تشكل تقنية المعلومات والاتصالات إحدى أعظم القوى الكامنة التي تساهم في تشكيل ملامح القرن الحادي والعشرين، وينعكس تأثيرها الثوري على طريقة حياة الناس وتعليمهم وعملهم، وعلى طريقة تفاعل الحكومات مع المجتمع المدني. وبسرعة تغدو تقنية المعلومات والاتصالات محركا حيوياً للنمو في الاقتصاد العالمي، وهي تؤهل أيضاً كثيراً من الأفراد والجماعات والشركات التي تتميز بالإقدام، لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية بفعالية أكبر وبقدرة عظيمة الإبداع، حيث إن جوهر التحول الاجتماعي والاقتصادي الذي تقوده تقنية المعلومات يتجلى في قدرتها على مساعدة الأفراد والمجتمعات على استخدام المعرفة وإبداع الأفكار.
وتتلخص رؤيتنا لمجتمع المعلومات في أنه مجتمع التأهيل الأفضل لاستنهاض قوى الناس الكامنة وتحقيق طموحاتهم، فقد دفعت نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين دول الغرب الرأسمالي إلى رسم سيناريو عالمي جديد قائم وفق فكرة انتصار الفكر الرأسمالي واقتصاد السوق - الشيوعي والرأسمالي - كانت الولايات المتحدة في طليعة الدول التي نادت بوضع نظام عالمي جديد بدلاً من نظام الحرب الباردة الذى ميَّز جانبا مهمّا من السياسات والتحالفات الدولية التي ظهرت في نهاية الحرب العالمية الثانية، واستمرت حتى عقد التسعينيات من القرن الماضي، كان النظام العالمي الجديد - الذي روجت له الولايات المتحدة - نظاماً مرتكزا إلى وجود قطب واحد في المركز تحتكره لنفسها، فيما تدور باقي دول العالم في المحيط، وهو ما يعني أنه نظام هادف إلى نشر القيم الأمريكية.
إن هذا التطور - الذي لا سابق له في العلاقات الدولية - عزَّز بروز ظاهرة العولمة وانسحابها على مختلف ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والتقانة، وهي التي تهمنا في بحثنا هذا، والعولمة من حيث هي، قاطرة الاندماج الاقتصادي وتوحيد الأسواق الدولية وتفعيل قوى السوق، تصبّ في مصلحة القطب الأقوى اقتصاديا وسياسياً وعسكرياً وثقافيا، أي الولايات المتحدة.
والعولمة كظاهرة ومفهوم، دلالة استنسابية، فبعضهم ربطها بمجموعة المفاهيم والإيديولوجيات وسيرورتها في الطروحات المركزية الغربية، وبأشكال العلاقات الاقتصادية المتغيرة، وبالإنتاج السلعي الرأسمالي والتيارات الفكرية التي تقود فعالياتها في تلك المجتمعات ومقدرات المجتمع الإنساني؛ وبعضهم طابق بين العولمة ومفهوم الأمركة، بفرض أن الولايات المتحدة تمثل في المرحلة الحالية مركز الاستقطاب الدولي أحادي الجانب، وآخرون ربطوها بالانفجار المعرفي وتطور التقانة العصرية في المعلوماتية الكاسحة التي جعلت من الكوكب الأرضي قرية كونية صغيرة.
ومازالت المطارحات الجدلية الفردية والجماعية، والمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية متعددة المناقب في لهاثها وتسارعها الجدلي الملحوظ داخل مجتمعات العولمة ذاتها، والبِنَى المجتمعية التابعة والساكنة في رحابها وظلالها أو المندمجة معها بوعي أو بدونه.
تاريخ تقنية المعلومات
منذ أكثر من خمسين سنة مضت، ظهر الحاسب الآلي عام (1948م)، واتخذ تطوره مساراً من عدة نقلات نوعية يرمز إليها بالأجيال الأربعة، والتي كان الفيصل فيها هو التغيير الذي طرأ على العنصر المادي الأساسي المستخدم في بناء وحدة المعالجة المركزية والذاكرة. وساد القطب الأمريكي على صناعة الحاسبات عبر هذه الأجيال الأربعة من عتاده، والتي وفرت طاقة حسابية هائلة لم تتمكن البرامج من استغلالها، وظلت الهوة تتسع بين إمكانات العتاد وقدرة البرمجيات التي ما تزال إلى حد بعيد حرفة لم تخضع بعد للضبط المنهجي الدقيق وتفتقد في كثير من جوانبها إلى الأسس العلمية الدقيقة. هذه هي الفجوة التي حاول القطب الياباني النفاذ منها ليفرض هيمنته على تقانة المعلومات، وجاء المشروع الياباني نافذاً منها ليفرض هيمنته على الولايات المتحدة وأوروبا، في صورة مشروع طموح مدته عشر سنوات من عام (1982م - 1992م)، أطلقوا عليه مشروع الجيل الخامس، الذي تبوأت البرمجيات موضع الصدارة منه ليتوارى العتاد خلفها.
ولقد سعى مصممو الجيل الخامس إلى تطوير حاسب ذكي قادر على التحليل والتركيب، وعلى الاستنتاج المنطقي، وحل المسائل، وبرهنة النظريات، وفهم النصوص، وتأليف المقالات. لقد راهنت اليابان بمصيرها في تقانة المعلومات على هندسة وأساليب الذكاء الاصطناعي. وبرزت ملامح الخريطة الجيومعلوماتية، في صورة قطبين أمريكي وآسيوي يسعى كل منهما لاحتواء الآخر، وكيان أوروبي مشترك يَعِدُّ الأمن المعلوماتي أحد الأهداف الرئيسية لتكتله الاقتصادي والسياسي.
ومن خلال ذلك تابعت الولايات المتحدة تطوير تقانة المعلومات، فقد أقامت المشاريع المتقدمة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية شبكة أربانيت، للربط بين الجامعات ومراكز البحوث الأمريكية ضماناً لاستمرار التواصل بين العلماء ومتخذي القرار العسكري والسياسي، في حالة حدوث ضربة سوفيتية نووية مفاجئة، وكانت البداية عام (1969م)، عندما أقيمت هذه الشبكة للربط بين المركز الدولي للبحوث التابع لجامعة ستانفورد وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وجامعة كاليفورنيا في مدينة سانتا بار بارا وجامعة ولاية يوتا. من هذه النواة الرباعية ظلت الشبكة تنمو بمعدلات هائلة حتى أصبحت - بلا شك - الشبكة الأم أو شبكة الشبكات أو ما تعرف بالإنترنت.
إن الإنترنت حالياً بمثابة تحقيق فعلي لاستعارة القرية الإلكترونية التي رددناها في الماضي، وهي أيضاً خطوة عملية لإثبات مفهوم مجتمع المعلومات الذي شكك البعض في صحته. لقد وفرت لأول مرة وسيلة فعالة لسرعة النفاذ إلى المعلومة، وسرعة انتشارها ونشرها وتوظيفها، علاوة على ذلك، فقد أبرزت بصورة سافرة أننا بصدد وضع اقتصادي جديد هو اقتصاد عصر المعلومات، وذلك نظراً لتناقض اقتصادي جوهري خلاصته أن موارد المعلومات على عكس الموارد المادية، لأنها لاتنقص بل تزيد مع زيادة استهلاكها.
مجتمع المعلوماتية وعصر العولمة
يبزغ اليوم شكل جديد للتطور المجتمعي يعتمد في نمط سيطرته ونفوذه على المعرفة العلمية المتقدمة، وعلى كفاءة استخدام المعلومات في جميع مجالات الحياة، ويتعاظم فيه دور صناعة المعلومات بوصفها الركيزة الأساسية في بناء الاقتصاديات الوطنية، وتتعزز من خلاله الأنشطة المعرفية لتتبوأ أكثر الأماكن حساسية وتأثيراً في منظومة الإنتاج الاجتماعي، وهو ما نطلق عليه اليوم مجتمع المعلومات الذي تطور عن المجتمع الصناعي وتميز عنه في كثير من الوجوه. فبينما اعتمد المجتمع الصناعي في مراحل تطوره الأولى على التجارة والحديد والفحم وعلى قوة العمل الإنساني والإدارة الرأسمالية التي وظفت قوة الدولة العسكرية لتأمين تدفق المواد الأولية، ولفتح الأسواق، وانتقل في مرحلة لاحقة للاعتماد على الطاقة الكهربائية والنفط والطاقة الذرية مستفيداً من منجزات الإدارة الحديثة والشركات الوطنية المساهمة، والأحلاف العسكرية لتأمين أسواقه وموارده الأولية، فإن مجتمع المعلومات يعتمد أساساً على قوة العقل البشري والإلكترونيات الرقمية والهندسة الحيوية وثورة الاتصالات والذكاء الاصطناعي، كما يتصف بظهور فَاعِلِين جدد على الساحة الدولية كالشركات المتعددة الجنسية التي انتقل تأثيرها من المجال الاقتصادي إلى النطاق السياسي عبر توظيف ثقلها المالي والاقتصادي في صناعة القرار السياسي.
أما المستجدات التي رافقت ظهور مجتمع المعلومات كالانفجار المعرفي وتغير مفهوم الزمن وتسارعه، إلى جانب التقدم التكنولوجي وما ترتب عليه من اتساع الفضاء الجغرافي ليشمل جميع أنحاء المعمورة، إلى جانب محاولات نشر الثقافة والقيم الأمريكية، فما هي إلا مظاهر للعولمة يمكنها أن تلقي مزيداً من الضوء على ما يجري، وأن تساهم في تحليل معالمه تلك.
فالثورات المعرفية التي يعيشها العالم في الطاقة وعلم الأحياء والفلك، لا تنفصل عن الاختراعات والتطبيقات التي ساهمت في تغيير وجه العالم. فمع اختراع المطبعة في بداية القرن السادس عشر كان إنتاج أوروبا لا يتجاوز ألف عنوان سنوياً، في حين أصبح حوالي ألف عنوان يومياً، والتراكم المعرفي يتزايد يوماً بعد يوم. وتشير الإحصاءات إلى أن (90%) من العلماء الذي أنجبتهم البشرية إلى الآن يعيشون بيننا اليوم، ويتركز معظم هؤلاء العلماء في الدول المتقدمة، في حين أن 10% من مجمل علماء العالم فقط يعملون في البلدان النامية. ويُكَمِّل التطورُ التقنيُ التقدمَ العلميَ وينجم عنه، كما يتوقع الكثيرون ظهور نتائج عميقة وبعيدة المدى نتيجة للطبيعة الاقتحامية والتحويلية للتقنية على مختلف الصعد، وذلك من خلال ما تقدمه من سلع وخدمات أو بما تولده من حاجات جديدة. وقد انعكست التطورات السابقة بشكل ملموس في الميدان الاقتصادي، لكنها اكتسبت ديناميكية جديدة في عصر العولمة؛ صحيح أن المسألة بدأت مع الرأسمالية التجارية أو ما كان يسمَّى بالتجارة البعيدة التي أعقبت الكشوف الجغرافية الكبرى، وتطورت في عصر الثورة الصناعية والإنتاج الآلي وصولاً إلى الاحتكارات الكبرى وتصدير رؤوس الأموال، ولكننا اليوم وفي عصر العولمة أمام تغيرات نوعية يشهدها الاقتصاد العالمي تجد تعبيراتها في نشاط الشركات المتعددة الجنسية، وفي اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، وفي التكتلات الاقتصادية الكبرى - كالاتحاد الأوروبي والنافتا، بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، والآسيان ..
وغيرها - وما يلازمها من وسائل متطورة في السيطرة على الأموال والمدخرات عبر نظم التشغيل المالية والنقدية التي تتحكم في الأمور والأرصدة والبورصات والأسهم والسندات في البنوك وبيوت المال الكبرى، ولعل ما حدث في شرق آسيا في الآونة الأخيرة مثل كوريا وإندونيسيا وسنغافورة وماليزيا وتايلاند نتيجة للمضاربات المالية وحدوث انهيار شديد في بورصات هذه الدول، وتراجع في معدلات نمو ناتجها الملحلي وصادراتها، وامتداد هذا كله ليشمل اليابان نفسها على الرغم من مناعتها الاقتصادية، وقدراتها الصناعية الهائلة، يشكل مؤشراً خطيراً على الفوضى التي تعيش في قلب النظام، وعلى تعايش العشوائية والتحول المنظم جنباً إلى جنب في عصر العولمة المليء بالمتناقضات.
وهكذا ينحو التطور في هذه القرية الكونية التي أنتجها مجتمع المعلومات، نحو تكوين عالمين متنافرين ومتناقضين لا علاقة لأحدهما بالآخر، عالم النخبة المندمجة داخل مجتمع المعلومات وبفضله، والتي تستخدم اللغة نفسها والمنطق نفسه، وتخضع لمعايير مشتركة وموحدة؛ وعالم الأغلبية المسحوقة من سكان المعمورة الذين يفقدون تدريجياً كل ركيزة مادية أو معنوية تسمح لهم بتحديد هويتهم أو مكانتهم أو دورهم في العالم وتحرمهم من أي مرجعية فكرية كانت أم روحية.
أثر الثورة التقنية ومخاطرها
على خلاف ما يشيعه الفكر التبسيطي السائد، لا تساعد الطفرة التقنية المجسدة في ثورة المعلوماتية والاتصالات على تجاوز التناقضات والتوترات التي ورثها مجتمع المعلومات عن المجتمع الصناعي، ولكنها تعمل على تعميقها وإضافة مشاكل جديدة أكبر إليها. ومن المشاكل التقليدية التي ستتفاقم حدتها في المراحل القادمة، على الرغم من تضاؤل خطورتها وأهميتها إزاء المشاكل الجديدة المطروحة، التخلف الذي يمس مناطق واسعة من الكرة الأرضية، والفقر والاستغلال وانعدام الأمن والاستقرار والبطالة.
أما المشاكل الجديدة التي سوف يضيفها مجتمع المعلوماتية إلى المشاكل الموروثة، فهي من نوع مختلف وأكثر خطورة، لأنها أكثر شمولاً وأقل قابلية للحل من أفق الأطر الوطنية أو المحلية والإقليمية، وتحتاج إلى مناهج جديدة ووسائل مختلفة، ومن هذه المشاكل، مشاكل: البيئة، وتلوث مصادر الطبيعة ونفاذها، وفي مقدمتها المياه والهواء والتربة، ومنها ضياع الهوية،ونشوء مناطق واسعة يسيطر عليها الفاقة والجهل وانعدام التربية والتأهيل والتكوين المهني والأخلاقي، أي تخضع للفوضى والحروب المستمرة، ومشاكل انتشار الأوبئة والأمراض المعدية والإيدز وما يمكن أن يظهر في المستقبل من عوارض يصعب حصرها في مكان واحد ومحاربته على صعيد وطني، وكذلك مشاكل السيطرة الأحادية وإيجاد وسيلة للتحول التدريجي نحو عالم متعدد الأقطاب وبناء المؤسسات التي تسمح بالتداول والتبادل بين مختلف أطرافه في سبيل تجنب مواجهات تقود إلى الدمار الشامل واستخدام أسلحة ذات قدرات تدميرية شمولية.
ومن هنا يتبين لنا ما يمثله الوطن العربي من حيث الموقع الاستراتيجي والموارد الطبيعية والأسواق المستهلكة، كهدف كبير لمصالح ومطامع دولية كثيرة ومتشعبة؛ ويزيد هذا الواقع تعقيداً العلاقة الخاصة التي تقوم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، من حيث استغلال الحركة الصهيونية لواقع الصراع المزمن بين العرب والغرب بإقامتها تحالف عضوي مع دول الغرب الأطلسي، لا سيما مع الولايات المتحدة، من أجل حماية كيانها وتعزيز مصالحها وتطوير قدراتها التقنية والعسكرية. كل ذلك يضع العرب عامة والدول الإسلامية خاصة أمام عدوين منفصلين ومتصلين في آن واحد، من دون أن يكون للعرب - بعد انهيار الاتحاد السوفيتي - حليف استراتيجي من بين الدول الكبرى لموازنة الولايات المتحدة، والتي أصبحت مع بداية التسعينيات الميلادية القطب الدولي الأكبر والأقدر على الانفراد بزعامة النظام الدولي الجديد، والتأثير في علاقات القوى الدولية. فقد انقسم الفكر العربي المعاصر أمام ثورة المعلومات وطفرة الاتصالات وصعود القوة الإعلامية وما يبعثه كل ذلك من حركة توحيد الفضاءات العالمية - الاقتصادية منها والسياسية والثقافية - بين من يعتقد أن العولمة التي تسير إليها البشرية تحمل في ثناياها الدواء الناجح لجميع الأمراض التي لا تزال تحملها الإنسانية من العصر البدائي الأول حتى عصر الصناعة، وبين من يرى في العولمة خدعة لفظية تهدف إلى التغطية على الهجمة الإمبريالية الجديدة والتشريع السحري لها.
إن العلم والتقنية هما متغيران جوهريان، وهما المحرك الرئيس للاقتصاد العالمي، ومن الصعب جداً البدء في فهم ظاهرة التنمية والتصنيع والعولمة من دون الاعتراف أولاً بالعلم والتقنية كمنبت لكل هذه الأنشطة، وبأن السياسيين والاقتصاديين والمخططين العرب - على عكس أمثالهم في بلدان أخرى - ينظرون إلى العلم والتقنية كمتغيرين عرضيين أو غير جوهريين.
وسيكون من الصعب على البلدان العربية البقاء حية في اقتصاد عالمي من دون الاستفادة من سياسات وطنية للعلوم موضوعة لتوجيه منظومة علوم وتقنية فعالة.
ويشكل التحدي العربي الإسلامي، أكثر التحديات جدية للسيطرة الغربية الثقافية عموماً وللولايات المتحدة خصوصاً، لأنه قائم في منطقة تحتضن أضخم احتياطات النفط، ولأنه فاعل من ضمن سياق إيديولوجي متماسك وله أصداؤه في أرجاء العالم الإسلامي في إفريقيا وآسيا، وكذلك في المجتمعات الإسلامية المهاجرة في أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية. إن حاجتنا الدفاع عن هويتنا الثقافية لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لابد منها لدخول عصر العلم والتقنية، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية. إن عمليات العولمة ومنجزات ثورة الاتصالات والمعلومات تخلق علاقات قوى جديدة على الصعيد العالمي، نظراً لارتباط تلك المنجزات بدرجة من التقدم التقني في بلدان الشمال، تجعلها مبنية منذ البداية على عدم المساواة بين الذين يمتلكون مقومات هذا التقدم التقني ومفاتيحه، وبين الذين يقتصر دورهم على كونهم المستهلكين والمستقبلين. وتلك كلها قضايا لها صلة وثيقة بطبيعة التحديات التي تطرحها عمليات العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات بالنسبة لمسارات التطور الاقتصادي والتطور الاجتماعي والتطور الديمقراطي في المنطقة العربية في هذا القرن الجديد.
وقد حققت الإدارة الأمريكية - من دون شك - جزءاً كبيراً من هذه التحديات، فعلى الرغم من التنافس المستمر بين الدول الصناعية الكبرى على تقاسم الكعكة الاقتصادية المرتبطة بسوق المعلوماتية والاتصالات، نجحت في الحفاظ على وحدة التكتل الصناعي وإخضاع الطروحات المتعلقة ببناء السوق العالمية إلى مفاوضات تحصل داخل إطار الجات، كما نجحت في إطار الجات، ثم في إطار منظمة التجارة العالمية التي روثته، في تأكيد أرجحيّة مصالحها. ونجحت هذه المنظمة أيضاً في فتح الطريق لتوسع نشاطات الشركات الكبرى في البلاد الأخرى، وهي تساهم مع صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية التي تدفع نحو التخصيص، في توسيع هذه السوق لتشمل معظم مناطق العالم، ثم إن التعاون العلمي الذي بدأ يتحقق بين البلدن الصناعية والذي أطلق عليه البعض اسم عولمة العلم، يقدم فرصاً للاستثمار في البحث العلمي لا مثيل لها، ويترك جميع البلدان الصغيرة، النامية وغير النامية، خارج دائرة التنافس الفعلي في ميدان العلم والتقنية.
عصر المعلومات
إن الدور الذي لعبته تقنية المعلومات والاتصالات عبر التاريخ في التأثير على المجتمع،إضافة إلى العلاقة التفاعلية التي زادت وتعقدت بين تقنية المعلومات والاتصالات وسائر قطاعات المجتمع، والتي تؤكد في الربع الأخير من القرن الماضي - بعد أن اصبح هذا القطاع هو القطاع الأساسي في المجتمع المعاصر، وأصبح يطلق على المجتمعات المتطورة تقنيا مجتمعات المعلومات - تمييزاً لها عن عصرين أو نمطين سابقين للحياة أو للتطور وهما نمطا الزراعة والصناعة، فقد شكلت المعلومات إذن سمة في مجتمعات ما بعد الصناعة، فمنذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، شكل ذلك القطاع واحدا من أكثر القطاعات حيوية في الاقتصاد العالمي.
ونتيجة لهذا التطور الهائل في تقنية المعلومات أصبح العالم الآن متشابكاً ومترابطاً إلى درجة لم تشهدها البشرية من قبل. ولكن لكي يكون هذا العصر ذا طيات إيجابية لابد أن تستخدم المعلومات المتاحة في خدمة القيم الخالدة، إن المطلوب هو أن نعيد عصر المعلومات إلى عصر المعرفة ومنه إذا أمكن إلى عصر الحكمة. وإذا كان الغرب قد وجد في عصر المعلوماتية شكلاً جديداً من أشكال الانبهار، لأنه مازال يحبو في سنواته الأولى ليخفي آثار الخلل والدمار الذي أحدثته الثورة الصناعية والكيماوية في بيئة الأرض وصحة البشر، وما تشكله من أخطار، فعلينا أن نلحق بقطار المعلوماتية ليس كنور جديد، وإنما كعلم جديد نستطيع أن ندرك إمكاناته ونوظفها، ونستعد لمعرفة أضرارها. إن التحديات الناجمة عن ثورة المعلومات جد كبيرة، وتحتاج إلى تعزيز العمل العربي المشترك ودفعه إلى الأمام لاحتلال القدرات التقنية اللازمة للتعامل بجدية مع الآثار السلبية والمخاطر التي تطرحها التطورات المتسارعة في هذا المجال. ويُعدُّ التنسيق ضرورة تاريخية لخلق فضاء إلكتروني تكاملي على الصعيد العربي من خلال شبكات الإنترنت.
إن الصراع هم الحكم القادم، وإن العولمة سوف تتضح معالمها وكيانها وآثارها وقدراتها من خلال نتائج هذه الصراعات في السنوات القادمة
المصدر : مجلة كلية خالد العسكرية