د خديجة الصبان 

فقدان التوافق والتلائم بين طبيعة مُخرجات مؤسسات التعليم من جهة ، ومتطلبات سوق العمل من جهة أخرى ، ينتج عنه – كما هو معلوم – محذوران خطيران ، الأوَّل : بقاء أعداد كبيرة من خريجي تلك المؤسسات دون عمل ، يُعانون البطالة والفراغ مِمَّا ينتج عنه إفراز إشكالات ذات تأثيرات شديدة الخطورة على البنية الاجتماعية .

والمحذور الثاني : عدم توفُّر ما يسد احتياجات سوق العمل من الأيدي العاملة الوطنيَّة ، مِمَّا يعني الاضطرار إلى الاستقدام والاستعانة بأعداد كبيرة – تصل إلى الملايين – من الأيدي العاملة غير السعودية ؛ وسيلة لا مفرَّ منها لسدِّ احتياجات تلك السوق ، ولتواجد تلك الأعداد الضخمة غير المتجانسة في بلادنا إفرازاته وتأثيراته السلبيَّة على حياتنا في مختلف المجالات ، وهي لا تقلُّ خطورة عن تأثيرات البطالة والفراغ لدى الشباب ، إن لم تفُقْها . 


والذي أسعى إليه من خلال تناولي لهذا المحور ( إصلاح التعليم ) هو الوقوف عند عدد من الوسائل والكيفيات التي يُساعد الأخذ بها على ردم الفجوة بين مُخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل ، وردم تلك الفجوة هو المدخل لحلِّ كثير من القضايا التي يُعاني منها مجتمعنا بجميع فئاته ، والشباب في مقدمتها . 
وسيكون مدخلي إلى التناول : تحديد المراد بالمصطلحات الأساسية للمحور أو ذات الصلة به وهي : سوق العمل ، التعليم ، مؤسسات التعليم ، التعليم العالي ، التدريب . 


1. سوق العمل : " يُعرَّف سوق العمل بأنَّه المؤسسة التنظيميَّة الاقتصادية التي يتفاعل فيها عرض العمل والطلب عليه ، أي المجال الذي يتمُّ فيه بيع الخدمات وشراؤها ، وبالتالي تسعير خدمات العمل " ( التهيئة لسوق العمل ، 165 ) . وتتحكم في سوق العمل شرائح مُختلفة تُؤثر في قراراته ومواقفه ، ومن تلك الشرائح الأيدي العاملة مُختلفة المهارات والاختصاصات الساعية للحصول على فرص عمل مناسبة . وعملية تخصيص الأفراد للوظائف لا تمثل حاجة فردية فقط ، بل هي حاجة ومتطلب اجتماعي يُؤثر في المجتمع سلبًا وإيجابًا ( السابق ، 17 ) .
2. التعليم : يُعرَّف التعليم بأنَّه " ذلك النمط المقصود والمنظم من الخبرات التي تُقدَّم بشكل منتظم في المؤسسات التعليمية خلال المراحل الدراسية المختلفة ؛ بهدف نقل الخبرات وإعداد الأجيال للانخراط في الحياة العامة وسوق العمل " ( عمَّار وأبو زيد ، 93 ) . 


3. التعليم العالي : يُعرَّف التعليم العالي – في سياسة التعليم – بأنَّه " مرحلة التخصُّص العلمي في كافة أنواعه ومستوياته ؛ رعايةً لذوي الكفاية والنبوغ ، وتنميةً لمواهبهم وسدًّا لحاجات المجتمع المختلفة في حاضره ومستقبله، بما يُساير التطور المفيد الذي يحقق أهداف الأمة وغاياتها النبيلة " ( خياط ، 37 ) . والتعليم العالي هو أحد الروافد المهمَّة التي يقع على عاتقها إعداد القوى البشرية المتخصصة لسدِّ حاجات مُؤسسات ومرافق الدولة المختلفة لتلك القوى ، ولتنفيذ خطط التنمية بها .


4. مُؤسسات التعليم العالي : " تطلق اصطلاحًا على أنواع مختلفة من المؤسسات التي تواصل تعليم الشباب بعد مرحلة المدارس الثانوية ، وتشمل كافة الكليات والجامعات ومعاهد التربية وكليات المعلمين والمدارس المهنية [ فوق الثانوية ] ، وقد تكون هذه المعاهد مستقلة بذاتها ، أو أقسامًا تابعة لجامعة واحدة " ( خياط ، 37 ) . وتعدُّ مؤسسات التعليم العالي بمثابة مراكز إشعاع ثقافي للمجتمع تتعرف من خلاله على مشكلاته وتحاول الإسهام في علاجها ، سواءً عن طريق طلابها بتربيتهم تربية متكاملة ، أو عن طريق تفهم القضايا الاجتماعية والمعالجة العلمية لها ، فضلاً عن التنشيط الثقافي ..." ( السابق ، 57 ) .


5. التدريب : عُرَّف التدريب بتعريفات عديدة ، منها بأنه " عملية إكساب الأفراد المعلومات والمعارف الوظيفية التخصصية المتعلقة بأعمالهم وأساليب الأداء الأفضل ، وصقل المهارات والقدرات التي يتمتعون بها وتمكينهم من استثمار الطاقات التي يختزنونها ولم تجد طريقها إلى الاستخدام الفعلي بعد ، إضافة إلى تعديل السلوك وتطوير أساليب الأداء التي تصدر عن الأفراد ، وذلك من أجل إتاحة الفرصة للمزيد من التحسُّين والتطوير في العمل الإنتاجي وتأمين الوصول إلى الأهداف الإنتاجية المتصاعدة " . ومن تعريفات التدريب أيضًا تعريف محمد عبد الوهاب له بأنَّه " عملية منظمة محورها الفرد في مجمله ، تهدف إلى إحداث تغييرات محدَّدة سلوكية وفنية وذهنية لمقابلة احتياجات محدَّدة حالية أو مستقبلية يتطلبها الفرد والعمل الذي يؤديه " ( السليماني ) . 
والموائمة بين مُخرجات التعليم بمستوياته وأنواعه المختلفة وبين متطلبات سوق العمل ، تتطلب مِن بين ما تتطلبه – بلورة استرتيجية تعمل على محاور ثلاثة :


المحور الأوَّل : إصلاح التعليم بمراحله المختلفة ( العام والعالي ) بما يكفل تخريج كوادر تمتلك المهارات اللازمة لشغل الوظائف المختلفة ، وتنطبق عليها معايير الكفاءة الوظيفية قادرة على الصمود أمام المنافسة الإقليمية والعالمية ، أي كوادر عالية التأهيل وذات قابلية للمزيد منه – بحسب المستجدات - ، بما لديها من خلفيات ثقافية وتصوُّر سليم لما سيوكل إليها من مهام وبما تمتلكه من قدرة على التفكير الإبداعي المبني على أساس تعليمي متين ، وانفتاح ثقافي ( إلمام بما يجري حولها ) ، إلى جانب امتلاكها مهارات تُعدُّ أساسيَّة لكلِّ طالب عمل ، كإجادة أكثر من لغة – وفي مقدمتها إجادة اللغة الأم قراءةً وكتابة - ، والقدرة على التعامل بسهولة مع التقنيات الحديثة . وتحقيق ذلك يتطلب من بين ما يتطلبه :


1. تبني رؤية تطويرية شاملة لجميع جوانب العملية التعليمية ، يتم تحديدها والعمل على تحقيقها من خلال عمل مؤسساتي يقوم على التخطيط المعني بشموليته هيكلية التعليم ومجالاته والمناهج والمعلمين وطرق التدريس والتقنيات والمباني والتجهيزات والأنشطة التربوية والتقويم التربوي ، ثم الإدارة المدرسية على أن يأتي على رأس خطوات العمل على تحقيق تلك الرؤية التطويرية إعادة تأهيل وتدريب من هم على رأس العمل من المعلمين ، وجعل حضورهم برامج التدريب الزاميًّا لا اختياريًا ، ثم الأخذ بمبدأ المفاضلة – من خلال المقابلات والاختبارات – لاختيار ذوي الكفاءة والقدرة من بين المتقدمين لشغل وظائف المعلمين . 


2. إعادة النظر في الخطط الدراسيَّة للأقسام العلميَّة بالجامعات والمعاهد والكليات ، بحيث يتمُّ تضمينها مواد وبرامج تعمل على ردم الفجوة بين متطلبات الإعداد العلمي ، ومتطلبات شغل الوظائف المختلفة . وتأتي أهميَّة هذا المحور ( إصلاح التعليم ) من استمرار تفشِّي الشكوى من تدنِّي مستوى طلاب التعليم العام ، وعدم امتلاكهم للمهارات الأساسيَّة ، دراسيَّة كانت أو وغيرها – على الرغم من الإنفاق الهائل للدولة على قطاع التعليم بجميع مراحله ومستوياته – وذلك ما تكشف عنه نتائج اختبارات القبول بالجامعات ( القدرات / التحصيل ) ، ويكشف عنه أيضًا التعثر الدراسي للملتحقين بالجامعات أو نجاحهم بمعدلات منخفضة .

وكلُّ ذلك مُؤشر على ضعف مستوى إعداد أولئك الطلاب ، مِمَّا يعني دخولهم الجامعات وهم يفتقدون المهارات المطلوبة للدراسة الجامعية وللتفوق المتميِّز . ويستمُّر ذلك الحال في الجامعات مع الكثيرين منهم - لأسباب وعوامل ليس هذا موضع الحديث عنها - وينتهي الأمر بتخرُّج شريحة كبيرة منهم وهم غير مؤهلين لولوج أبواب الحياة العلمية من نواحي عِدَّة . وهو وضع يتطلَّب إعادة تأهيلهم ليصبحوا قادرين على شغل المتوفِّر من الوظائف التي تتطلب مواصفات معيَّنة في شاغليها - وليس المؤهل العالي فقط - ، خاصَّة إذا كانت الجهة العارضة لتلك الوظائف شركات القطاع الخاص ومؤسساته ، التي لا يمكنها تحمُّل مستويات أداء متدنية تؤثر سلبًا على إنتاجيتها ومستويات دخلها . 


المحور الثاني : الاهتمام ببرامج إعادة التأهيل والتدريب - مع ربطها بمؤسسات حكومية أو أهلية حتى تُضمن لها صفة الاستمرارية والتنظيم – وتوسيع مجالات التعليم الفني والتدريب المهني وزيادة قدرتهما الاستيعابية وزيادة مناطق تواجدهما ، ودعم إنشاء المزيد من المعاهد والمراكز التدريبية لمختلف التخصُّصات والمستويات التعليمية لا ستقطاب التسربات الطلابية من المدارس والكليات . وكل ذلك ينبغي أن يتم وفق تخطيط مدروس يُبنى على دراسات وأبحاث ومشاركة فاعلة لجهات العمل من خلال آليات مرنة تتولى فيها تلك الجهات دورًا رئيسيًا لتوجيه ذلك النوع من التعليم والتدريب نحو متطلبات السوق والتطورات المتجددة المتوقع حدوثها فيه . إنَّ التدريب في جميع دول العالم أصبح " صناعة كبيرة في نظرياته وأهدافه وأهميته وتنظيمه ومحتواه وطريقته وتجهيزاته وتكلفته وعوائده ، ولم يعد ممكنًا أو مقبولاً أن نتركه للارتجالية والعفوية في تنفيذه وتوجيهه ، إذا أردنا أن يصبح قوة فاعلة ومساهمة في التطورات الاقتصادية والاجتماعية والصناعية والسياسية ... " ( السليماني ، 1 ) .

و " التعليم بالتدريب من الركائز الأساسية في الخطط التنموية التي تسعى الدول إلى تحقيق أهدافها من خلالها داخل المجتمعات ، وتعتبر البرامج التدريبية الحكومية والأهلية من الروافد التي تعمل على رفع الكفاية النوعية للمخرجات التعليمية المهنية " ( السليماني ، 1 ) ولكي تتم الاستفادة القصوى من البرامج التدريبية لا بد من إخضاعها إلى عمليات تقويم دورية تحدِّد صلاحيتها أو عدم صلاحيتها للاستمرار ، و مدى حاجتها إلى التعديل والتطوير . إنَّ الاعتماد على دعم وتطوير البرامج التدريبيَّة وتقديم الحوافز الماديَّة والمعنويَّة للبرامج الأكثر إحتياجًا إليها سوف يكون الذراع الدائمة لتطوير القدرات وربطها بسوق الغمل . ومِمَّا تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أنَّ العديد من شركات القطاع الخاص في المملكة قد أخذت بالفعل في العمل على استيعاب أعداد كبيرة من الخريجين في نوعين من البرامج التدربيَّة : 


النوع الأوَّل : برامج تدريبيَّة مكثَّفة أثناء الخدمة ( On Job Training ) .
النوع الثاني : برامج تدريبيَّة تنتهي بالتوظيف .
وفي حديث لمحافظ المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني – في الملتقى السنوي لمسؤلي التدريب – جاءت الإشارة إلى إنتهاج المؤسسة مؤخرًا لمنهج مشاركة عدد من مؤسسات القطاعين العام والخاص في برامج التدريب ، ومنها برنامج التدريب العسكري المهني ، والتنظيم الوطني للتدريب المشترك ، والتدريب في السجون ، وبرامج خدمة المجتمع والتدريب المستمر ، وبرامج تنمية المنشآت الصغيرة التي ساهمت في استيعاب أكبر عدد ممكن من الشباب السعودي لتأهيلهم بأسلوب تدريب عملي يساعد على الحاقهم بسوق العمل مباشرة .


المحور الثالث : زيادة الطاقة الاستيعابية للجامعات ومؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني في التخصصات التي تتطلبها سوق العمل ، وإشراك القطاع الخاص في اقتراح مسارات دراسية جديدة تلائم الاحتياجات الفعلية لسوق العمل ، وفي المراجعة المستمرة للمناهج والبرامج ، وتوجيه الطلاب إلى التخصصات ذات النسب العاليَّة من جهة فرص العمل مع ربط التخصصات في كليات خدمة المجتمع والمعاهد العليا وأقسام الجامعات العلميَّة وكلياتها باحتياجات سوق العمل . وتأخير الأقسام العلميَّة بالجامعات في الذكر مقصود ، لأنَّ للجامعات أدوارًا أخرى لا تقلُّ أهمية عن تزويد سوق العمل بما تحتاجه من الموارد البشريَّة ، ويأتي في مقدمتها تخريج علماء وباحثين في مجالات لا ترتبط بالعمل اليومي لمختلف الأجهزة الحكوميَّة والخاصَّة وغيرها . 


وللتوصل إلى التوجيه السليم للطلاب لاختيار التخصصات وإلى تحقيق الارتباط بين التخصصات العلميَّة والاحتياجات الفعليَّة لسوق العمل لا بُدَّ من اتخاذ إجراءات عِدَّة يأتي في مقدمتها إيجاد مراكز للتوجيه المهني في المدارس الثانوية والجامعات تكون من مهامِّها توعيَّة الطلبة بالتخصصات العلميَّة التي يمكن أن توفِّر لهم عملاً مضمونًا حال تخرُّجهم.

وإضافة إلى تلك المهمَّة تتولَّى مراكز التوجيه المهني بالجامعات مهمَّة تعريف الطلبة بفرص العمل التي تناسب تخصُّصاتهم بعد التخرج ، كما تتولى التنسيق مع الجهات الأخرى لإقامة الدورات العلميَّة والبرامج التدريبيَّة التي تؤهِّل مَن لم يلتحق منهم بالتخصُّصات ذات النسب العالية من الفرص الوظيفية لإتقان تخصُّصات أخرى غير تخصُّصاتهم الأصلية ، مِمَّا يعني فتح أبواب الفرص الوظيفية أمامهم ، مع ضمان تحقيق رغباتهم عند اختيارهم للتخصُّصات العلميَّة ، وتقليل نسب البطالة الناتجة عن تكدُّس الطلاب في أقسام علميَّة ليس لسوق العمل حاجة كبيرة إليها .

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 3814 مشاهدة
نشرت فى 21 مايو 2013 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,875,483

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters