الأستاذ الدكتور : عبد الرحيم بن صمايل السلمي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالإصلاح مفردة قرآنية ذات دلالة عظيمة، وقد جاءت في القرآن والسنة بصيغ متعددة، والإصلاح مهمة ووظيفة الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى عن شعيب عليه السلام " قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " هود: 88.
وقد حاول المفسدون اختطاف هذا الشعار العظيم ومنهم فرعون حيث اتهم المصلحين بإظهار الفساد إشارة إلى تبنيه للإصلاح فقال: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ غافر:26.
وادعاه المنافقون كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ البقرة:11.
والمعيار الذي يميز بين صاحب الحق، أو مدعي الإصلاح بالباطل هو صاحب الأمر والتشريع، وهو الله جل جلاله، فهو وحده من يحدد المصلح والمفسد كما قال جل شأنه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ البقرة:220 ويقول سبحانه: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف:56.
وعندما تغيب المرجعية الربانية عن الإصلاح يصبح شعاراً أجوف لا قيمة له، فلا يسمى العمل إصلاحاً إلا بمرجعية الشريعة القائمة على السنة والاتباع، لأن البدع والأهواء ليست إسلاماً حتى لو صدرت من المسلمين، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" رواه البخاري ومسلم، ولا يسمى ما ردته الشريعة إصلاحاً بأي وجه من الوجوه.
وقد اشتهر هذا المصطلح كثيراً قبيل سقوط الدولة العثمانية وبعدها لوضوح أثر الانهيار في البلاد الإسلامية، فقامت مشاريع فكرية، وسياسية تدعو إلى الإصلاح، وتنتسب إليه، ثم استمرت المطالبة بالإصلاح وتعددت مشاربها واتجاهاتها واختلفت رؤاها وأفكارها ومناهجها وأولوياتها إلى اليوم.
وفي هذه الورقة نظرات عجلى لمشاريع الإصلاح، ومحاولة لتقديم " خلاصات واستنتاجات" من تجارب المحاولات الإصلاحية في التاريخ الحديث.
ولا يخفى على القارئ الكريم أنه يستحيل الحديث التفصيلي عن مشاريع الإصلاح كلها، فقد كتبت عن بعض هذه المشاريع كتب كثيرة، فكيف يمكن الإحاطة بكل تلك المشاريع وتقويمها في ورقة مختصرة، ووقت وجيز، وتقرير متخم بالموضوعات المهمة.
ولهذا سأكتفي ببعض الإشارات وأحاول التركيز على القضايا المنهجية ثم أختم ببعض الخلاصات والتوصيات.
محددات الورقة:
سوف تكون هذه الورقة محددة بالمشاريع الإصلاحية التي قام بها الإسلاميون، ولن أتحدث عن المشاريع الحداثية العلمانية لأنها لا تعنينا في هذا الملتقى حسب ظني، وحتى يكون الكلام مركزا فإني اعتنيت بالجانب المنهجي والمرجعيات الفكرية أكثر من الحديث في الحركات الإصلاحية لكثرتها وتشعبها ووجود الدراسات الكثيرة حولها، وربما أشير في الهوامش لبعض هذه الدراسات.
كما أن الحديث سيكون عن الإسلاميين المنتسبين إلى أهل السنة ولن تكون الورقة معنية بالتيارات الشيعية أو الصوفية ونحوها.
والمقصود بالمشاريع ليس الأنشطة والأوعية التي تستعمل في الإصلاح، بل هي الأطر المنهجية التي تجمع بين الناس وتجعل توجههم واحدا، فالمشروع بهذا الاعتبار يساوي الاتجاه، والمنطلقات المحددة، وهو يستعمل بهذا المعنى كثيرا في المجال الفكري.
المدخل المنهجي للورقة:
لا شك أن الإصلاح أمر محمود مصطلحاً ومعنى، وليس من الحكمة والكياسة أن يظهر العلماء وطلبة العلم ضد الإصلاح مهما حاول المنحرفون التزين به، فقد تسمت بعض الحركات والتيارات والمدارس الفكرية بهذا الاسم مع انحرافهم العقدي، وحاولت تمرير المخالفات الشرعية من خلاله، وفي مثل هذه الأحوال فإن من الذكاء والفطنة في إدارة المعركة الفكرية أن لا يتم الهجوم على الأسماء المحمودة كالإصلاح، ولكن يجب الفصل بين الاسم الجميل، والاستعمال الخاطئ، والأفكار المنحرفة، وفي هذه الورقة سوف نسمي بعض هذه التيارات باسم " التيار الإصلاحي"، و" المدرسة الإصلاحية"، و" الإصلاحيون" من الناحية الإجرائية لأنهم ليسوا مصلحين على الحقيقة، ولأنهم عرفوا في الواقع بهذا الاسم وإن كانوا من أبعد الناس عنه في الحقيقة، وهذا المعنى يتكرر في مثل مصطلح العقل، والحرية، والعدالة، والتجديد، والتيسير وغيرها من المعاني المحمودة قبل إلباسها وشاحاً لا يعبر عن حقيقتها، فلا ينبغي أن تكون الصورة الانطباعية عن السلفيين أنهم ضد العقل والإصلاح والحرية والعدالة والتجديد والتيسير ونحوها، وخاصة أنه تم تشويه السلفيين في العالم بأساليب قذرة وهذا أحد هذه الأساليب، وربما كانت هناك بعض الأخطاء في خطابانا العلمي والفكري لم ترعي اللغة المدروسة فساهمت في تكريس هذه الصورة الانطباعية الظالمة.
ولهذا فإن ملف الإصلاح من الملفات المهمة لدى التيار السلفي، وهو أحد التحديات الكبرى أمامه، واستحقاق مفروض في الساحة، ولهذا لا يصلح أن يكون مدخلاً للنقد، وأفضل الطرق في مواجهة التيارات المنحرفة المتسترة بالإصلاح هو الانتقال الى المرجعيات الفكرية والعقدية والمنهجية التي يتم من خلالها طرح العقائد والأفكار والمناهج وتسمى إصلاحاً، فالمرجعية الفكرية هي التي تقف خلف المناهج والأفكار وتنتجها، وإذا تم فحصها ونقدها فإن المناهج الباطلة تسقط بسقوط مرجعيتها، ويتم ذلك مع نزع المسميات الجميلة عنها كما فعل السلف الصالح في تسمية تأويل أهل البدع تحريفاً مع أنهم يستعملون لفظ المؤولة بطريقة إجرائية ليتبين الفئة المعنية بالنقد.
ولهذا رأيت أن أدخل في كلامي حول مشاريع الإصلاح من هذا المدخل، وقد تحصل لي أن هناك مرجعيتين فكريتين ينتج من خلالهما المناهج والأفكار، وقد أثرت في كافة التيارات والحركات والمدارس الإصلاحية، وقد كان تأثيرها بدرجات متفاوتة، ومقادير مختلفة، وهي المرجعية السلفية، والمرجعية التوفيقية التنويرية.
وسوف يكون الحديث في هذا الموضوع من خلال جانبين مهمين وهما:
الأول: أولويات المشاريع الإصلاحية وهي البوابة والمدخل المنهجي الذي من خلاله ينطلق في رؤيته في الإصلاح، والثاني: المقارنة بين مرجعيتين للإصلاح المرجعية السلفية، والمرجعية التنويرية .
أولاً: أولويات المشاريع الإصلاحية:
تعددت رؤى المشاريع الإصلاحية في وصف الداء، وتوصيف الدواء لحال الأمة الإسلامية المعاصرة مع اتفاقها على ضرورة الإصلاح والتغيير للحالة المتردية التي أصابتها، وهذا التعدد يعود إلى الاختلاف المنهجي بين هذه المشاريع في الأولويات، والقضايا التي تحتاج إلى إصلاح وتغيير، والاختلاف في المنبع المؤسس الذي أنتج هذه الرؤى وهو المصادر والمرجعية الفكرية لهذا المشروع أو ذاك.
وفقه الأولويات له جانبان مهمان:
أحدهما : الأولويات المطلقة، وهي القضايا الأولية من حيث قيمتها ومكانتها في سلم الإصلاح في حياة الأمة في كل زمان، ومكان، وتحديد هذا النوع يعد مسألة من المسائل الشرعية، لأن مراتب الأحكام من المسائل الشرعية التي يجب الرجوع فيها إلى النصوص، فمثلا التوحيد أولى من الصلاة، والواجب أولى من المستحب، فكافة المسائل الشرعية يمكن معرفة سلم الأولويات فيها سواء في مجال الأمر أو النهي.
والثاني: الأولويات المقيدة، وهي القضايا التي تختلف أوليتها بحسب البلاد والأفراد والاعتبارات والأحوال الزمانية والمكانية والمرحلية، وهذه لها قواعد تضبط إطارها العام، وهي محل اجتهاد في تحقيق مناطاتها التفصيلية.
وبعض هذه الأولويات اجتهادي إذا كان من النوع الثاني، والتزم قواعد السياسة الشرعية، وبعضها ليس مجالاً للاجتهاد، وذلك إذا تضمن مخالفة شرعية، كمن يقدم الحرية على التوحيد، ويحتج بأن الأمة تعيش تحت الاستبداد ولو تحررت لاستطاعت النهوض وحققت دينها دون ضغوط ولا مصادرات لأن النصوص صريحة في التقديم المطلق للتوحيد.
الإصلاح الديني
أبرز المشاريع الإصلاحية التي جعلت الأولية للإصلاح الديني كمدخل منهجي لكافة فروع الإصلاح الأخرى هي:
دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى، وقد اتخذت من التوحيد والسنة منطلقاً، وناقشت قضايا الشرك في العبادة، وتصحيح العقائد من البدع والمحدثات، وجعلت ذلك مدخلاً للإصلاح السياسي والحضاري العام، وقد تكونت دولة كجزء من المشروع، وتم توظيفها لخدمة الإصلاح العقدي، ونشر الدعوة إلى التوحيد والسنة.
ويعتمد هذا المشروع في تأسيسه العلمي على النصوص الشرعية ومنهج السلف في الاستدلال والتلقي، وطريقة أهل السنة والجماعة في الاعتقاد، والتزكية، والأخلاق وغير ذلك من المنهجيات السنية.
أما في مجال الإصلاح السياسي فقد تعامل الشيخ بواقعية كبيرة، وبُعد نظر للواقع الذي يعمل فيه، ولهذا ركز على الغايات والأهداف العليا وهي إقامة الدين، ونشر العقيدة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعدل، والتحاكم إلى الشريعة، ولم يقف عند الوسائل الإجرائية في اختيار الحاكم، وربما كان اهتمامه الأكبر منصباً على ترسيخ التوحيد، والتحاكم إلى الشريعة، والقيم العليا للحكم، والتعامل بفقه السلف في الإمامة، والأحكام السلطانية.
وعدم وجود الأسئلة الموضوعية لقضية الاستبداد هو التفسير المناسب لعدم اهتمام الشيخ بقضايا العمل السياسي الإجرائي، فالغايات الكبرى للحكم أولى شرعياً وواقعياً من الكلام في طريقة انتخاب الحاكم، وتداول السلطة، وغيرها من المفاهيم التي طرحتها الديمقراطية المعاصرة.
المدرسة الإصلاحية للشيخ محمد عبده، والهدف الأساسي في مشروع محمد عبده هو نهضة الأمة المنكسرة أمام تطور الغرب المادي، ومدخل هذه النهضة يتم من خلال الإصلاح الديني، لان التخلف الحاصل في الأمة جاء بسبب ترسب مفاهيم دينية خاطئة، ولا يتم الخروج منه إلا بحركة إصلاح ديني تشبه حركة الإصلاح الديني البروتستانتية التي قام بها مارتن لوثر، وكانت هي المخرج لأوروبا الحديثة من خرافات الكنيسة، وهي البوابة لزوال التخلف عنها.[1]، وهو بهذا الاعتبار يدخل في الاصلاح الديني، ولكن نهاية مشروعه يعنى بالجانب المدني، فهو يتذرع بالإصلاح الديني للوصول لغاية الإصلاح المطلوب لديه وهو المدنية الحضارية.
وهذا ما يفسر موقف محمد عبده المتشدد ضد الصوفية، والتقليد المذهبي، وأسلوب تدريس علم الكلام، ونحوها من القضايا.
وقد انطلق محمد عبده في إصلاحه الديني من إعلاء المنهج العقلي[2]، والمنهج التوفيقي بين الإسلام والحضارة الغربية[3].
وقد جعل الشيخ محمد عبده الإصلاح الديني المدخل للإصلاح السياسي والمدني، ويستشهد بالتجربة الأوربية ، ويرى أن الأمة بما تعانيه من أمراض وجهل، وتخلف ليست مؤهلة للعمل السياسي، فالإصلاح الديني هو المقدمة للعمل السياسي، ولهذا يرى أن المستبد العادل أفضل للأمة من الديمقراطية.
الإصلاح الفكري
جاء الاهتمام والعناية بالمجال الفكري مع الاشتباك الثقافي مع الغرب، وبروز مسائل جديدة في المجتمع الإسلامي مثل سؤال الهوية، والعلاقة بين القديم والجديد، والتراث والحداثة، والأصالة والمعاصرة، والتجديد والإصلاح، والتقدم والتخلف، والثقافات الوافدة، والتنمية، والصراع الدولي وغيرها، وهذه الإشكالات والأسئلة المعاصرة يوجد في المنهجية السلفية إجابات عليها، ولكن إهمال هذه القضايا في الخطاب السلفي المعاصر، وإهمال تقديم الإجابات الناضجة المنطلقة من النصوص الشرعية أحدث فراغا كبيرا جعل التيارات الأخرى تدخل فيه بمنهجياتها المنحرفة.
وتمثل تجربة مشروع " المعهد العالمي للفكر الإسلامي" أوضح النماذج لأولية الإصلاح الفكري على غيره من المجالات واعتبارها المنطلق المبدئي في علاج مشكلات الأمة ونهضتها، وخروجها من التيه، يقول طه العلواني:" إن الأزمة التي نعانيها أزمة فكرية بالأساس، تندرج تحتها سائر الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها"[4]، وترى التجربة الفكرية للمعهد أن أزمة الأمة لم تبدأ من الافتراق، وظهور البدع والعقائد المنحرفة عن السنة والجماعة، وإنما كانت بالانفصام بين السلطة السياسية والعلماء والمفكرين الذين اضطروا للانعزال عن الحياة والتأثير وهذا ما أوصلالأمةللتخلف الفكري وتقدم غيرها من الأمم عليها، فقد تعطل العقل المسلم عن وظيفة الإنتاجوالإبداع ومواجهة التحديات[5].
ويرى أصحاب هذا المشروع أن للعلاج الفكري زاويتان: الأولى إصلاح الفكر الإسلامي مما أصابه من نضوب الإبداع والتطور، والثاني: تقديم المعرفة الإسلامية في العلوم الإنسانية من خلال مشروعه الشهير " إسلامية المعرفة " لتكون بديلا مؤصلا للفكر العلماني العربي الذي يروج للأفكار والمناهج والمفاهيم الغربية العلمانية من خلال العلوم الإنسانية بنسختها الغربية.
وعند فحص هذه المشروع نجد أن إهماله لمنهج أهل السنة والجماعة وضعف التصور العقدي الشرعي القائم على الدليل له أثر بيّن على مشروعه، يبتدئ من الخطأ في تحديد الداء، وسبب البلاء من خلال إغفال دور الافتراق والبدع، وكذلك بناءه إصلاح الفكر الإسلامي على منهج توفيقي متأثر بالفرق الكلامية العقلانية، والمدرسة الإصلاحية لمحمد عبده، وبعض المناهج الشاذة في الاستدلال.[6]
ولكن في مجال مدافعة الفكر العلماني كان لهم دور بارز في تأسيس المفاهيم والمناهج على العقيدة الإسلامية العامة، ورفض التبعية الفكرية، ونقد التيارات العلمانية بمنهج علمي قوي، وإن كانت محاولات أسلمة العلوم الإنسانية تعنى بتنظيف العلوم الإنسانية من الأفكار المنهجية اللادينية، وهي معطى إنساني يحتاج إلى اختبار وعدم تسليم بقطعياته ومحاولة بناء منهجية تنتج فكرا جديدا أكثر من ترميم الأفكار والمناهج العلمانية لتتوافق مع الإسلام[7]، وهو مشروع يذكر بعلم الكلام الذي وقف ضد الفلسفة والأديان الضالة مع وجود كثير من البدع في أصول الاعتقاد، فإذا جئت إلى جهود الأشاعرة في نقد المعتزلة والملاحدة والباطنية والنصارى وجدت أمراً يدعو للإعجاب مع وجود دخن بسبب المناهج المبتدعة في المسائل والدلائل، وإذا جئت إلى تقرير الاعتقاد وجدت ضلالا وبدعا ومناهج تفسد على الناس أديانهم وتذهب بصفاء العقيدة والمنهج.
وهناك تجربة مشروع آخر جعل ما يسميه " التنوير الثقافي " بوابة الإصلاح وهو تجمع منشق عن حزب النهضة التونسي سموا أنفسهم " الإسلاميون التقدميون"[8]، وهو مشروع مجموع من الفكر اليساري، والاعتزال، وإعلاء من شأن الديمقراطية ومفاهيمها السياسة متطابق مع العلمانية مع أن أصحاب هذا الفكر لا يزالون يتمسحون بإسلامية مشروعهم.
ومثله الخطاب الإسلامي الجديد لمجموعة من المثقفين الإسلاميين المصريين[9] الذي ظهر في عقد الثمانينيات الميلادية، وهو خطاب منفتح على العلمانيين، وغير المسلمين، وتم تدشينه في عام 1991م من خلال كتاب " رؤية إسلامية معاصرة – إعلان مبادئ" تقديم د. أحمد كمال أبو المجد[10]، وتضمن أهم ملامح الخطاب الجديد[11]، وهو محاولة لتجديد الخطاب الإصلاحي لمحمد عبده ومدرسته[12]، وقد جعل حزب الوسط الجديد من كتاباتهم مرجعا للحزب[13]
الإصلاح السياسي
شاركت الحركات الإصلاحية الإسلامية كافة في العمل السياسي من وقت مبكر أثناء وبعد سقوط الخلافة العثمانية، وقد ظهرت أولوية الإصلاح السياسي[14] في الدعوة الإسلامية المعاصرة مع التحول العميق في حركة الإخوان المسلمين والمجموعات المرتبطة بها من الناحية الفكرية[15]من العناية بالهوية، ومحاربة التغريب، والمطالبة بتحكيم الشريعة إلى الدعوة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية، والاعتراف بالآخر وغيرها من المفاهيم ذات الصلة بالديمقراطية الغربية.
وأصبحت الدعوة إلى الحرية والانتخابات مقدمة على الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، فالحرية لها أولوية قصوى على كافة مجالات الإصلاح، وطالب البعض بتأجيل كافة القضايا الشرعية حتى تتحقق الحرية والديمقراطية، وارتبط بهذه القضية المحورية في الخطاب الإصلاحي المعاصر عدد من المسائل والمواقف المنهجية.
وهذا الاتجاه الجديد لدى الإخوان ليس موافقا لمنهج حسن البنا الإصلاحي، وهو تغير منهجي، وتحول فكري من تكريس المنهجية الدينية إلى العمل المدني منزوع الصلة بالدين والعقيدة.
وقد يكون هذا التحول موقفا نفعيا براجماتيا بسبب الضغوط الداخلية من الحكومات، والخارجية من الغرب، ولكنها بالتأكيد أصبح لها أثر عميق في عدد كبير من كوادرهم، أو المنشقين والمختلفين معهم اختلافا حركيا وحزبيا.
وقد ظهر عدد من الشباب في أكثر من بلد عربي فارق الاتجاهات السلفية والإخوانية، وأصبح له سمته الخاصة، وقد جعل من الديمقراطية ومفاهيمها منهجا يوالي ويعادي عليه، وتبدو مشكلة هذا التيار بصياغة خطاب في المجال السياسي يتخلى عن القضايا الشرعية في الإصلاح السياسي، والاهتمام بالديمقراطية والمدنية إلى حد عدم وجود الفوارق بينه وبين التيارات العلمانية المطالبة بالديمقراطية ...، وسيأتي مزيد توضيح لهذا التيار بإذن الله تعالى.
الإصلاح الحضاري
ينبثق مشروع الإصلاح الحضاري من تحديد أصل الأزمة في الأمة وهو"التخلف "، ويحدد علاجها في " النهضة "، ورائد هذا المشروع مالك بن نبي، وتُشكِل المسألة الحضارية حجر الزاوية في مشروعه، ويؤكد ذلك النظرة التاريخية للحظة إشراق الحضارة الإسلامية، وخمول الحضارة الغربية في السابق، ووجود الحالة المفارقة والتغير في الواقع المعاصر بصعود الحضارة الغربية، وخمول الحضارة الإسلامية، وهذا يدل على أن الحضارة هي المؤثر الذي ينتج الأشياء، ويحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية ومستوى التقدم العلمي والصناعي[16]
ويربط مالك بن نبي كافة قضايا الإصلاح نقدا وتأصيلا بالمسألة الحضارية التي تبدأ دورتها بالتفاعل بين أركانها الأساسية وهي الإنسان والوقت والتراب، ويؤدي الدين فيها دورا محوريا حيث تبدأ دورة الروح فتنتقل إلى مرحلة الإنتاج والعمل والانجاز التي تمثل جوهرة الفكرة الدينية[17]، ويلحظ في فكرة مالك بن نبي أن الدين مجرد عامل في البنية الحضارية، كما يظهر البعد المادي، والتعامل المادي في تصوره النهضوي للحضارة والإنسان.
الإصلاح بين دعوى اللاعنف والجهاد القتالي
ظهر في الواقع الإسلامي مشروعان متقابلان من حيث طريقة التغيير للواقع وأوليته في الإصلاح، أحدهما دعوى التغيير السلمي التي تبناها جودت سعيد وتلميذه خالص جلبي، والثانية: التغيير القتالي من خلال الجهاد في سبيل الله، وهناك فرق كبير بين هذين الاتجاهين من حيث المنطلقات العقدية، والتأثير الواقعي في المجتمع.
فتيار اللاعنف ضعيف من حيث الوجود الواقعي، ومتأثر بالغاندية، ولديه منطلقات ماديه -في تقدير أهمية العمل - كان لها أثر في موقفه من الجهاد والقدر وغيرها من القضايا الشرعية، ومع تعظيمه لشأن العمل وأنه أساس النهضة والتغيير إلا أنه يعتمد على فكر مسالم إرجائي مناف للطبيعة البشرية.
أما التيار الجهادي فهو ذو منطلقات سلفية إيمانية صارمة، ولديه بحث تفصيلي للمسائل والقضايا الشرعية، وله حضور واسع في واقع الأمة، ولكن ترجع اشكاليته إلى بعض مظاهر الغلو في مسائل التكفير والحكم على الناس، وتطبيقات العمل الجهادي، والاضطراب في أولويات العمل الإسلامي.
ثانياً: الإصلاح بين التيار السلفي والتيار التنويري:
الخلفية الفكرية للمشاريع الإصلاحية هي المحرك الفعلي للآراء والأفكار والمواقف وخطة العمل واستراتيجياته، ومن خلال تتبع أبرز مشاريع الإصلاح المعاصر منذ مرحلة الاستعمار وسقوط الخلافة نجد أنها تعود إلى تيارين كبيرين يتم من خلالها تشكل العقل الإصلاحي ومنهجيات التغيير، وقد توجد في بعض الحركات والجماعات الكبيرة تأثر بهذا التيار أو ذاك، ولهذا سيكون الحديث عن الخلفية الفكرية للآراء والأفكار بغض النظر عن أسماء الجماعات التي قد يجتمع في بعضها خلفية سلفية، وخلفية تنويرية عصرانية، وقد تتمحض بعضها لمرجعية معينة.
هذان التياران هما: التيار السلفي، والتيار التنويري العصراني.
التيار السلفي:
والتيار السلفي مع اتفاقه على أصول الاعتقاد، ومنهجية الاستدلال إلا أنه مختلف الأقوال، ومتعدد الآراء في مجال الإصلاح السياسي، وهذا الاختلاف ليس اختلافاً جزئياً بل هو اختلاف منهجي؛ وإن كانت اللحمة العامة، والسواد الأعظم للسلفيين على منهجية متوافقة وإن اختلفت الرؤى في بعض الاجتهادات الجزئية مع الاتفاق المنهجي.
فالسلفيون في مجال الإصلاح السياسي طرفان ووسط:
الطرف الأول من يرى التغيير بالجهاد القتالي هو فريضة الوقت وهو ما يسمى في الإعلام " السلفية الجهادية "، ويرى أن حكومات البلاد الإسلامية عميلة للاستعمار، ومرتدة لأنها تحكم بغير الشريعة، وتطبق القوانين الوضعية، وتوالي أعداء الله، وتحارب أولياء الله، ومشروعهم الجهادي يقوم على ثلاثة مراحل: " النكاية"، و " التوحش"، و " التمكين "[18]، وفيه غلاة ومعتدلون.
والطرف الثاني: من يرى في حكومات البلاد الإسلامية حكومات شرعية يجب السمع والطاعة لولاتها، ولا يجوز الخروج عليها، ويوسعون مفهوم الخروج حتى يشمل الاحتساب العلني على المنكرات العلنية التي يمارسها الحاكم، ويبدعون من خالفهم في ذلك، ويعتبرونهم من الخوارج، وينزلون عليهم كلام السلف في أهل البدع، وكذلك في هؤلاء غلاة ومعتدلون.
أما أغلب السلفيين فهم يرون أن الحكومات الحالية لا تحكم بالشريعة، ومستبدة متغلبة بالقوة، ولا تعنى بنشر المنهج الإسلامي، وهي نتيجة الاستعمار، والتآمر الغربي على المنطقة سايكس بيكو، أما التغيير في هذه الحكومات فيكون بالتغيير السلمي بالدعوة إلى التوحيد والسنة، وإصلاح كافة المجالات الاجتماعية، ويرون في الاحتساب العلني على الحاكم مسألة اجتهادية ترجع إلى تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، ولا يرون القتال في بلاد المسلمين لما تجره من مفاسد عظيمة على الدعوة والمجتمع.
وسوف ستكون المقارنة بين هذا المفهوم الوسطي للتيار السلفي، والتيار التنويري.
التيار التنويري العصراني
التيار التنويري: وهو تيار جديد نشأ في أواخر الدولة العثمانية، وفي زمن الاستعمار ولا يزال إلى اليوم، ويسمى أحيانا " التيار العصراني "، أو " التيار الإصلاحي "، أو " التيار العقلاني "، وقد تكونت مرجعيته من التوفيق بين الحضارة الغربية ومنتجاتها الفكرية، والمنهج الإسلامي، وبعض آراء الفرق الكلامية القديمة خصوصاً العقلية المعتزلة والأشاعرة ، وبعض الآراء الشاذة في أصول الفقه.
وهذه المرجعية الفكرية أثرت في طيف واسع من الإسلاميين فمنهم غلاة يتوافقون مع العلمانيين في فصل الدين عن الدولة، ومفهوم الوطنية، والحرية، والتعددية، وحاكمية الشعب، والمطالبة بالديمقراطية منهجا وآليات، فما تنتجه الديمقراطية يجب القبول به على أساس الرضا ويرون ذلك موافق للإسلام ولو كان بتولي حزب علماني أو صعود كافر ليحكم المسلمين.
وبعضهم أقل غلواً حيث تؤثر فيه هذه المرجعية في محاولة أسلمة الوطنية، والقومية، والديمقراطية، والتماس التأويلات الشرعية لذلك،وإنكار حجية الإجماع، وأخبار الآحاد في القضايا الكبرى وما تعم به البلوى، وبعض الآراء الشاذة في الأصول كتقديم المصلحة على النص، والاحتجاج بالخلاف على الإباحة، والترخص الفقهي إلى درجة تحليل الربا، والاختلاط، والتبرج، والغناء، وترك الالتزام بالهدي الظاهر وغيرها من المسائل.
وهذه الأطياف موجودة كتيار عريض في الإخوان المسلمين، وحركة العدالة والتنمية التركية والمغربية، والإصلاح اليمني، وحزب الوسط المصري، وحركة النهضة التونسية، ومشروع النهضة لجاسم سلطان، والتنويريين الجدد في السعودية.[19]
وهناك فروق منهجية عميقة في معالجة التيار السلفي لملف الإصلاح، وأولوياته، وقضاياه، وبين المعالجة التنويرية بكل أطيافها المختلفة.
المنطقات والمرجعيات:
المنهج السلفي منهج عقدي متدين يتعبد لله تعالى بالإصلاح، ويرى أن الأرض الصلبة للإصلاح هي التوحيد والسنة، وان التجديد الديني يكون بإقامة الدين وإزالة الركام الفاسد من التصورات والعقائد والمناهج والأفكار والأعمال الذي أفسدت عقائد المجتمع وأعمالهم، فالمنطلق عقدي تعبدي، والمرجعية هي للإسلام بفهم السلف الصالح ومناهجهم في الاستدلال والاعتقاد.
أما التيار التنويري فينطلق من الرؤية المدنية والدنيوية، وهو متأثر في ذلك بالفكر الغربي المادي، وعندما يطالب بالدولة المدنية لا يقصد الدولة المتحضرة في العمران وأدوات الاتصال، وأشكال التقنية المعاصرة سواء في الطب أو الهندسة، أو الاختراعات الحديثة بكافة مجالاتها بما في ذلك الإدارة والتطوير ونحوها لأن هذا القدر لا يوجد فيه خلاف، ولكن المقصود بالدولة المدنية هي الدولة التي لا تنطلق في قوانينها المدنية ومواقفها السياسية من أبعاد دينية عقدية، وهذا ما يفسر تبرير أردوغان عندما دعا المصريين للقبول بالعلمانية، ويقول أنه رئيس غير علماني يحكم دولة نظامها علماني، وهذا هو ما دعا له الدكتور عبدالوهاب المسيري وسماها " العلمانية الجزئية "، وقد أصبح هذا التيار من دعاة العلمانية الجزئية الناعمة سواء صرح بهذا المصطلح للمسيري أو لم يصرح، ولا يخفى أن هذا قبول بحكم الطاغوت، وهو داخل في الحكم بغير ما أنزل الله.
ولهذا لم يعد عند هذا التيار أي اهتمام أو رفع لشعار تحكيم الشريعة الإسلامية، واستبدلوا بها الدعوة إلى الحرية والديمقراطية، وأصبحت هي شعار الإصلاح، وبعضهم يرفض فلسفة الديمقراطية وجواز التشريع الوضعي، ويعتبر الديمقراطية آليات عمل، ولكنه يقع في أزمة التصويت على الدستور الذي يجعل مرجعية القوانين للشريعة، والقبول بالشريعة فرض لازم، وليس مجال اختيار وتصويت، وأتباع هذا التيار يصرحون بوجوب القبول بنتائج التصويت ولو كانت بجعل مرجعية الدستور يهودية[20]، ومن آليات الديمقراطية القبول بحريات مخالفة للشريعة كحرية أهل الباطل في التعبير، ودعوى اجتماع طوائف وأديان البلد تحت شعار الوطنية، وهي لا تحمل موقفا لعقيدة محددة لأنها تشمل جميع الطوائف والأديان، وهي بهذا الشكل وطنية علمانية[21]، وبهذا تمت الدعوة إلى العلمانية تحت غطاء الأقليات والطوائف والأديان المختلفة، وأنهم مواطنون لهم حق العيش المشترك فكيف يفرض عليهم أحكام دين ليس دينهم، وهي الحجة ذاتها التي يحتج بها العلمانيون في كون العلمانية هي الحل من الاختناق والصراع الطائفي والديني، ثم يقومون بإلصاق ذلك في الدين، وجمع الشبهات والآراء الشاذةو التأصيلات المنحرفة لتسويغ ذلك، وقد أصبحت الهوية الوطنية بديلاً عن الهوية الإسلامية، لأن الأولى عامة، وتخدم كافة المجتمع، والثانية خاصة وقاصرة على فئة من الوطن دون أخرى.
ولغلبة الروح المدنية الدنيوية على هذا الخطاب ضعفت الروح التعبدية والإيمانية، وأصبح بعض الشباب الذين حفظوا كتاب الله، وحصلوا شيئا من علوم الشرعية يعكفون على الأفلام الأمريكية والأغاني الماجنة والعلاقات المحرمة مع الفتيات ويفوت الواجبات الشرعية كالصلاة جماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم الشرعي، وأصبح البديل كتب الثقافة العلمانية والفكر اليساري والروايات الأجنبية، وأصبحوا يتزينون بحِكَم وأقوال ملاحدة التنوير الغربي، ونسوا حِكَم وأقوال العلماء والعباد المسلمين.
وكان من نتيجة هذا التحول الفكري رفض أن يكون هناك تغريب يهدد الهوية الإسلامية، وإنما هو تواصل حضاري مع الآخر، وإنكار لوجود التيارات العلمانية والليبرالية، ولا تعدو المسألة أن تكون رؤى لبعض المثقفين لا أكثر.
بين الأصل والاستثناء:
من المشكلات المنهجية التي تواجه حركة الإصلاح عدم القدرة على فهم ثنائية الأصل والاستثناء، فالأصل في مجال الإصلاح السياسي الدعوة إلى تحكيم الشريعة، وإقامة الدين، والعدل، ونشر العلم والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وتعبيد الناس لرب العالمين، وإقامة العدل وقيم الإسلام الأخلاقية، ولكن عند التعامل مع الواقع لا يستطيع المصلحون تطبيق هذا الأصل لأنهم فئة مستضعفة، وليس لهم سلطة أو قدرة على تطبيق هذا الأمر؛ ولهذا يقومون بعمل الممكن والمقدور عليه لتحقيق أعلى المصالح، ودرء أسوأ المفاسد، وقد يقتضي هذا المشاركة في العمل السياسي بأطره الموجودة دون رأي مسبق، وفي مثل هذه الحالة يجب على المصلحين الانتباه إلى خطورة تحول هذه المشاركات الجزئية إلى غايات ومناهج وأصول، وأنه إذا استطاع الإسلاميون تحقيق أغلبية في البرلمان فقد تحققت غايات المنهج الإسلامي في الإصلاح، والحقيقة أن غايات المنهج الإسلامي أكبر وأشمل وأعلى من أطر مصنوعة مسبقا ومليئة بالأخطاء والتجاوزات وهي في النهاية لا تحقق إلا هدف منشئها.
وربما تكون هذه الصورة واضحة في البداية ولكن مع الدخول في المعترك والتجاذب مع المخالفين والغوص في اللعبة السياسية ينسى البعض الغايات الكلية، وربما تغيرت مع الزمن نظرته لمفاهيم الإصلاح، والانحراف يبدأ صغيرا ثم يكبر مع الزمن حتى يشق لملمته.
يقول ابن عاشور رحمه الله: "إن المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر، ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال الآتية؛ إذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الإصلاحي،وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله تعالى: ﭽﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭼالحشر:10 دليلاً على إبقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فتح العراق، وجعلها خراجًا لأهلها قصدًا لدوام الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين"[22].
والمحافظة على نقاء المنهج أولى من أي مكسب آخر، لأن الانتصار إنما يكون بقوة الالتزام بالحق، وليس بحشد الأتباع، والمعجبون، ولا يخفى علينا أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، والرجلان، ويأتي النبي ليس معه أحد.
وأرى هناك حماسة شديدة للمشاركة السياسية لدى كثير من دعاة المنهج السلفي بعد الثورات للإصلاح، ومحاولة للتبرؤ من الرأي القديم المانع من المشاركة لما فيها من المفاسد العظيمة، ولعل في المشاركة لتقليل الشر خير بإذن الله تعالى، ولكن يجب الانتباه للمحاذير في العمل السياسي وعدم تضييع نشر العلم والتربية والعمل الاجتماعي وتربية الأمة على المنهج، والانتباه إلى خطورة الاندفاع للمطالبة بالديمقراطية كحل منقذ للأمة، وبعبارة أخرى يجب أن يتم شرح أهداف وغايات المشاركة السياسية للناس وأنه مجرد تخفيف للفساد، وليس هو خيار الأمة الحقيقي لو كانت مستقلة دون ضغوط، كما أن الرأي المانع للمشاركة السياسي لا يجوز اهماله واحتقاره في حالة الحماسة الشديدة، بل هو رأي علمي قائم على أصول شرعية متينة لا يجوز هجره أو انتقاصه بأي وجه من الوجوه.
خلاصات وتوصيات:
أولا : إن أعظم ما يجب التواصي به بين الدعاة والعلماء ترسيخ منهج أهل السنة والجماعة، ومنطلقاته العقدية، وبث الروح الإيمانية في المجتمع وتربية الأمة عليها، وهذه القضية تعد قضية مفصلية لأنها تواجه تيارين مؤثرين في الأمة:
التيار العلماني الدنيوي[23] ومن تأثر به من جهة المنطلقات العقدية، وأن الدنيا ليست غاية بل هي وسيلة للآخرة ومزرعة لها، وكلما كانت الدعوة مرتبطة بالتوحيد، والالتزام بالسنة، والدعوة إلى الآخرة فهي دعوة راشدة، وهذا ما يرفضه الفكر العلماني بمنهجية واعية، ويمارسه التيار التنويري والعصراني بصورة عملية.
التيار البدعي المخالف لمنهج أهل السنة في التلقي والاستدلال وغيرها من الأبواب من خلال أدوات عقلية أو كشفية تلغي مدلولات النصوص والتسليم بها.
ولهذا يجب أن يتواصى العلماء وطلبة العلم بحراسة منهج أهل السنة والجماعة، وتقديمه للناس -وبخاصة الشباب والأجيال الجديدة - بطرق مقنعة نظيفة، وقدوة مؤثرة، وتربية ملتزمة، واستعلاء إيماني، وعناية بتطبيق السنة في الظاهر والباطن.
والمساومة على المنهج، ورمادية الفكر، وتقديم التنازلات المنهجية، وتذويب الفروق العقدية، وتبرير أخطاء المجتمعات، واعتماد التأويل، وتلمس الشواذ من الآراء والفتاوى، والتذاكي بالحيادية في معركة كسر العظم مع الموجات العلمانية والبدعية: تفقد الداعية أهم عناصر قوته فيخسر التأثير الحقيقي في المجتمع، والالتزام الصحيح بالوحي، وأقرب مثال على ذلك المدرسة الإصلاحية لمحمد عبده التي انتهت بموته كمدرسة كما يتفق على ذلك كافة المؤرخين للفكر العربي المعاصر.
ثانيا: الإصلاح الشامل لقضايا الأمة القائم على أساس الإصلاح العقدي والإيماني كأولية مطلقة، ومنطلق مرجعي، فالأمة تحتاج إلى إصلاح ديني، وسياسي، واجتماعي، وفكري وغيرها، وإنما وقع الإشكال في المشاريع الإصلاحية من جهة تقديم نوع من الإصلاح كأولية على الإصلاح العقدي، أو بناء الإصلاح على منهج مخالف للسنة والجماعة في المنطلقات أو القضايا والمفاهيم، فلا يعتبر إصلاحا إذا تجاوز الشريعة وأحكامها..
وإذا قام الإصلاح على أساس الإصلاح العقدي والإيماني، وعلى منهج أهل السنة والجماعة فإن الاشتغال بأي نوع من أنواع الإصلاح يكون من التخصص المحمود، والتنوع المطلوب، والتعدد المفيد، فالأمة تحتاج لكل جهد مفيد داخل إطار تعظيم النص الشرعي، والالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية.
ثالثا: أن الإصلاح السياسي يجب أن يراعي الغايات الكبرى وهي تحكيم الشريعة، وإقامة الدين، وأن تكون الوسائل الإجرائية متوافقة مع الغايات المقاصدية للإسلام هذا على المستوى المنهجي، أما التعامل مع الواقع فهو راجع إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، ولا يجوز أن تتحول الحالات الاستثنائية التي يتم التعامل فيها مع واقع مختل إلى رضا بالحال المنحرف، وإلباسه رداءا إسلاميا كما في حالة الديمقراطية ومفاهيمها الليبرالية.
رابعا: الأصل في الإصلاح أنه موجه للمجتمع، والعمل السياسي وسيلة لدرء المفسدة، وتحقيق المصلحة، وليس غاية بذاته، فإذا تم إهمال الأصل وهو دعوة المجتمع للانشغال بالعمل السياسي وجمع الأصوات والمعارك الانتخابية والإعلامية، والانهماك في صرف الأموال على الحملات الانتخابية بدل صرفها على المؤسسات العلمية والدعوية التي تبني الكوادر الدعوية والاحتسابية فهذا مؤشر على فقدان الدعوة للبوصلة، ومعبر على وجود خلل منهجي يحتاج إلى تصحيح ضروري، ولا ينبغي أن يؤثر العمل السياسي على الشباب الدعاة فيشغلهم عن العلم والتربية والعمل الخيري وبناء المؤسسات وتوسيع هداية الناس وإصلاح مشكلاتهم فهذه الأمور هي الأصل والعمل السياسي جاء لسد حاجة، ولحماية الدعوة، فلا ينبغي أن تتحول الاستثناءات إلى قواعد نسير عليها، وكثير من الحركات الإسلامية تحولت بسبب ذلك من حركة إسلامية لتعليم الناس، وتربية المجتمع، ومدافعة التغريب، وترسيخ الهوية إلى حركة ديمقراطية وسياسية تسعى إلى إحراز مقاعد انتخابية، وترسخ لمفاهيم الحرية والمواطنة والتعددية والموقف من الآخر على أساس مدني دنيوي.
خامسا: تعود انحرافات المشاريع الإصلاحية إلى جملة من الأسباب التي يجب أن ننتبه لها في دعوتنا وعملنا حتى لا تتكرر هذه الانحرافات في الاتجاه السلفي المعاصر، ومنها: ضعف التأصيل الشرعي، وقصور التربية السلوكية والتعبدية، والانبهار بالتيارات العلمانية وطرائقها في التفكير، وأساليب الصياغة المنهجية للأفكار، وفقدان البدائل والمشاريع المنافسة، وتواضع آليات العمل، واختلاط مصادر التلقي، والانفتاح غير الراشد وغيرها من الأسباب، وهذا يستدعي ضرورة العناية بالتأصيل العلمي، والتربية التعبدية، والاعتزاز بالمنهج، وإيجاد البدائل المنافسة، والمشاريع والمؤسسات التي تحتوي الشباب، وترشدهم.
سادسا: ضرورة إبراز مفاهيم السياسية الشرعية، وتعليم الناس الحريات الشرعية وحدودها، وتأصيل المفاهيم الجديدة في الفكر السياسي، وبيان ما يوافق الشرع وما يخالفه، ونقد أطروحات الإسلاميين المتأثرين بالعلمانية، فقد استطاعت الثوراث العربية إسقاط الأنظمة التي دعمت العلمانية المتطرفة مثل النظام التونسي، والليبي، والمصري، وبقيت العلمانية الناعمة، واللينة التي تحاول تمرير المفاهيم والأفكار العلمانية دوم صدام صريح مع الدين؛ وخاصة التيار التنويري الذي يصبغ على هذه العلمانية الناعمة غطاءا شرعيا، وشعار العلمانية الناعمة في هذا الوقت هو الديمقراطية والحريات والتعددية والوطنية والتعايش والتسامح الديني وغيرها من المفاهيم، وستارها تقديم المصلحة على النص، وإسقاط عمر رضي الله عنه حد السرقة عام الرمادة، ومقاصد الشاطبي، والاحتجاج بالخلاف الفقهي ولو كان خلافا شاذا، وتنزيله في غير مناطه ونحو ذلك.
سابعاً: العناية الشمولية بإصلاح احتياجات المجتمع الإسلامي، وعدم التركيز على جانب معين بطريقة نمطية، وعدم حصر الدعوة السلفية في ركن ضيق، فهناك مجالات وآفاق جديدة من المهم أن يوجد للتيار السلفي مواطن أقدام فيها، مثل قضايا الفكر المعاصر، و قضايا الثقافة، والتنمية، والحقوق، والسياسة، والاقتصاد والعلوم الإنسانية وغيرها من المجالات التي يجب أن يعرف الناس منهج السلف في الإجابة على أسئلتها، فالاحتكاك مع الغرب فرض أسئلة فكرية تحتاج إلى إجابات مبنية على المنهجية السلفية، وهذا ما لا يستطيعه طالب العلم الشرعي غير الخبير بهذه العلوم ونشأتها وكيفية بنائها.
ولهذا فنحن بحاجة إلى وجود قاعدة علمية شرعية لحفظ المنهج في المجتمعات الشبابية ثم توجيهها إلى الدراسات العليا المتخصصة ليخرج لنا كفاءات عالية الجودة وذات منطلقات سلفية قوية، وهذا ما يحتاج إلى جهد وصبر وعمل دءوب ورؤية مستقبلية ناضجة.
وقد زرت عددا من البلاد العربية فوجدت أن هناك انزواءً للشيوخ، وطلاب العلم السلفيين، وأصبحت لهم نمطية معينة لا تتجاوز مصطلح الحديث والتخريج، وهذه علوم شريفة في غاية الأهمية، ولكن ليس من المصلحة والوعي والحكمة أن يهمل بقية شباب الدعوة السلفيين في التخصصات الأخرى، وقد أهمل الكثير من الشباب تخصصاتهم المختلفة ولم يوظفوها في خدمة المنهج بسبب عدم شعورهم بالرؤية التكاملية في احتياجات الأمة، وظنوا أنه لا يمكن توجيهها لخدمة الدعوة والمنهج، وهذا خلل في التفكير يحتاج إلى مراجعة.
وأصبح المتصدرين لتوجيه الشباب الجدد مجموعات من المثقفين الذين لا يملكون تأصيلا شرعيا متينا، فأصبحوا يخبطون خبط عشواء، وكانوا سببا في ظهور تيارات تناوئ المنهج السلفي، وتتهمه بأبشع التهم، بعضها من الظلم والعدوان، وبعضها وجدوا لها ما يسندهم من الشواهد والأمثلة لبعض شبابنا غير الناضج مع كل أسف.
-------------------------------------------
[1] حضور حركة الإصلاح الديني لمارتن لوثر في فكر المدرسة الإصلاحية وتأثرها به واضح بصورة كبيرة، انظر: المجموعة الكاملة لمحمد عبده 1/ 159، والفكر العربي في عصر النهضة – ألبرت حوراني – ص 131، وانظر مقالة رشيد رضا " مارتن لوثر وابن تيمية " المنار مجلد 15، جزء 7، ص: 542
[2] انظر تطبيقات عقلانية محمد عبده في التفسير كحقل نموذجي لذلك كتاب: منهج المدرسة العقلية في التفسير للدكتور فهد الرومي.
[3] يراجع نماذج لهذا المنهج في كتاب ألبرت حوراني السابق، وكتاب الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين.
[4] إسلامية المعرفة: المبادئ العامة-الخطة-الإنجازات، ص 31 وهذا الكتاب خلاصة لتجربة المعهد الفكرية.
[5] المصدر السابق ص 39 ومابعدها.
[6] يمكن رصد هذه الجوانب من خلال إصدارات المعهد مثل كتابات طه العلواني الذي ينكر السنة، وحد الردة، والدعوة إلى حرية الاعتقاد للحق والباطل، وكذلك مجلة المسلم المعاصر التي أصلت لقواعد أصولية وفقهية أضعفت من التسليم للنص الشرعي من خلال المصلحة والمقاصد وفقه الضرورة والحاجة والاحتجاج بالخلاف على الاباحة وتروج الفتاوى الشاذة من خلال فقه التيسير.
[7] تجدر الإشارة إلى الثناء العاطر على بعض كتابات الدكتور نصر عارف في منهجية بناء المفاهيم، والفكر السياسي الإسلامي ففيها فوائد نفيسة .. ومثله كتاب الدكتور محمد أمزيان في مناهج البحث الاجتماعي وغيرها.
[8] انظر تعريفا بهذا الاتجاه في : الإسلاميون التقدميون في تونس، صلاح الدين الجورشي، تقديم أحميدة النيفر، ورضوان السيد ، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ، 2000 م، ولهم مجلة باسم " مجلة الفكر الإسلامي المستقل" صدر منها 22 عددا، والإسلام السياسي : صوت الجنوب، فرانسوا بورجا، ترجمة لورين فوزي زكري، دار العالم الثالث 2001 م.
[9] منهم : د. احمد كمال أبو المجد، وطارق البشري، ود. فهمي هويدي، والشيخ القرضاوي، ومحمد سليم العوا.
[10] مطبوع في دار الشروق عام 1991 م.
[11] وكان من أوائل من تنبه لهذا التيار ونقده الشيخ سفر الحوالي في محاضرة " العلمانية في طورها الجديد "
[12] كتب الباحث الأمريكي ريموند بيكر كتابا حول هذا التيار بعنوان " إسلام بلا خوف : مصر والإسلاميون الجدد " ترجمه منار الشوربجي، المركز العلمي للدراسات السياسية، عام 2008.
[13] انظر كتاب " رؤية الوسط في السياسة والمجتمع " أبو العلا ماضي، مكتبة الشروق الدولية عام 2005.
[14] هناك فرق جوهري بين المشاركة السياسية، وبين أولوية الإصلاح السياسي، فالمشاركة تمت من كافة المشاريع الإصلاحية، ولكن أولوية الإصلاح السياسي وتقديمه على كافة المجالات الأخرى لم تظهر إلا في فترة متأخرة.
[15] مثل حركة النهضة التونسية، والعدالة والتنمية المغربية، وحزب العدالة التركي وجماعة الإخوان المسلمين في الأردن وغيرها، وهذا التغير الجديد ظهر مع بداية الألفية الجديدة من خلال مجموعة من الوثائق للإخوان في مصر والأردن وغيرها.ينظر كتاب الإصلاح السياسي ، محمد أبو رمان، ط الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[16] انظر: فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونج – مالك بن نبي - ص 75-83
[17] شروط النهضة 52-64
[18] يراجع للشرح التفصيلي لهذه المراحل: الجهاد والاجتهاد – أبو قتادة الفلسطيني-، و إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة – أبو بكر ناجي -، ويعد موقع التوحيد والجهاد www.tawhed.ws جامعا لأبرز أدبيات الحركة الجهادية، وهو مرجع هام لمعرفة أفكارهم وأدلتها، ويوجد به كتب كثيرة
[19] تراجع أفكار التيار التنويري في بعض الكتب والمقالات ويمثلهم قديما: مدرسة محمد عبده، وحديثا : كتابات طارق البشري، وسليم العوا، ومحمد كمال أبو المجد، ومشروع إسلام أون لاين وبديله أون إسلام، وكتاب" فقه الدين والسياسة تمييز لا انفصال " سعدالدين العثماني وهو دعوة للعلمانية تحت غطاء أصولي ، وكتابات بعض الشباب في مواقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك وتويتر.
[20] وهم يراهنون على أن المجتمع الإسلامي سيختار ال�