى وإن لم تتحقق للمستهلك أقصى منفعة من إنفاقه على السلع؛ حيث الأصل أن يتمتع الإنسان بملذَّات الحياة الدنيا من السلع والخدمات؛ ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32]، بموجب ضوابط الإسلام، لا بموجب رغبته الفردية وحسب.
لذلك؛ فإن محددات العقيدة الإسلامية، والمعايير الأخلاقية، تظلُّ من العوامل المؤثرة في سلوك المستهلِك في الاقتصاد الإسلامي، إلى جانب العوامل الاقتصادية الصرفة، وفي المقدمة منها بالطبع الدعوة إلى التوسط والاعتدال، فالتعاليم الإسلامية تحضُّ المسلم على بلوغ حد الكفاية في الاستهلاك، وتمنع الإسراف والتبذير في الإنفاق، على قاعدة: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]؛ حيث نجد أن الإسلام يحضُّ المسلم في سلوكه على نبذ الشح والتقتير، والإسراف والتبذير؛ ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، لِمَا يتركه مثل هذا السلوك غير الرشيد من آثار سلبية في إفناء رأس المال، واستنفاد الدخل، وتجميد الاستثمار بالتقتير، والحرمان من الانتفاع بالشح؛ لذلك فإن اعتماد المستهلِك المسلم لمبدأ التوازن، والاعتدال بالارتكاز إلى قاعدة الرشد الاقتصادي، هو ما يمنعه من الانطلاق نحو الحد الأقصى للإشباع ببسط الإنفاق، كما يمنعه في نفس الوقت من الانحدار إلى درك الحد الأدنى بالتقتير؛ حيث تحكم سلوكَه قاعدةُ: ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع)).
وجدير بالذِّكر أن قواعد الاقتصاد الإسلامي قد حرَصَت على تأمين مشروعية الكسب، ونظافة التحصيل في النشاط الاقتصادي؛ حيث حرَّم الدِّين الإسلامي كسبَ الدخل من مصادر غير مشروعة؛ مثل السرقة والاحتكار، كما حرَّم تنمية رأس المال من الغش والتدليس وغيرهـما، وبالمِثل فإنه فقد حرَّم في الوقت نفسه إنفاقه في مجالات إفسادية؛ كالفواحش والمنكرات، على قاعدة: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [البقرة: 60].
وهكذا نجد أن سلوك المستهلِك في الاقتصاد الإسلامي قد تميز عن غيرِه في النظم الاقتصادية، بوازع الرقابة الذاتية وَفْق مقياس: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]؛ حيث يتجلَّى الوازع الإيماني الداخلي في سلوكه بقوَّةٍ تفوق أي رادع خارجي مصطَنَع مما نراه في تلك النُّظم الاقتصادية.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/72048/#ixzz3JGbcVeL0