ما هو مفهوم الشخصية؟

      يتمحور مفهوم الشخصية الإنسانية حول المكونات الثلاث الأساسية للإنسان: الجسد والعقل والروح. وهل النفس مكون رابع للشخصية أم هو داخل في مفهوم الروح؟ خلاف محتدم بين المختصين ... ولكن ربما يكون الخلاف لفظيا فعند التمعن في المكونات الفرعية لا نجد اختلافا كبيرا بين المختلفين.  

المكون الأول: الجسد

      الصفات المادية للإنسان من طول وعرض وقوة في العضلات ولون البشرة وهيئة الشعر ... إلخ، تشكل جانبا من جوانب الشخصية. هذه الصفات هي في ذاتها تعطي الإنسان مكانة عند الناس تناسب ماتوافق عليه الناس من تفاعل تجاه هذه الصفات، وهذا التفاعل يختلف من مجتمع لآخر، ويتأثر بالموروث الإنساني والقيم الدينية للمجتمع. وهذه الصفات الجسدية تؤثر من ناحية أخرى في المكونات العقلية والروحية والنفسية. فنلاحظ على سبيل المثال بعض الأشخاص الذين يمتلكون صفات جسدية ربما تعتبر سلبية في مجتمعاتهم، نلاحظ اندفاعهم الشديد لتحطيم هذه الأعراف المجتمعية من خلال إثبات العكس في أنفسهم.     

    

  وفي الماضي العريق قال الشاعر:

  لا بأس بالقوم من طول ومن عظم         جسم البغال وأحلام العصافير

      فالشاعر هنا يسخر من أولئك النفر الذين ظنوا أنهم بضخامة أجسامهم قد حازوا فخرا وشرفا عظيما، فهو ينبههم إلى أن المعول عليه في المكانة بالدرجة الأولى إنما هي العقول (أحلام) لا ضخامة الأجسام.  

المكون الثاني: العقل

      العقل بقدراته المختلفة، المعرفية والفكرية، يعتبر المكون الرئيسي الثاني للشخصية. وهو الثاني باعتبار القرب والبعد عند ذكر الجوانب لا باعتبار الأهمية. فنحن عندما نسرد الأشياء نميل إلى ذكر الأشياء المحسوسة أولا ثم نلتفت إلى الجوانب المجردة. فالجسد هو الجانب المحسوس من الشخصية ثم يليه العقل، الجانب المجرد، ثم تأتي الروح والنفس ثالثا باعتبارها الجانب الأكثر هلامية وغموضا من الشخصية. ولعل ترتيب الأهمية من حيث درجة تاثير كل مكون في الشخصية يكون بالعكس تماما!! وإن لم يكن هناك طريقة لقياس ذلك حتى الآن على الأقل.      

 

 

 سمي العقل عقلا لأنه يعقل (يربط) صاحبه عن الاندفاع نحو الأعمال والأقوال التي توقعه في الحرج. وإنما توفر له ذلك بسبب ما يحتويه من كم هائل من المعلومات والمعارف والقدرات والمهارات والقيم والاعتقادات والتجارب الشخصية. ولا شك أن مجموع هذه المكونات الجزئية تعطي للشخصية قدرا هائلا من التميز يجعلها تتجاوز ما يمكن أن يكون في الجوانب الجسدية من قصور، بحسب المتعارف عليه مجتمعيا. والعقل هو مناط التكليف دينيا، ولا يدخل الانسان دائرة التكليف إلا عند بلوغ سن الرشد ويسقط عنه التكليف إذا خرج من دائرة العقلاء. ولا شك أن هذا يعطي العقل أهمية فوق أهمية الجسد.  

المكون الثالث: الروح والنفس

    الروح والنفس هي المكون الأكثر غموضا في شخصية الإنسان، ولعلها الأكثر تأثيرا في شخصيته. تمثل الروح والنفس مجموعة القيم والمعتقدات التي يتبناها الإنسان في حياته، وهذه القيم والمتعقدات هي ناتجة في الأساس عن ثقافة الإنسان ومعلوماته، وتجاربه وخبراته. فنتيجة المعرفة تتولد لدى كل إنسان مجموعة من القيم والعتقدات التي تصقل شخصيته وتؤثر بشكل مباشر على سلوكه وانفعالاته.

  لعله من الصعب النظر إلى هذه المكونات التفصيلية بناء على المنظور الثلاثي جملة واحدة، لأن هذه المكونات لا تتموضع بشكل منفصل في واحد من تلك الأركان الثلاثة ولكنها تمتزج وتتشابك بشكل مذهل ومدهش حير كبار العلماء.

     لذلك سنستعين في سبيل الإقتراب وفهم تلك المكونات التفصيلية بنموذج آخر هو نموذج المستويات المنطقية العصبية، وهو أحد النماذج التي تقدمها البرمجة اللغوية الإدراكية، إحدى مدارس علم النفس والتي تقوم على أساس فهم دور اللغة في بناء شخصية الإنسان.

 

المستويات المنطقية العصبية للشخصية الإنسانية

 

    يأخذ الشكل العام لهذا النموذج شكل الهرم. وهو في تدرجه من الأسفل إلى الأعلى يمثل التدرج التاريخي لتشكل الشخصية. إتجاه السهمين إلى الأعلى والأسفل يبين التأثير المتبادل بين المستويات المختلفة. المستويان البيئة والسلوك يمثلان القاعدة المحسوسة التي تبنى عليها باقي جوانب الشخصية، يليها القدرات والقيم والاعتقادات والتي تمثل الجانبان الفكريان ثم في أعلى الهرم الهوية الشخصية والقيم الروحية والتي تمثل قمة سمو الشخصية الإنسانية والتي لها تأثير كبير على جميع المستويات السفلى. وسماكة السهم النازل تبين التأثير الأكبر للعناصر العليا على العناصر السفلى.

     البداية تكون من القاعدة حيث البيئة والتي تتمثل في المكان والزمان والأشخاص الذين يحيطون بالإنسان. فمنذ ولادة الإنسان يبدأ تأثره بمحيطه البيئي، بل إن بعض الأبحاث الحديثة تذهب إلى أن الإنسان يبدأ تأثره ببيئته وهو في بطن أمه. تتغير عناصر البيئة بنمو الإنسان ونمو قدراته الإدراكية. ففي أيامه الأولى يقتصر احتكاكه على والديه وأفراد أسرته في البيت. ومع نموه يبدأ في التعرف على أشخاص في أطار أكبر ويتعرف على أماكن أخرى مثل الجيران والمدرسة والشارع والعمل ... إلخ.

    برغم كون البيئة عنصرا ماديا حسيا تأثيره عادة أقل من تأثير العناصر الفكرية والروحية إلا أن دوره في تكون الشخصية مهم جدا. وتبين الدراسات الحديثة دورا متناميا للبيئة في صقل شخصية الإنسان. فالبيئة الفقيرة تنتج شخصيات فقيرة فكريا وثقافيا وروحيا وعلى عكس ذلك البيئة الثرية. قارن بين سرعة تعلم أطفال الأجيال الحالية التي تعيش وسط بيئة ثرية بقنوات المعرفة العديدة من كتب ذات إخراج فني عال، وأقراص سي دي ذات محتويات غنية، وقنوات تلفزيونية، وأجهزة كمبيوتر وشبكة الإنترنت وبين الجيال السابقة قبل 20 – 30 سنة والتي كانت تعيش في بيئة أفقر.

    هذه البيئة الثرية لن يكون لها أي فائدة إذا لم نغرس في نفوس أبنائنا قيمة العلم والمعرفة وضرورة التزود به من مصادره الموثوقة، لاحظ أن القيم تأتي في مستوى أعلى من البيئة، لأن هذه البيئة ستستخدم في متابعة ما لا دور إيجابي له في صناعة الشخصية المؤثرة بل ربما يكون دوره تدميري في شخصية إنسان المستقبل.

     من الشواهد التي تبين الدور الكبير للبيئة في تكوين شخصية الإنسان الحالات النادرة لأناس تربوا بين الحيوانات. ورغم قلة هذه الحالات فإنها تبين بوضوح كيف أن الإنسان عندما يتربى في بيئة فقيرة لغويا ومعرفيا وفكريا وروحانيا فإن النتيجة تدون مفزعة. وجدت هذه الحالات وقد تضخمت لديها القدرات الجسدية بينما القدرات العلوية الفكرية والروحية ضامرة وضعيفة. من الأمور اللافتة أن تلك الحالات كانت تواجه صعوبات كثيرة في التأقلم مع البيئة البشرية وهي في جميع الأحوال لم تستطع أن تصل إلى مستوى التفكير والشعور الذي وصل إليه الإنسان الذي تربى في بيئة إنسانية مما يؤكد الأهمية القصوى للسنوات الـ 6 الأولى في وضع الأساس الذي تبنى عليه شخصية الإنسان. فالإنسان الذي يتجاوز الثامنة ولم يتعلم لغة التخاطب يصبح من المستحيل عليه تعلم اللغة فيما بعد.

    المستوى الثاني يمثل السلوك وهو مجموعة الأفعال وردات الفعل والأقوال التي تصدر عن الإنسان. بطبيعة الحال فالإنسان الحديث الولادة تكون أفعالة محدودة وأقواله محدودة جدا. فمن الأفعال التي يمارسها المولود حديثا المص لكل ما يقترب من فمه والاستماع إلى الأصوات والتأمل في الوجوه أما الأقوال فتكون محدودة في الصراخ والبكاء للتعبير عن طلب المساعدة أما ردات الفعل فتتمثل في الإمساك بما يلامس اليد والابتعاد عن مصادر الألم. تولد هذه الأفعال والأقوال وردات الفعل مع الإنسان وتمثل برامج فطرية خلقها الله تعالى في هذا الكائن لتعينه على المحافظة على حياته.

    تنمو وتتكاثر هذه السلوكيات بنمو الإنسان وتشهد طفرات كبيرة في سنوات الإنسان الأولى فيبدأ بالحبو ثم المشي ويتعلم الكلام والكتابة واللعب ... إلخ من الأقوال والأفعال وردات الفعل التي يتعلم الكثير منها من احتكاكه اليومي مع المستوى الأول: البيئة.

    نلاحظ في المستويين الأول والثاني إعتمادهما الكامل على الحواس، المستويان الجسديان. فالإنسان في أيامه وربما سنواته الأولى لا يمكنه إدراك المعاني المجردة بل يكتفي بالمحسوسات فقط ومع نموه وتراكم الخبرات يبدأ في إدراك المعاني المجردة وفهم معانيها. نقصد بالمعاني المجردة المعاني التي ليس لها كيان مادي يمكن إدراكه بالحواس مثل الأخلاق والمعتقدات.

    ولنضرب مثالا على التأثير المتبادل بين البيئة والسلوك، فإذا كان الجو حارا ( البيئة )، سينشأ عن ذلك سلوك تذمر وكسل وخمول ... وهنا التأثير من أسفل لأعلى. وهذا في حالة الانسان صاحب المرجعية الخارجية القوية ، بمعنى الانسان الذي يتأثر بالعوامل الخارجية. أما الانسان صاحب المرجعة الداخلية ( الذاتية ) القوية فإنه سيعمل على مقاومة العوامل الخارجية ( البيئة ) ويعمل على تحقيق أهدافه مهما كانت الظروف الجوية. وهذا يتمثل في قول الشاعر لطالب العلم :

إإذا أنت يؤذيك حر المصيف      ويبس الخريف وبرد الشتا

ويلهيك حسن زمان الربيع      فأخذك للعلم قل لي متى

    وبالمقابل يمكن تمثيل تأثير السلوك في البيئة بتأثير الإنسان صاحب الشخصية الجذابة المؤثرة في من حوله ( البيئة ) حيث يعمل على تحويل البيئة إلى بيئة فعالة ومنتجة.

المصدر: محمد العولقي - كانول وحدة المعرفة
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 1724 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,833,345

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters