محمد عبد الله السمان
لا جدال في أن الهجرة النبوية ـ على صاحبها أفضل صلاة وأكمل تسليم ـ تمثل مرحلة من أهم مراحل الدولة الإسلامية وأخطرها. فهي مرحلة انتقالية لإثبات وجودها سياسياً وعقائدياً؛ فالمرحلة المكية على مسار ثلاثة عشر عاماً، كانت لإثبات العقيدة.. بل وتثبيتها في أذهان أتبعاها، من ناحية ـ ومن ناحية أخرى ـ لتعرية عقيدة الجاهلية ـ وبضدها تُعرف الأشياء ـ كما يقولون.
أضف إلى ذلك أن المرحلة المكية، كان لا بد منها، لصقل إيمان أتباعها، ليكونوا نواة المستقبل للدولة الإسلامية، وكانت توجيهات القرآن، وتوجيهات الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه- للنواة الأولى من أتباع الدعوة، تقوم على أساس الثقة في الله ـ عز وجل ـ والنصيحة في مواجهة ما يلحقهم من أذى بالغ من الضراوة والشراسة، ولعلنا نلمس ذلك من موقف لا نكاد نذكره. حيث كان رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يمر على آل ياسر وهم يُعذّبون، فيقول لهم: "صبراً آل ياسر.. فإن موعدكم الجنة"، واستجابوا، وكانت أم عمار أول شهيدة في الإسلام. وفي صحيح البخاري عن خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال: "شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ـ فقلنا: "ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟." فقال: "قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل، فيحفرون له في الأرض، فيُجعل فيها.. ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليُتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"!
إن إرادة الله ـ عز وجل ـ اقتضت أن يكون الإسلام ديناً، يصحح مسار العقول التي حادت عن الطريق السويّ، ويصحح مسار الحياة البشرية التي شملتها الفوضى، بعد أن تحوّلت إلى غابة شاسعة، يفترس القوي فيها الضعيف، وأن يكون الإسلام دولة، تقيم العدل بعد أن اختلت موازينه، وتؤازر الحق، بعد أن أصبح مضغة في أفواه الباطل، فالعالم يومئذ تحكمه إمبراطوريتان، إحداهما صليبية تنكبت مبادئ المسيحية، والأخرى وثنية تمتهن العقل، أعني إمبراطوريتي: فارس والروم، وبذلك يكون الإسلام بدولته ضرورة لإنقاذ البشرية من الوحل، وكانت الهجرة البشرية هي البداية لإقامة دولته.
يرى الشيخ محمود شلتوت ـ شيخ الأزهر الأسبق ـ في دراسته:"الإسلام والوجود الدولي للمسلمين" العدد الثالث من "سلسلة الثقافة الإسلامية" التي كنت أصدرتها (1958 ـ 1965 )! أن حادثة الهجرة، كانت نقطة تحوّل في تاريخ البناء الإسلامي، لتقوم فوق الأرض الجديدة ـ يثرب ـ دولة ذات منهج ونظام وهدف، والهجرة من الأحداث الفذة التي كانت تمهيداً لتثبيت البناء الإسلامي، وميلاد دولة داخل إطار من القوة، وبذلك أصبحت (الهجرة) من الأحداث الإسلامية الكبرى التي يجب أن تحمل العظمة في نفس كل مسلم.
ويضيف الشيخ: "وقد عُني المؤرخون كثيراً ـ وهم يتكلمون على هذا الحدث ـ بذكر حوادث الإيذاء التي كانت تتصل بالرسول وأصحابه الذين لبّوا دعوته، ومن هنا ألبسه أرباب الهوى الخاص ـ وهم يكتبون سيرة (النبي العربي) ـ ثوب الفرار وعدم الصبر والاحتمال في القيام برسالته، ولم يتورّعوا ـ إمعاناً فيما يشتهون ـ أن يلصقوا كلمة (النبي الفار) وقد ظنوا أن هذا الثوب المهلهل الذي خلعوه على هذا الحادث العظيم، يستطيع أن يستر الحقيقة التي يحملها بين جنبيه، والتي لم تلبث ـ بعد الوصول إلى المدينة، أن سطع نورها، وانتشر أريجها، وبدأت الغشاوة التي وضعها الجهل على العقل البشري حيناً من الدهر، والواقع أن هذه الهجرة (البدنية) لم تكن إلا أثراً من آثار هجرة القلوب، عما كان عليه القوم من عقائد فاسدة، وشرائع باطلة، وعقائد وتقاليد، كان لها في هدم الإنسانية، ما ليس للمعاول القوية في تقويض البناء الشامخ العنيد" .
وأقول: إن الهجرة كانت لتأكيد علمية الإسلام، وهي حقيقة حاول بعض المستشرقين ذوي الأهواء أن يطمسوها، متجاهلين ما أقره القرآن ـ كتاب الله ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ـ وقد تصدى عملاق الأدب الأستاذ العقاد لقوله تعالى:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا...).[الشورى: من الآية7] لتنذر أم القرى ومن حولها، يقول:"وأياً كان القول في اللغة التي تكلم بها النبي، وفي صلاح هذه اللغة للدعوة العالمية، فإن النوع الإنساني يشمل أم القرى (مكة) وما حولها، ولا تعتبر هداية أهلها عزلاً لهم عمن عداهم من الناس؛ إذ كان خطاب الناس كافة يمنع أن يكون الخطاب مقصوراً على (أم القرى) ومن حولها، ولكن خطابه (أم القرى) ومن حولها، لا يمنع أن يعم الناس أجمعين..
فكيف يسيغ العقل أن يكون صاحب الدعوة المحمدية ـ خاتم النبيين ـ إذا كانت رسالته مقصورة على قوم لم يأتهم من قبل نذير؟! إن طائفة من المستشرقين تسيغ ما لا يسيغه العقل في أمر القرآن وأمر الإسلام".
ظهر حديثاً للشيخ عبد الجواد أحمد عبد المولى-الإمام والخطيب والمدرس بالأوقاف ـ كتاب يحمل عنوان "الدروس التربوية الدعوية من الهجرة النبوية" في زهاء مائتي صفحة من القطع الكبير، أشار في المقدمة إلى أن ما أراده من كتابه: دعوة للتفكر والتدبر، لبعض صفحات التاريخ الإسلامي، وبخاصة تاريخ الرسول وجهاده في هجرته، لنتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه في أرضه، وسنن الله الثابتة لا تقبل تبديلاً ولا تحويلاً، والهجرة تبين لنا كيف أخذ المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالأسباب الأرضية، وتوكل ـ في نفس الوقت ـ على الله، ولا تضادّ بينهما ـ وقد تعامل سلف هذه الأمة مع السنن الكونية، فسادوا العالم، ولم يع الخلف هذا المعنى، مما جعل الأمة اليوم في حال يُرثى لها ..
وما عرض له المؤلف:
ـ الهجرة النبوية المحمدية لم تكن بدعة، بل سنة قديمة، فقد هاجر من أنبياء الله: إبراهيم ولوط وموسى عليهم السلام.
ـ أسباب الهجرة: ذكر المؤلف الأسباب التقليدية التي سجلتها كتب السيرة، وكنت أود أن يهتم بمسألة ذات أهمية خاصة، وهي أن الهجرة كانت استجابة لأمر الله، ولم تكن مجرد خاطرة خطرت على بال الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فراراً من الأذى، فالله ـ عز جل ـ هو الذي قدر بعد أن حققت الدعوة أهدافها في مكة التي لم تكن تصلح لإقامة دولة .
ـ عوامل نجاح الهجرة: وضوح الهدف، المعرفة، اختيار الوقت المناسب، ولعامل التوقيت أهمية متنامية في عملية التخطيط، القدرة على مواجهة الظروف المتغيرة، إخلاص القائمين على التنفيذ، التهيئة والإعداد النفسي، ونسي المؤلف: عناية الله، وهي الأساس وفوق كل شيء.
ـ مظاهر نجاح الهجرة: خسرت قريش موازين القوى التي توارثتها على مدى قرون وزال عنها سلطانها، لم تعد قريش حاجزا في وجه الدعوة الإسلامية، إذا أسقطت الهجرة هيبتها من نفوس المستضعفين الخائفين..
ذكر المؤلف في شجاعة أن الكتاب: جمع وإعداد، وليس تأليفاً، وهذا يعفيه من النقد، ويُحمد له، أن قدم لنا معاني كانت في حاجة إلى التحليل، الذي خلت منه بعض كتب التراث التي اهتمت بسرد الأحداث، لكنها حفظت لنا أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية. إن الهجرة حفلت بالكثير من المؤلفات عدا ما دونته كتب السيرة قديماً وحديثاً، وهذا ما جعل مهمة من يكتب عن الهجرة شاقة؛ إذ لا بد من أن يضيف جديداً، ونجح المؤلف جهد استطاعته.
ويُؤخذ على هذه الدراسة: أن المؤلف خرج على الموضوع الأساسي أحياناً، صحيح أن ما زاده تضمن معاني جديرة بالاهتمام، كذلك كنا نود أن يربط الهجرة النبوية بالمعاصر، وقد أصبحت الأمة المسلمة التي أرادها الله خير أمة أخرجت للناس ـ عاجزة حتى عن الدفاع في مواجهة التحديات الشرسة، وذلك بعد أن كانت رأساً، و أصبحت تابعاً بعد أن كانت متبوعاً، وبقي أن نقول: إن المؤلف بذل جهداً كبيراً وشاقاً، وقدم لنا دراسة معاصرة يحتاجها الشباب قبل الشيوخ.
وبقي سؤال يطرح نفسه، وفي أسى مرير: أين اليوم من الهجرة التي لم تكن نقطة تحول في تاريخ دعوة المسلمين ـ وحسب ـ بل كذلك أرادها الله ـ عز وجل ـ منهجاً ومعنى وبرنامج عمل للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ودرساً يجب أن يعيه المسلم في كل زمان ومكان.. فهل يليق بنا ألاّ نذكر الهجرة إلا أياماً معدودات في كل عام: أحاديث ومقالات يغلب عليها التكرار شبه الممل، ثم ننساها بعد ذلك؟
وحسبنا هنا أن نتوقف عند قضية لها أهميتها، أعني قضية ـ أو محنة ـ الأقليات المسلمة في شتى بقاع المعمورة، والعديد من هذه الأقليات تُشن عليها حروب إبادة شرسة، كما في الفلبين وبورما وتايلاند، وغيرها، إن كتاب الله تعالى كتب علينا الجهاد من أجل إخوة لنا في العقيدة مستضعفين في الأرض، وفي سورة النساء ـ :( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً). [النساء:75]. ولا جدال في أن الجهاد هنا فرض عين لا فرض كفاية، وإذا كان عقد الأمة الإسلامية اليوم قد انفرط، ولم يكن للدولة الإسلامية وجود.. نملك السلاح لا لنقاتل به الأعداء، بل ليقاتل به المسلم أخاه المسلم. دونما اعتبار لتحذير الرسول لنا في خطبة الوداع:"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وقوله في الصحيح المتفق عليه: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
أقول إذا كنا عاجزين عن الجهاد المسلح، فلماذا لا نلجأ إلى سلاح آخر: جهاد المقاطعة، وهو سلاح له خطورته، وإذا كان هذا السلاح تقرر بالنسبة للثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك وهم مسلمون، فمن باب أولى المعتدون على إخواننا من غير المسلمين، والمفاجأة التي ترتجّ لها السماوات السبع. هي أننا أصبحنا أصدقاء لأعدائنا، نمنحهم الولاء، ضاربين عرض الحائط بقوله تعالى محذراً في سورة المائدة :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ). [المائدة:51-52]. وأخيراً.. وليس آخراً: فليتنا نعي اليوم كلمات الشيخ شلتوت ـ رحمه الله-: "كانت الهجرة من بين الأحداث كلها جديرة أن تتجه إليها الأنظار، ويُتّخذ منها مبدأ للتاريخ الإسلامي، ليكون للمسلمين من ذكراها في كل عام، ومن التوقيت بها في مكاتباتهم وعقودهم وأحداثهم العامة والخاصة درس متصل الحلقات، يساير حياتهم كلها". ولله الأمر من قبل ومن بعد.