عناصر الموضوع :

1.    الأصل في تكوين النفس البشرية

2.    أمثله على الانفعالات

3.    الغضب المطلوب وعلاجه

4.    ما يجوز وما لا يجوز من الغضب

5.    استخدام التصبر والتحلم لمعالجة الانفعالات

6.    موقف المسلم أمام العاصفة الإلحادية

7.    الوسائل الشرعية في إنكار المنكر وضبط الانفعالات

8.    أثر عدم استخدام السلاح حال الضعف

 

كيف نضبط انفعالاتنا؟

خلق الله البشرية وجعل لها ميزاناً تسير عليه؛ فهو خالقها وأعلم بما يصلحها، ومن أهم ما يظهر على هذه النفس من الانفعالات اليومية: الحب والبغض، وهي طاقة بشرية مخزونة في النفس، ولكن الحكيم من الناس هو الذي يوجهها إلى الوجهة الشرعية السليمة. والناظر في أحداث الكون الآن يلحظ هوان المسلمين في مقابل رفعة عدوهم؛ وهذا مما يؤدي إلى الغضب، ومن هذا الباب فقد ذكر الشيخ عدداً من الأمور التي يستعملها الإنسان في مراجعة هذا الغضب، وكيف يستفيد من سيرة الرسول وأصحابه في مدافعته وتحويله لصالحهم.

 

الأصل في تكوين النفس البشرية:

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وصلى الله وسلم على رسول الله الذي علمنا فأحسن تعليمنا، وبعثه الله متمماً مكارم الأخلاق وصالحها. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فعنوان درسنا في هذه الليلة: كيف نضبط انفعالاتنا؟ وهذا الموضوع موضوع مهم نظراً لأن الإنسان المسلم الذي يعيش في هذه الحياة يتعرض لكثيرٍ من الأمور التي تسبب انفعاله، ولا بد له أن يعلم كيف يكون الانفعال في مرضات الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد خلق النفس وخلق فيها انفعالات، فالنفس تحب وتبغض، وترضى وتسخط، وتغضب وتهدأ، وتحزن وتفرح إلى آخر ذلك من أنواع الانفعالات التي تعتمل داخل هذه النفس. هذه النفس البشرية شديدة التعقيد التي لم ينته علماء الطب وعلماء النفس من دراسة آثار الانفعالات في هذه النفس حتى اليوم، ولا زالوا يخرجون بنتائج جديدة، وأبحاث متعددة في مجال هذه النفس، هذا المجال الواسع الرحب، ولا يعلم ما في هذه النفس إلا الذي خلقها، ولا يعلم حدودها وما يصلحها إلى الذين فطرها رب العالمين. ولذلك أيها الإخوة! ينبغي أن نرجع في تعاملنا مع أنفسنا إلى القرآن والسنة، فإنه مهما أتى البشر بنظريات ونتائج وأبحاث وتجارب فلا يمكن أن يأتوا بمثل ما جاء في هذا القرآن وهذه السنة المطهرة. والله سبحانه وتعالى خلق آدم من قبضة من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم السهل والحزن، يعني: الناس الذين تتميز أنفسهم بالسهولة والسلاسة، والناس الذين تتميز أنفسهم بالشدة والصلابة، بحسب التربة التي خلقوا منها، فناس أخذوا من تربة من أرضٍ سهلة، فجاءت أنفسهم مثل التربة التي خلقوا منها، وناس كان خلقهم من قبضة من جميع التربة فجاء أولاد آدم على قدر هذه القبضة التي خلق الله آدم منها، فمن الناس من يكون في صلابتهم وشدتهم مثل صلابة الصخر وشدة الجبال ووعورة مسالكها، كذلك وعورة أنفسهم، ولأن تربة الأرض مختلفة الألوان فمنها تربة سوداء ومنها تربة صفراء ومنها تربة بيضاء فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وهكذا، إن الله خلق آدم من قبضة من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر ذلك. فتأمل ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، ثم تأمل في الواقع فستجد انطباق ما أخبر به على الواقع انطباقاً تاماً، ونفوس العباد إذاً ليست سواء، وما يعتلج في هذه النفوس ليس أمراً واحداً بل هو عدة أمور، ولذلك فشخصيات الناس أنواع، منها شخصيات تتميز بالهدوء والرزانة، وشخصيات تتميز بالحكمة، وشخصيات تتميز بالضعف، وشخصيات تتميز بالقوة، وشخصيات تتميز بانضباط النفس، وشخصيات تتميز بالعصبية، وشخصيات تتميز بالعاطفية، وشخصيات تتميز بالغضب، وشخصيات تتميز بالهدوء ... وهكذا من أنواع الخطوط المتقابلة الموجودة في النفس البشرية. ولذلك نجد من الناس من هو عصبيٌ لا يستقر على حال فهو في قلقٍ وتغيرٍ دائم، ومن الناس من يكون غضوباً ينفجر دون أدنى مقدمة، ومن الناس من يكون عاطفياً تغيظه أتفه المضايقات ويتملكه اليأس أمام أيسر العراقيل، ومن الناس من يكون ولوعاً إذا تعلق بفكرةٍ تحمس لها جداً، وتعصب لها وتصدى لتسفيه كل مخالف لهذه الفكرة أنى كان ذلك. ومن الناس من تسيطر عليهم المفاجآت فلا يستطيعون أن يتحركوا ولا أن يتصرفوا، فيتسمرون وتقعد بهم أنفسهم الضعيفة عن مواجهة الواقع، وعن السعي في التحكم في الأمور فتفقده المفاجئة السيطرة على نفسه. ومن الناس من يتبدل مزاجه فجأة، فتكون جالساً معه فتخطر بباله فكرة، ثم تبدأ تتفاعل مع نفسه وتتحرك، ثم يغمره أنواع من الانفعالات مع هذه الفكرة، ويستغرب الجالس من هذا التغيير المفاجئ الذي حصل في الشخص مع أنه لم يقع في المجلس أي حادثٍ يذكر، إلا مجرد الفكرة التي طرأت في ذهن ذلك الشخص العاطفي. ومن الناس من ينجر بسهولة مع أفكاره ومع أحداث الساعة فينتقل فوراً إلى العمل بسبب ما حصل له من تهييج دون أدنى تفكير، فتكون أفعاله ردات فعل لما يحدث في الواقع. ومن الناس من يكون رابط الجأش؛ فيتلقى الصدمات ويدرس الوضع قبل أن يتخذ قراراً عملياً ويفكر قبل التنفيذ. ومن الناس من لا يستطيع كتمان الأخبار، ولا حفظ الأسرار، فهو في قلق، فيسهل استخراجها منه مثل الناس الذين يتميزون بالعاطفية الشديدة، وبعض الناس عندهم أنسجة عصبية متقلبة، وقد يحب إنساناً فيفرط في حبه، ثم يتنكر له لسببٍ بسيط فيفرط في بغضه إلى أبعد الدرجات. ومنهم من يكون عنده نتيجة اضطرابٍ في نفسه غلوٌ في الوصف، فإذا عمل مغامرة عادية أخرجها لك على أنها المعركة الفاصلة، ومنهم من يعيش مع انفعالاته فهي التي تنشطه وتحفزه، فإذا لم ينفعل ولم يستثر، فإنه باردٌ لا حراك فيه. ومنهم من يستسلم للنـزوات والإسراف في الأشياء، وهل الصحيح أن يكون الإنسان منفعلاً أو لا يكون منفعلاً؟ الصحيح أن يكون منفعلاً؛ لأن الشخص الذي لا ينفعل أبداً ولا تهزه الحوادث إما أن يكون مجنوناً لا يعي ما حوله، أو أنه مدمن مخدرات مثلاً فهو مصاب بتغليف لذهنه ومخه وقلبه فلا يحس بشيء، ولكن المهم الآن أن نعرف متى تكون الانفعالية إيجابية ومتى تكون الانفعالية سلبية؛ لأننا إذا قلنا: لا بد أن ينفعل الإنسان الصحيح السوي ويتفاعل مع الواقع، ويتفاعل مع الأحداث، ويكون للأحداث تأثيرٌ عليه، فإذا كان هذا الأثر موافقاً للشريعة فهذا هو الانفعال الإيجابي المطلوب، وإذا كان الانفعال مضاداً للشريعة ومخالفاً لها فهذا هو الانفعال المذموم، وليس المقصود من وراء هذه المحاضرة أن نتوصل إلى نموذج نقول من خلاله: إن المطلوب منا ألا ننفعل على الإطلاق، وألا تتحرك فينا أدنى عاطفة، ولا أدنى شعور، ولا أي غريزة ولا دافع لعمل أي شيء، ليس هذا أبداً هو المقصود من وراء عرض هذا الدرس.

 

أمثله على الانفعالات:

 أيها الإخوة! لا بد أن نعلم أن دين الإسلام قد جاء لتهذيب وتربية النفس المشاعر وتنقيتها، وتنحية العنصر المذموم في النفوس والتأكيد على استجلاب وجذب وتركيز وتأسيس العناصر الجيدة المفتقدة أو المفتقر إليها، وقد جاءت هذه الشريعة أيضاً بقواعد وضوابط للمشاعر والعواطف، فلنذكر أمثلة على سبيل الإيضاح، وهذا موضوع طويل جداً، وهو ما هي الضوابط والقواعد التي جاءت بها الشريعة لتهذيب ومواجهة انفعالات النفس البشرية. هذا شيء كبير جداً، وبذلك لن نستطيع في هذه المحاضرة أن نغطيه، وإنما سنركز على قضايا معينة، نختصر الكلام عليها ثم نتجه إلى الكلام عن علاقة هذا الموضوع بالواقع المرير الذي يعاني منه المسلمون في هذا العصر وفي هذا الزمان.

 

 كتم السر:

خذ على سبيل المثال: كتم السر، بعض النفوس لا تستطيع أن تكتم السر، لقد جاء في الشريعة أوامر معينة وتوجيهات إرشادية في مسألة كتم السر، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المجالس بالأمانة، وأن الرجل إذا حدث بالحديث ثم التفت فهي أمانة، وأن كتم السر من الإيمان، ومن حسن العهد وحقوق الأخوة الإسلامية وذلك إذا لم يحدث من كتمه ضررٌ على الإسلام والمسلمين، وإنك لتدهش وتتعجب من يوسف عليه السلام لما جاء إخوته وهم لا يدرون أنه الحاكم في مصر على خزائن الأرض، وأراد أن يبقي أخاه عنده، لما جاءه إخوته بأخيهم فعمل حيلة، فجعل صاع الملك في رحل أخيه  ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ  [يوسف:70-72] المهم أنهم نفوا أن يكونوا سرقوا، وقالوا: فتشوا رحالنا، وقبل أن يفتشوا رحالهم قال: ما جزاؤه؟  قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ  [يوسف:75] على شريعة يعقوب عليه السلام أن السارق يؤخذ عبداً عند المسروق منه كما قيل، فلما وجد الصواع في رحل بنيامين -إن صح اسمه- وهو أخو يوسف الأصغر، قال إخوة يوسف:  إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ  [يوسف:77] لقد كان هذا الاستفزاز غير المقصود ليوسف كافياً طبعاً لأن يعرف عن نفسه ويقول: من تتهمون، أتعرفون من تتهمون وعمن تتكلمون إنه أنا، وكان يمكن أن يقول لهم أشياء كثيرة جداً لكنه كتم هذا الأمر:  فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ  [يوسف:77] لم يأت بعد الوقت المناسب لتوضيح القضية، ولم يأت الوقت المناسب للكشف عن الحقائق.

 

الحب أو البغض المفرط:

وإذا جئت مثلاً للأشخاص الانفعاليين الذين يحبون شخصاً فيصعدون به إلى السماء، ثم قد يبغضونه بعد ذلك فينزلون به إلى أسفل السافلين لوجدت في حديثه عليه الصلاة والسلام: (أحبب حبيبك هوناً ما؛ عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما؛ عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) لعرفت أيها المسلم من هذا الحديث الصحيح قاعدة إسلامية في الاقتصاد في المحبة وعدم الإسراف في المشاعر؛ لأنك لا تدري عن تقلبات الزمان، وقد يصبح هذا العدو يوماً من الأيام صديقاً لك، وقد يصبح الصديق عدواً لك، وذلك بحسب الأطر الشرعية. فإذاً ينبغي الاقتصاد، وهذا درس في الاقتصاد في المشاعر.

 

الغضب المطلوب وعلاجه:

 ونأتي إلى مثالٍ واضحٍ جداً يبين لنا موقف الإسلام من بعض الانفعالات، وهو أحد الانفعالات التي تكون في النفس البشرية، ألا وهو انفعال الغضب؛ لنبين من خلال هذا الشعور والانفعال الذي يحدث في النفس، ما موقف الإسلام من هذه الانفعالات، وكيف يندفع المسلم لضبط انفعاله بضابط الشرع. الغضب انفعالٌ يحدث في النفس لا شك في ذلك، فكيف كان علاج الشريعة لهذا الانفعال؟ نأخذه مثالاً نركز عليه لنبين أن في الشريعة علاجات كافية لهذه المشاعر، هل الغضب مذمومٌ دائماً أم لا؟ إن المتتبع لسيرته عليه الصلاة والسلام يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان حليماً متزناً، ولكنه في بعض الأحيان يغضب غضباً شديداً صلى الله عليه وسلم، فهل لنا أن نتعرف على الغضب في الإسلام وكيف يواجه كنموذج لموضوعنا في هذه الليلة؟ لا شك أن الغضب في الجملة خلقٌ مذموم، ولا شك أن هذا الغضب له أضرار كثيرة وعواقب وخيمة، ومن أجل ذلك جاءت الشريعة بعلاجات لهذا الغضب، وعلى هؤلاء الناس أصحاب الطبيعة الغضبية الذين يستفزهم الشيطان أن يتأملوا جيداً في علاج الشريعة لهذا الانفعال الحادث في النفس، ويتعلموا كيف يضبطون انفعالهم هذا وهو انفعال الغضب. من الإجراءات الإسلامية التي جاءت لعلاج الغضب: أولاً: تنفيذ وصيته صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني؟ قال: لا تغضب، ردد ذلك مراراً) كل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب) وهكذا. وفي رواية لـأحمد قال: قال الرجل: (ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) فإذا أردت أن تهذب نفسك من الغضب فعليك بتنفيذ وصيته عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أن تعلم الحافز لترك الغضب، وهذا الحافز قد يكون ميزة دنيوية بينها عليه الصلاة والسلام في حال الرجال الأفاضل، أو ميزة وثواباً أخروياً يكون لمن ملك نفسه عند الغضب، فمثلاً: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يصطرعون فقال: (ما هذا؟ قالوا: فلانٌ لا يصارع أحداً إلا صرعه، قال عليه الصلاة والسلام: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه) فهذا الرجل لما استفزه رجل بكلمة فأغضبه صار حليماً، فأمسك زمام نفسه فكظم غيظه، فغلب الرجل الآخر بحلمه وغلب شيطانه هو حتى لا يدفعه إلى عمل شيءٍ ما من الرد، وغلب شيطان صاحبه، فهو قد تغلب على نفسه وعلى شيطانه وعلى صحابه وعلى شيطان صاحبه، قال الحافظ ابن حجر: رواه البزار بسندٍ حسن. وهذا أصله في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة -يعني: إذا صارع غلب- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وبهذا لو قلنا: أيهما أصعب: أن يغلب الرجل الرجل في المصارعة أو أن يتغلب على غضبه؟ لا شك أن التغلب على الغضب أصعب من التغلب على الرجال في المصارعة. وفي رواية أخرى في حديث حسنٍ قال عليه الصلاة والسلام: (الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه) حديث حسن. إذاً: هذا الانفعال الذي له آثار على النفس، ويحدث منه احمرار الوجه واقشعرار الشعر، هذا إذا كان صاحبه يستطيع أن يغلبه ويكبته فهو الشديد حقاً. ثالثاً: ومن العلاجات: التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له، فقال له: يا بن الخطاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به، فقال الحر بن قيس وكان من أصحاب عمر : يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:  خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ  [الأعراف:199] وإن هذا لمن الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. فإذاً التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، عندما يتذكر الإنسان قول الله عز وجل:  وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ  [الشورى:37]،  وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  [آل عمران:134] إن التذكر والرجوع إلى الكتاب يورث في النفس دافعاً لكتمان الغضب وعدم الانقياد وراء التصرفات الهوجاء التي يدفع إليها الغضب. رابعاً: ومن العلاجات أيضاً: تذكر الآخرة وما فيها، ولا شك أن تذكر اليوم الآخر بالنسبة للمؤمنين يعني شيئاً كثيراً، كما أنه بالنسبة للفساق لا يعني شيئاً على الإطلاق، بالنسبة للمؤمنين تذكر اليوم الآخر يعني أشياء كثيرة من التحميس للطاعات، والامتناع عن المعاصي، وضبط النفس. أحد الملوك أو الخلفاء صعد على المنبر يوماً وقال: من أحق منا بهذا الأمر فيظهر لنا قرنه، فكان ابن عمر موجوداً قال: [فكدت أن أقول له: الذي أولى منك بهذا الأمر هو الذي ضربك وأباك على الإسلام] لأن هذا الخليفة كان كافراً ثم أسلم وكان أبوه كافراً ثم أسلم، لكني تذكرت الآخرة، قال ابن عمر : لكني تذكرت الآخرة، فكتم غيظه ولم يرد، والإنسان يستفز بأشياء والشيطان يقول له: رد ويدفعه للرد، لكن الذي يكظم غيظه ويكون الرد غير مناسب شرعاً ما الذي يضبطه ويصرفه عن الرد؟ تذكر الآخرة. خامساً: وكذلك من علاجات الغضب: معرفة الجزاء لمن يكتم غضبه ويكظم غيظه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل: (لا تغضب ولك الجنة) وهذا فيه بيان أن منع الغضب يورث صاحبه الجنة، وأن أجر منع الغضب دخول الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) وكذلك في حديث آخر حسن: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فهل إذا تأمل الإنسان الأجر في كظم الغيظ وكتم الغضب في لحظة الغضب تذكر هذا الحديث، وماذا سيحصل؟ (من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فليتأمل الإنسان هل لو أنه انتصر لنفسه الآن ورد، وعافس الناس بالكلام، وربما كان بليغاً فأسكت الشخص الآخر الذي استفزه ورد عليه وأفحمه، هل يكون أجره أكبر أم لو احتفظ بهذا إلى الدار الآخرة لكي يخيره الله من الحور العين يزوجه منها ما شاء، وحتى يملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة؟ فلا شك أن العاقل سيقول: أحتفظ لنفسي بهذا الموقف إلى الدار الآخرة، ولو أن هذا الشخص استفزني ومن المصلحة أن أرد عليه لرددت عليه، لو أنه من أعداء الإسلام أو رجل يثير الشبهات لأسكته نصرة لدين الإسلام، ورفعاً للراية، لكن كثيراً من الشباب والناس في مجالسهم تحدث بينهم مناقشات ومخاصمات كلامية وجدل عقيم، وكلٌ منهم يريد إثبات صواب نفسه وخطأ الآخر، لا لشيء، لا لنصرة لمسألة علمية ولا لقضية في الدعوة إلى الله وإنما (أنت أخطأت.. لا. أنا ما أخطأت.. لا. أنت الخطأ منك) وهذه القضية إذاً صارت انتصاراً للنفس فليتأمل العبد إذاً بدلاً من ضياع الأوقات، وازدياد الحمق والغيظ عليه في نفس أخيه، واستهلاك كلٍ منهما لجهد الآخر؛ ليتأمل الأجر الموجود في الدار الآخرة، دعاء الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء، إنه لأجرٌ عظيم، أجرٌ كبيرٌ جداً يدفع كثيراً من الناس وبالذات الشباب في مجالسهم إلى تجنب الخصومة والمراء والجدل، ومحاولة إفحام أخاه المسلم وإثبات خطأ الآخر والانتصار لنفسه وتبرئتها.. وهكذا من الأشياء التي لا يترتب على الدفاع فيها شأن يذكر. سادساً: ومن علاجات الغضب: تبين مساوئه، ومعرفة ماذا ينتج عن الغضب من الأضرار. ينتج عن الغضب أضرارٌ كبيرة جداً سواء كانت على النفس أو على الآخرين. فمما يحدث على الآخرين إليك هذا المثل العجيب من صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى: عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال: (إني لقاعدٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسبة -حبل مبتور علقه في رقبة غريمه وجاء يجره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي، فقال رسول الله عليه وسلم للمجرور: أقتلته؟ فقال صاحب الدم: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، فقال الرجل المتهم الذي في رقبته الحبل: نعم قتلته، قال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط -يعني: نضرب الشجر ليسقط ورقها فنأخذه علفاً للدواب- من شجرة، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه -أداة حادة قاتلة على جانب رأسه- فقتلته) فنتج الغضب عن أي شيء؟ نتج عن قتله لأخيه المسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ - أي: لو شفعنا لك فهل عندك دية تؤديها؟- قال: مالي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فقال عليه الصلاة والسلام: دونك صاحبك -خذه يا ولي الدم، يعني قصاص القتل- فانطلق به الرجل، فلما تولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله، فرجع فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريد أن تبوء بإثمك وإثم صاحبك؟) أي: أما تكتفي أن عليه إثم القتل وإثمك أنت لأنه فجعك بقتل أخيك فصار عليه إثمان (قال: يا نبي الله بلى، قال: فإن ذاك كذاك، قال: فرمى بنسعته وخلَّى سبيله). فسبحان الله! كيف

 

ما يجوز وما لا يجوز من الغضب:

 هل المطلوب من الإنسان المسلم ألا يغضب أبداً ولا في أي حالة من الحالات؟ طرحنا هذا السؤال في بداية عرض هذا الموضوع، وإليكم هذا الجواب: الإمام البخاري رحمه الله تعالى عقد بابين متتاليين في كتاب الأدب من صحيحه قال في الباب الأول: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال في الباب الذي يليه: باب الحذر من الغضب، فتبين إذاً أن هناك غضباً محموداً شرعاً وهو ما إذا انتهكت محارم الله، فهو لأجل دين الله عز وجل، الغضب إذا أريد على أمر من الدين، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب احمرت وجنتاه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب، توضح عائشة رضي الله عنها هذا الغضب وأين يكون موقعه، فتقول في حديث مسلم : (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) من أجل الله يغضب، من أجل النفس لا، فتبين الآن متى يكون الغضب مذموماً ومتى يكون محموداً؟ يكون مذموماً إذا كان انتصاراً لأجل النفس، ويكون محموداً: إذا كان انتصاراً لله عز وجل، وهذا الغضب من أجل الله غضب محمود، قال الله عز وجل:  وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ  [الحج:30] ومن تعظيم حرمات الله أنك لا ترضى بالمنكر، وتغضب لو انتهكت حرمات الله أمامك، وقد قال رجلٌ مرة: (إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلانٍ مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم بالناس فليتجوز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه. وهذا حدث آخر في مناسبة أخرى: لما رأى عليه الصلاة والسلام ستراً فيه صور من ذوات الأرواح في بيت عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: (يا عائشة ! أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله). ولما كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت لكي لا تقطع، قال: (أتشفع في حدٍ من حدود الله تعالى، ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) غضب جداً عليه الصلاة والسلام لما جاء يشفع في حدٍ من حدود الله. ولما رأى النخامة في قبلة المسجد حكها وشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه صلى الله عليه وسلم. وعن زيد بن خالد الجهني : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فادفعها إليه، فسأله عن ضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه فقال: مالك ولها، معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها) يعني: صاحبها، فغضب فعنون عليه البخاري رحمه الله: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره. وروى أيضاً حديث أبي موسى قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها -مثل: متى الساعة؟ ونحو ذلك- فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: سلوني ما شئتم -إلى آخر الحديث- فلما رأى عمر ما في وجهه عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله عز وجل). هذا حاله عليه الصلاة والسلام فكيف حال أصحابه؟ أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: [لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من دينه دارت حماليق عينيه] وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد : [فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون] قال الألباني : وهذا سند حسن، هذا يدل على أن الصحابة إذا أريد أحدهم على أمرٍ من دين الله، وانتهاك حرمات الله، فإن أحدهم لا يرضى بالباطل أبداً. فلا بد أيضاً من الغضب، لكن الغضب لمن؟ الغضب لله عز وجل، هذه الغضبة المحمودة التي أخرجت خلفاء وأمراء جيوش إلى قتال الأعداء بسبب كلمة يستغيث بها مسلم بإخوانه، فيخرج الجيش والخليفة والمسلمون للقتال غضبةً لله تعالى، ودفاعاً عن دينه، وحمية ونصرة لهذا الدين.

 

استخدام التصبر والتحلم لمعالجة الانفعالات:

 ومن الأمور المهمة في معالجة الانفعالات: التصبر والتحلم، والصبر هو الخلق الذي يكاد يكون اعتماد ضبط الانفعالات عليه، ومدار تهذيب النفس وتقييد الانفعالات على الصبر. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيناً من الأنبياء صلوات الله عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) هذا هو الخلق العام الذي ينبغي أن نؤسسه في أنفسنا لضبط الانفعالات، الصبر والتحلم. الصبر بالتصبر والحلم بالتحلم، والرسول عليه الصلاة والسلام لقي ما لقي حين خرج يعرض نفسه على ابن عبد ياليل هذا الذي رفض أن يجير رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره، فانطلق عليه الصلاة والسلام هائماً على وجهه من المصيبة والضعف والشدة حتى لقي ملك الجبال قال: (إن الله أرسلني إليك إذا أردت أن أطبق عليهم الأخشبين قال: لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله). والرسول عليه الصلاة والسلام يضرب لنا المثل الأعلى في الصبر والحلم، الإنسان إذا استفز بأي تصرف فيه حق لنفسه يمكن أن يتنازل ويتغاضى، أما في حق الله فلا يمكن أن يتنازل ويتغاضى، إذا كان حقاً لنفسه يتنازل به لأخيه المسلم، ولا يتنازل لكافر ليذل نفسه، لمسلم ولو لجهلة المسلمين فيحلم على جاهلهم ويصفح عن مسيئهم، لو قطعوا رحمه وصلها، انظر إلى هذا المثل في حلمه عليه الصلاة السلام. في الحديث المعروف عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌ فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم -بين العتق والكتف العاتق- وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة الجذب) أعرابي جلف يجيء ويسحب البرد ويشده حتى احمرت صفحة عاتقه من شدة الجذبة (ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك). يالله! هذه جلافة الأعراب (يا محمد!) انظر لم يقل: يا رسول الله! يا نبي الله! بل قال: (يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك) ما هو رأيك في موقف مثل هذا؟ واحد يأتي من ورائك ويشدك حتى يجرح جسمك ثم يقول: يا فلان! (فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) المقصود الآن استمالت قلب الأعرابي، والنتيجة تأليف قلبه، هذه النتيجة التي يريد عليه الصلاة والسلام الوصول إليها، (فضحك ثم أمر له بعطاء) متفق عليه. ولذلك ينبغي علينا أن ندرس شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن في شخصيته الكثير من جوانب العظمة عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن استيعابها، ولا يمكن من عظمته صلى الله عليه وسلم أن نحيط بها إحاطة تامة، ولكن يجب علينا أن نسعى ونجهد من أجل ذلك ما استطعنا لأجل الارتقاء بالنفس ومزيدٍ من التربية. وهكذا سار خلفاؤه صلى الله عليه وسلم في حلمهم على المسيء وصفحهم. وهذا عمر بن عبد العزيز دخل المسجد ليلة في الظلمة فمر برجلٍ نائم فعثر به، فرفع النائم رأسه قال: أمجنونٌ أنت؟ يقول للخليفة عمر بن عبد العزيز : أمجنون أنت؟ فقال عمر : لا، فهم به الحرس، فقال عمر : مه؛ إنما سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا.

 

موقف المسلم أمام العاصفة الإلحادية:

 وبعد عرض هذا المثل وهو الغضب، وما هو الخلق المهم وهو خلق الحلم والصبر في مجابهة الانفعالات، نأتي الآن إلى الجزء الثاني من هذا الدرس وهو: ما هو موقف المسلم من الأحداث التي تعصف بالمسلمين اليوم، والتي فيها عددٌ كبير وهائلٌ جداً من الاستفزازات التي تكاد تخرج الفرد المسلم عن صوابه، ويطيش به عقله، ويذهب في عددٍ من الأودية والمهاوي؟! وماذا نريد من المسلم: هل نريد منه أن يكون رجلاً بارداً لا يتحرك فيه انفعالٌ أبداً ولا يثور في نفسه شيءٌ مطلقاً تجاه ما يحدث من قضايا العالم الإسلامي اليوم؟!

 

 الحكمة الحقيقية في التعامل مع الأحداث:

إن المسلمين يعانون في العالم أفراداً وجماعات من الاضطهاد والتعذيب، وقضايا الفقر، وهيمنة الأعداء والتسلط، وأنواع الظلم وسلب الحقوق، إنهم يعانون من الظلمة الذين يسوسونهم بغير شرع الله، وتعم مدنهم وبلدانهم المنكرات، ويراد منهم بالقوة أن ينحرفوا عن شرع الله، وكلما رفع بعضهم رأسه جاءت ضربة لتذهب بهذه الرءوس المرفوعة، مما يجعل المسلمين يعيشون في أجواء من الإحباط والانهيار النفسي، وبعضهم قد يكون من النوع الانفعالي العصبي الغضبي، فيثور ويغضب ويحدث من ذلك نتائج لا تحمد عقباها، فما هو موقف المسلم حيال ذلك؟ هل المطلوب تجاه كثرة المنكرات الشائعة، وتوالي حدوث الأحداث التي يدبرها المنافقون والعلمانيون في العالم الإسلامي وغيرهم من أذناب الكفار هو برودٌ تام، وعدم إحساس، ولا تفاعلٍ؛ أم أن المطلوب ثورة وهيجان ضد هذا الظلم؟! إن هذه القضية هي التي تشغل بال الحريصين والمتفقهين في الدين من المصلحين المخلصين في العالم الإسلامي اليوم، وإن هذه القضية هي لب المشكلة التي نعيش فيها، إن فهمها يُسهّل معرفة الموقف الصحيح من المشكلات التي يواجهها المسلمون اليوم. وإن من الخطأ الكبير أن نقول للمسلمين ولشباب المسلمين بالذات الذين هم إلى الحركة والنشاط أقرب: هونوا على أنفسكم ولا تأبهوا لما يدور حولكم، وإن الله سينصر الدين فلا تكترثوا. كلا والله. إن هذا الكلام هو من اللهو والباطل، وإنه ليس من الصحيح أن تستقبل متحمساً ينقل إليك منكراً من المنكرات، أو يشكو إليك ظلماً من هذه المظالم الكثيرة التي تقع في المسلمين صباح مساء فتقول له: هون على نفسك واجلس في بيتك ولا تتدخل في أي شأن من الشئون، وإنما يكون من المناسب أن يؤخذ بيده فيقال له: تعال ننظر في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر، ثم تفكر معه في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر الذي يحدث. لأنك عندما تقول: هون على نفسك ولا تشتغل بشيء، فإما أن يدفعه ذلك إلى الإحباط وهذا أمر لا نريده، أو يدفعه ذلك إلى التمرد والانصراف عنك والسخرية من حكمتك التي جاءت في غير محلها، مما يدفعه إلى التفكير في قضية من قضايا العنف أو استخدام القوة المذمومة في غير محلها فتكون أنت السبب الذي أديت به إلى تلك الحال. ونحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة ونتطلع لفجرٍ قادمٍ بإذن الله، وإن هذه الظلمة التي ادلهمت واشتدت وإن كثرة المنكرات التي حصلت والتي تستفز نفوس المؤمنين فعلاً لا بد من معرفة الموقف المناسب حيالها، وقد بينا أنه لا بد أن ننفعل، وأن الذي لا ينفعل إنسان بارد لا نريده، وإن الذي لا يتحرك ضميره ولا قلبه مع مشكلات المسلمين وما يحل بهم مع الأوضاع المتردية هو إنسان لا يعيش هَمَّ الإسلام، ولا يصلح أن يحمل همَّ الإسلام وهو بهذا القلب البارد وهذه النفس الميتة، لكن ما هو الموقف اليوم وأنت ترى كلا الاحتمالين الخطيرين: الإصابة بالإحباط والقعود، أو التدهور في مهاوي العنف واستخدام القوة المرذولة غير محمودة العواقب. كيف يصل شباب الإسلام إلى الحل الوسط أو الوسطية في مواجهة هذه الأمور؟ كيف يضبطون انفعالاتهم التي تحدث في أنفسهم من وراء تكرر المنكرات وكثرة حصولها وانتشارها، وكلما انتهت قصة ظهرت قصة جديدة، وكلما قام حدث لا يلبث أن يحدث حدث آخر، وهكذا تتوالى الأخبار من أنحاء العالم الإسلامي في عددٍ من حالات الأذى والاضطهاد التي يلاقيها المسلمون من منعٍ وقمعٍ وحيالةٍ بينهم وبين القيام بشرع الله عز وجل، فما هي الطريقة يا ترى وما هو الحل لأجل ذلك؟

 

الطريقة النبوية في رد الانفعالات إلى الوسطية:

أيها الإخوة! إن هذا هو ما نريد أن نلقي عليه الضوء في بقية الحديث في هذه الليلة. إن المفتاح لمعرفة الجواب عن هذه الأمور يكمن في: أولاً: معرفة المرحلة التي نمر بها، والتقويم الصحيح لهذا الوضع الذي نعيش فيه، هل نحن في مكانٍ أو في مرحلة لا نستطيع فيها قول الشهادة على الإطلاق؟ أو أننا في وقتٍ فيه عزة للإسلام تستطيع فيه أن تغير ما شئت من المنكرات كيف شئت؟ الصواب: لا هذا ولا ذاك، وإننا نعيش اليوم مرحلة من مراحل الاستضعاف ولا شك، وإن الهيمنة للكفرة ولا شك، ولكننا نوقن بأن الله ناصرٌ دينه، ومعزٌ أولياءه، ومظهرٌ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فعلينا إذاً لضبط انفعالاتنا في مواجهة هذه الانحرافات والمنكرات وهذا الطغيان والظلم أن نعود بأذهاننا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان حاله وحال أصحابه عندما كانوا في وضعٍ يشابه الوضع الذي نعيش فيه الآن، من جهة غربة الدين ووقوع الظلم عليهم؛ كما هو واقع على كثير من المسلمين اليوم، ماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم عندما كان يظلم وهو بـمكة ؟ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة وجمعٌ من قريشٌ في مجالسهم إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام في أسوء الحالات، وضعوا على ظهره سلى الجزور وهو ساجد عند الكعبة وهو رسول الله وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم أخذوا يتضاحكون حتى كاد بعضهم يسقط من الضحك، ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في هذه الحالة؟ لا بد أن نسائل أنفسنا ونقوم الموقف ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في هذه الحالة؟ هل يأخذ أقرب سيف ويتجه إلى أقرب مشرك ويضرب رأسه بالسيف؟! لم يكن المسلمون الذين شاهدوا الحادثة بعاجزين أن يتجه واحدٌ منهم إلى أقرب مشرك ويضربه بالسيف، أو يقطع رقبة الذي وضع سلى الجزور على ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فانطلق منطلقٌ إلى فاطمة وهو جويرية صغيرة فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم، إذاً الإنكار كان من فاطمة الصغيرة بالقول هذا الذي تستطيعه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، فأنكرت عليهم فاطمة ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا كل ما حصل، تحمل الأذى صلى الله عليه وسلم. قال له أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ ما قال: اسكت يا كذا، الوضع لا يسمح بذلك، جاء في بعض الأحاديث: أن أصحاب بيعة العقبة الثانية رأوا أنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه في مكة ، فتحمسوا وأخذتهم الحمية قالوا: (إن أردت أن نغير على أهل منىً غداً، قال عليه الصلاة والسلام: إنا لم نؤمر بذلك) وهذا الحديث فيه كلام، وهو من رواية ابن إسحاق عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك ، لكن فيه معنىً مفيد ومهم للوضع الذي تعايشه الدعوة اليوم، تحمل عليه الصلاة والسلام الأذى لما كان مستضعفاً، وحتى لما صار في المدينة وهي القاعدة .. ما دام أن الرد ليس في مصلحة الإسلام لم يرد، كم مرةٍ آذاه عبد الله بن سلول ؟ وكم بلغ شر هذا الرجل؟ أوقع بين فئتين من المسلمين حتى اقتتلوا، وقذف عائشة حتى انتشر خبر الإفك في المدينة ، وأوذي عليه الصلاة والسلام في ذاته، ماذا فعل عندما انخذل في أحد ؛ ربما انخذل بعددٍ كبير من الجيش، فعل طامات كبيرة لكن ما كانت المصلحة في قتله، لو قتلوه لقال الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، فصار ذلك سداً ومانعاً من الدخول في الدين بالنسبة للناس البعداء الذين لا يعرفون حقائق الأمور وإنما يظهر لهم أن عبد الله بن أبي رجل من المسلمين ثم يقتله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لما كانت الأفضلية في عدم قتل الرجل ما قتله عليه الصلاة والسلام مع أن الرجل كان له شرٌ كبير مستطير. المسلمون في مكة اضطهدوا اضطهاداً شديداً، أخذهم المشركون وألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، لا شك أنه كان يمكن اغتيال بعض الكفار في مكة لكن ما هي الفائدة؟ كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، فكيف واجه عليه الصلاة والسلام هذه القضية مع أصحابه؟ بثلاثة أشياء: 1- كان يذكرهم بالأجر الذي ينتظرهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). 2- كان يقص عليهم من أنباء ما قد سبق ما هو مشابه لمرحلتهم وظروفهم التي يعيشون فيها، فكان يقول لهم: (إن الرجل كان فيمن كان قبلكم يؤتى وينشر بالمنشار الحديد ما بين اللحم والعظم ما يصده ذلك عن دينه) وقصة أصحاب الأخدود من أروع الأمثلة الدالة على هذا المبدأ. 3- كان يذكرهم أن المستقبل للإسلام ويقول: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه).

 

المستقبل لهذا الدين:

نحن اليوم في أشد الاحتياج إلى هذه الأمور التي يتربى عليها أبناء الإسلام. عدم الرد إذا لم يكن الرد من مصلحة أهل الإسلام، وتصبير النفس بالثواب والعقبى في الآخرة، وأخذ العبرة من أنباء ما قد سبق وعلى رأسهم رسول الله صلى عليه وسلم في مكة هو وأصحابه، وأن نتيقن أن المستقبل للإسلام. لأن الإسلام في طريق العودة إلى حياة المسلمين رغم جميع الضربات، الإسلام الآن في تقدم مستمر على جميع الأصعدة، وبعد انتهاء حرب الشرق والغرب انتقل مجال الصراع إلى التحدي بين الشمال والجنوب، أي بين الكفار والمسلمين، وصحيح أن المسلمين لا يملكون سلاحاً للمواجهة والتحدي يحصل به نوعٌ من الموازنة بين القوى، ولكن ماذا يملك المسلمون من الأشياء التي تستثير الكفار فعلاً؟ يملك المسلمون منهجاً حضارياً ينافسون به الكفار، هذا المنهج يعلن تقدمه باستمرار ويتأكد فشل المنهج الغربي يوماً بعد يوم، إن هذا الذي يقلق الكفار فعلاً؛ لأن النظام الحضاري لما درسه المستشرقون وقدموه لأسيادهم، وجدوا أن النظام الحضاري الإسلامي يفوق غيره بكثيرٍ جداً، وهذا ما سيقنع العالم بعد فترة من الزمن، أولئك الناس يخططون ويعرفون أن حضارتهم أنتجت الجنون والأمراض العصبية والنفسية والانتحار والمجاعات، والربا ازداد ازدياداً بحيث فقر الفقير جداً، واغتنى الغني غناءً فاحشاً، وعرفوا بأنه سبب هذه الأمراض التي تفتك بالملايين منهم، يقول لك: الآن موجود في تلك البلد مليون ونصف مصابون بالإيدز، الآن في عام [2000] سيصل العدد إلى كذا، ربما إلى أربعين مليون مصاب بالإيدز، وبعد كذا سنة سيموت هؤلاء؛ لأن هذه الدراسات التي يعملونها تؤكد أنه يمكن أن تنهار حضارتهم بالمرض فقط من غير حرب، ولا يحتاج إلى شيء يمكن أن تنهار بالمرض فقط والله عز وجل على كل شيء قدير. فهم يعلمون أن عند المسلمين نظاماً حضارياً هائلاً وقوياً جداً، ويعلمون أن حضارة الإسلام أفضل من حضارتهم، وأن هذا العلم بالدنيا الذي اكتشفوه جعل لهم ميزة من التفوق لن يصمد طويلاً وأنه سينهار، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى أن نعرف أن المستقبل للإسلام كعلاج نهدئ به أنفسنا في موازنة الانفعالات التي تحدث، وتمنعنا ونحن نسير على يقين بأن المستقبل لنا بإذن الله، المستقبل للإسلام بلا شك؛ لأن هناك عدداً من البشائر الموجودة في القرآن والسنة تؤكد هذا المعنى وهذا المفهوم، هذا الأمر الذي ينبغي أن يتيقنه المسلم .. حتى اليائس ماذا يفعل؟ اليائس الذي يعلم أنه غارق وأنه لا مستقبل له يخبط يميناً وشمالاً، يائس .. لا مستقبل له، لكن ليس هذا وضع المسلمين، لو كنا نعلم أنه لا مستقبل للإسلام وأنه إلى زوال، لكن نحن نعلم يقيناً أن المستقبل للإسلام وأن الله ناصر دينه، وأن هذه فترة مرحلية ستنتهي بالتأكيد، وأن تساقط الحضارات والمجتمعات الكبيرة جداً فيها دلالة قاطعة على بقاء الإسلام، فهناك أفكار بدأت وانتهت وصارت نسياً منسياً، ونظريات زالت وبقي الإسلام موجوداً في الواقع، رغم المحاولات الكثيرة والحملات المتعددة إلا أن الإسلام بقيت جذوره موجودة، ماذا يعني هذا؟ بل إنه في ازدياد كما تدل عليه الحوادث الجارية الآن، والمسلمون في ازدياد وتقدم من الوعي وغيره عدداً وكماً وكيفاً، فمعنى ذلك: أنه لا حاجة إلى أن نخبط خبط عشواء ونحن نعلم أن المستقبل لنا، إذا كنا نحن جيل الصحوة فأولادنا جيل النصر إن شاء الله، ولن نيئس وربما نرى النصر في حياتنا فما يدرينا. فإذاً نقول: أن تعلم أن المستقبل للإسلام هذا مهم في ضبط الانفعالات، لأن الذي يعلم أن المقتول مقتول والزائل زائل فلنخلد ذكراه ولو باللعنات، لكن الذي يعلم بأن المستقبل له فعلام يسير بشكل أهوج ويخبط بدون حساب؟! هذا لا يمكن أن يكون.

 

الوسائل الشرعية في إنكار المنكر وضبط الانفعالات:

 أولاً: أن نعرف سيرته عليه الصلاة والسلام كيف انضبط هو والصحابة رضوان الله عليهم في مكة في مرحلة الاستضعاف، ما استعملوا القوة مطلقاً في مواجهة ما واجهوه، وإنما صبر عليه الصلاة والسلام هو ومن معه، و(صبراً آل ياسر) ويصبر ويذكرهم بالجنة ويعطيهم أنباء ما قد سبق، ويبشرهم أن المستقبل للإسلام، هذا ما كان يحدث، إذاً هذا الذي كان يحدث عملياً في مكة. ثانياً: إذا كان استعمال العنف واستخدام اليد ليس من مصلحة الإسلام فلا يجوز الإقدام عليه في أي حالٍ من الأحوال، خصوصاً ونحن نعلم أن القاعدة الشرعية: أن إنكار المنكر بطريقة تؤدي إلى منكر أكبر منه لا تجوز، وبالتالي فقد يقول قائل: فما هو الموقف إذاً حيال المنكر؟ وكيف يتصرف المسلم؟ فنقول: لا بد أن يكون للمسلم موقف، ومن الخطأ ألا يكون له موقف، ولذلك جاءت مراتب الإنكار بالمنكر، ومن أجل ذلك نقول: إن الإنكار باللسان لو استطاع عليه المسلم لا يجوز أن يتركه، لا بد أن يقوم ل�

المصدر: محمد صالح المنجد - كانول وحدة المعرفة
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,878,008

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters