لكل مقام مقال – شروط الكلام الجيد
نقوم فيما يلي باستعراض الشروط التي يجب أن يتصف بها الكلام حتى يوصف بالسداد، ويكون شاهداً على حكمه المرء وحصافته، وأتساع أفقه، وتذرعَّه بالحكمة فيما ينطق به، ويعبر عنه.
أولا- أن يكون الكلام على مقاس المستمع أو المستمعين. فالملتقى هو الزبون، والمتكلم هو التاجر الذي يُسَوّق سلعته. فإذا ما تحدث مع الناس، فإنك تكون بمثابة التاجر الذي يعرض سلعه على زبائنه. فكلما كنت على جانب أكبر من اللباقة والمهارة في تسويق تجارتك الكلامية، كنت بالتالي محظوظاً مع مخالطيك والمتعاملين معك، ومرغوباً في الجلوس إليك، والإنصات إلى كل ما تَفُوه به من كلام. وحيث إن زبائن كلامك متباينون من حيث السن والثقافة والظروف الاقتصادية، فلابد إذن من تقديم الكلام المناسب لكل منهم، بحيث يكون جاذباً لاهتمامه، ومتمشياً مع مذاقه، وفى حدود مستواه العقلي، والثقافي، وملائماً لظروفه الاقتصادية.
ثانياًـ أن تراعى الأولويات في الكلام. فلكل موقف ما يناسبه، ويتطلب الكلام المناسب له. وبتعبير أخر فإن هناك أولويات يجب مراعاتها، بحيث يبدأ المرء في طَرقْ الموضوعات ذات الأهمية المطلقة، ثم يتلوها الكلام الذي يحتل المرتبة الثانية، فالثالثة، فالرابعة ،فالخامسة …إلخ. وتتحد الأولويات بالنسبة للموضوعات التي يَطْرقها المتكلم، في ضوء مدى إحساس الموجودين بالموقف بأهمية ما يقال فثمة من الموضوعات ما لا يمكن تأجيل طَرقْها أو مناقشتها أو التبليغ بمضمونها. فتلك الموضوعات يجب أن تحتل الأولوية المُطْلقة فيبدأ المتحدث بتناولها؛ لأن تأجيل التعرضَّ لها، يمكن أن تتأتى عنه نتائج وخيمة، ولا يكون لتناولها بعد فوات الأوان فائدة، أو ذب للخطر المُحْدق، أو اجتناب للمنازعات أو لسوء التفاهم.
ثالثاً:أن يكون الكلام مباشرا حتى لا يتوه القصد منه. فمن الأخطاء الخطيرة التي يقع فيها كثير من المتكلمين، اللف والدوران في الحديث، فلا يصيب المتكلم صُلْب الموضوع الذي يرغب في طَرقْه ، بل يدور في حدود هوامشه ، بغير أن يتناول ما يريد إيصاله إلى المستمعين. فهو يَظَل غير مُبَلّغ ما يرغب في إبلاغه ، ومن ثم َّ فإن المستمعين ينصرفون عنه ، ويقطعون عليه طريق الحديث الذي بدأ فيه ، واستمر في لَوكْه دون الوصول إلى غرضه المنشود منه، فلكي يكون الكلام هادفاً ومؤدياً الغرض منه ، يجب أن يكون مباشراً، وبغير إضافة في المقدمات والتمهيدات التي تُضَيّع صُلْب الكلام وجوهره.
رابعاًـ مراعاة الحالة النفسية لمن يوجَّه إليه الكلام. فالكلام العادي الذي يتبادله الناس بعضهم مع بعض، وحتى الكلام المُنَمَّق كالخطابة والمحاضرة لابد أن يأخذ المتكلم في الكلام اعتباره الحالة النفسية التي تَسُود على أفق المستمعين وحالتهم المزاجية، وما يَعْتور قلوبهم من أحاسيس وأفكار. فالكلام المُتصف بالحزن يكون مطلوباً في المواقف الحزينة، والكلام المُتَصف بالبهجة والسرور يكون مطلوباً في المواقف المبهجة والمشتملة على الفرح والسرور. فلابد إذن من وقوف المتكلم على ما يعتمل في قلوب المستمعين إليه من مشاعر وأحاسيس.
خامساً- الحديث شركة بين الموجودين بالموقف. فمن الحقائق التي يجب ألا تعزب عن البال، أن المُلْتئمين في جلسه ما، وهم في الواقع أصحاب حتى في الإدلاء بدلائهم فيما يُطرق من موضوعات. ولكن بالأسف فإن بعض الناس يرغبون في الاستئثار بالكلام دون أي واحد من الموجودين، وبذا فإن من يصغون إليهم سرعان ما يتبرمون بكلامهم، ويحسون بأن أولئك الثرثارين أنانيون، لأنهم يغتصبون حقهم في الكلام ويعتقدون أنهم أولى منهم بالحديث. وموقف كهذا يشتمل ضمناً على اتهام من حرموا من الكلام بأنهم جهلة، أو أن ما يمكن أن يقولوه من كلام لا يستحق أن يُصغى إليه، أو أن ما سوف يعبرون عنه من فكر أو شعور، إنما هو هُراَء لا قيمه له، فهم بثرثرتهم يَحْكمون بطريق غير مباشر على غيرهم بالجهل والحماقة، بالتالي فإنه يستأثرون بالكلام دونهم.
سادساً:ـ مراعاة مشاعر الآخرين. فإن ما يتكلم في أحد الجلسات، يجب أن يكون حذرا لئلا يؤذى مشاعر أحد من الموجودين . فلقد يتعرض المتكلم كمسائل الجنسية أو في وجود آنسة أو سيدة أو بعض الأطفال. وقد يَعْرض لبعض الشخصيات العامة وسيرتهم، ويأخذ في ذَمَّهم وسَبهم والتشهير بهم، وهو لا يعلم أن بين الموجودين في ذات الجلسة بعض أقاربهم أو المُقَربين منهم. وقد يذم فئة الأطباء، بينما يكون بين الموجودين طبيب. فالمهم أن يراعى من يخوض في الحديث ما يمكن أن يترتب على ما يقوله من ثَلم المشاعر.
سابعاً- تحاشى الاستعراضية. ومن الجدير بمراعاته عدم استعراض المتحدث لوضعه المرموق كالثراء والمكانة الوظيفية والمؤهل الدراسي . فمن يتعرض للحديث في أي جلسة تضمه من غيره، يجب عليه أن يَعْزِف عن مدح نفسه من قريب أو من بعيد ، وإذا مدحه أحد الموجودين ، فعليه بالصمت وعدم التعليق إلا بكلمه شكر مع ابتسامة تَنِم على التقبُّل والامتنان .
ثامناًـ القدرة على توقع نتائج ما يقال. كثيرا ما تغيب حقيقة هامه عن الأذهان ،وهى أن الكلام الذي يخرج من اللسان، قد يُفْضى إلى نتائج على أكبر جانب من الخطورة ، كما يحمل لقائله أو لسامعيه أو لشخص غائب أوخَم العواقب. لا ينفع الندم بعد العدم. انطلاق الكلام إلى السامعين، فلا يكون ثمة سبيل إلى استرجاعه، أو الحيلولة دون حدوث عواقبه التي تترتب عليه. من هنا يجب على المرء أن يضع في اعتباره زاويتين أساسيتين: زاوية شخصية، وزاوية سامعيه، فيضع نُصب عينيه أن التفوه بالكلام مسئوليه على أكبر جانب من الخطورة، وعليه من جهة أخرى أن يقف مقدماً على ما سوف يكون لكلامه من أثر ووقَعْ، وما سوف يؤدى إليه من نتائج، فيقوم بتقديمها قبل وقوعها، بحيث يعرف ما إذا كان الكلام الذي سينطق به يمكن أن يُفْضى إلى نتائج طيبه، أم أنه سوف يُفضى إلى نتائج سيئة فيمتنع عن توجيهه إلى سامعيه.
تاسعاً- خلو الكلام من النميمة ومما يعمل على نشر الأحقاد. فمن شروط الكلام الجيد، أن يكون خالياً من أيه إيحاءات بالكراهية والحقد ، سواء من بين الموجودين بالموقف ، أم بين الغائبين. فالخليق بالمرء أن يجعل من كلامه عاملاً مساعداً على توسيع رقعة الحب بين السامعين ، وعلى انقشاع الكراهية والخصومات التي رانت على قلوب بعضهم تجاه بعض.
عاشراًـ الخلو من التزلُُف والتملُّق. وأخيراً يجب أن يكون الكلام بغير مبالغة في إبداء الحب بقصد التقرب إلى بعض الموجودين واسترضائهم. فكلما كان الإطراء في أضيق نطاق ممكن، وبغير إفراط، كان وقعه أفضل. أما الإفراط في المديح ، فإنه يُفْضى إلى نتائج عكسية ، كما أنه يَفْقد قيمته في نظر الممدوحين.
فالأحرى بالمرء إذن ألا يلقى الكلام على عَوَاهِنه أو أن يترك لسانه يسبق فكره النقدي، ومشاعره التمحيصية. فلابد من مراعاة الَمقَام وسياق الجلسة التي تضمُّه وآخرين. فالكلام هو العيار الذي تقاس شخصيتك في ضوئه. وكل جلسة تضمك وآخرين هي امتحان تقاس في ضوئه مكانتك الاجتماعية. فإما أن يرتفع مقامك خلالها إلى أعلى عليين، وإما أن يهبط إلى أسفل سافلين. فكن حذراً ولعل السكوت يكون أفضل من الانخراط في حديث خائب، ولكن لا تتخذ موقفاً سلبياً على طول الخط فتُتَّهم بأنك متكبرِّ أو أنك إمَّع لا رأى لك. فحذرا من أن تنجرف في تيارات كلامية لا تتحكم فيها، بل كن قائد فكرك وضابط لسانك، واجعل من كل موقف يَضُمك وغيرك فرصة سانحة لإثبات أنك شخصية متذرعة بالحصافة في الفكر والقول جميعاً.