غادة بنت أحمد حسن
تنمية وتطوير الموارد البشرية من المجالات الهامة؛ إذ الكثير من المشاريع الناجحة والقوية والمستمرة أصبحت لا تنفك في هذا العصر عن الاستعانة بمتخصّصين في هذه المجالات لتحقيق أهداف بعينها، من خلال أفضل استخدام ممكن للإمكانات المادية والبشرية والفنية المتاحة.
وعليه فإن العنصر الأساس هنا هو الإنسان "الحي الماثل"! أمامنا بكل ما يملك من طاقات ومواهب، أما أن يكون الاهتمام بذلك الإنسان وهو لا يزال عدماً وفي عالم المجهول، فهذا ما لم يتطرق إليه أي جهاز إداري أو خبير في هذا المجال مهما كانت درجة حيازته لمهارات وفنون في تخصصه، ولكن هذا ما استوقف الرسول -صلى الله عليه و سلم- من خلال رؤية مستقبلية ما سبقه ولا لحقه فيها أحد من البشر، حتى من الأنبياء أنفسهم؛ إذ دعا نوح عليه السلام على قومه، وما قال إبراهيم عليه السلام إلاّ (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [إبراهيم: 36]، و قريب من ذلك كانت دعوة عيسى عليه السلام (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118].
لكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت له رؤية أعمق دلّت على مدى تقديره وعمق نظرته لهذه الثروة البشرية وأهمية الحفاظ عليها؛ فهي عماد التقدم والنهضة لأي أمة من الأمم.
لذا حين خذله أهل الطائف ولم يعينوه على أمره، وأساؤوا الأدب معه، ولم يكرموا ضيافته، ولم يكتموا أمر زيارته، كما تمنى عليهم ذلك حتى من باب أن العرب قوم أوفياء للعهد و الكلمة، بل أشاعوا أمر هذه الزيارة، وأغروا غلمانهم وسفهاءهم بإلقاء الحجارة عليه، فبلغ الجهد و النصب منه مبلغه، حتى إن عائشة -رضي الله عنها- سألته يوماً: "هل أتى عليك يوم كان أشد من أُحُد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، و كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت و أنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً" البخاري [3231].
والعقبة هي الطائف، والأخشبين جبلان بمكة، ووصوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قرن الثعالب وهي بعيدة عن الطائف يدل على ما كان به من الهم والغم؛ إذ سار هذه المسافة الطويلة، ولم ينتبه إلاّ عند وصوله إلى هذا المكان البعيد، فإصابته يوم أُحُد كانت أبلغ من الناحية الجسمية، أما من الناحية النفسية فإن ما أصابه يوم الطائف كان أبلغ و أشدّ.
وكان حريّاً به صلى الله عليه و سلم -وهو مستجاب الدعوة- أن يدعو عليهم، ولكن حين يعظم الهدف ويتأكد العزم داخل النفس على الوصول إليه وتحقيقه، يهون في سبيل ذلك كل ما يلقى المرء من عوائق ومعوقات، ولا تكون الذات والأخذ بحقها مما نالها من أذى، حاضرة على نحو يشوّش على صاحبها، فيقع التفويت لمصلحة أكبر من أجل مصلحة أقل، والحفاظ على العنصر البشري من الهلاك والدمار طمعاً في الحصول على ذرية أقوى وأعلى في معدل الإنتاج لما فيه صالح البشرية كلها. كان مما يخطط له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو الذي تربّى فكره ونظرته المستقبلية على قوله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ) [البقرة: 134]، فليس شرطاً أن يشبه اللاحق السابق في كل شيء؛ فلكل إنسان على هذه الأرض ما يميزه، ويجعله متفرداً في جوانب كثيرة لا يشبه فيها أحداً من الخلق كلهم، ولكن النجاح في البحث عن هؤلاء المتميزين فقط على أرض الواقع، وليس في الأصلاب! وتفعيل طاقتهم وتطويرهم مرهون إلى حد كبير بتوفّر عدد ممن يملكون رؤية كالتي امتلكها الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أكثر من أربعة عشر قرناً!
في هذا العصر الذي يشهد ثورة عارمة في التكنولوجيا فيما يخص علوم الأجنة والجينات والبحث في الأمراض التي يمكن أن تصيب هذه الأجنة وهي لا تزال في الأرحام، ألا يكون اهتمام المسلمين بعلم الوراثة والعناية الشديدة بالفحوصات الطبية والتحاليل للشباب والفتيات، وبخاصة الأقارب منهم، قبل الزواج لتأمين عدم إصابة هذه الذرية القادمة مستقبلاً بأحد الأمراض الوراثية، والدعوة إلى رفع الوعي لدى الناس بتطبيق هذا النوع من التكنولوجيا، والحرص على تثقيفهم بكيفية التعاطي مع آلياتها- ألا يمكن أن يكون ذلك سعياً نحو التأسي بالرسول صلى الله عليه و سلم؛ لامتلاك رؤية تقدمية في التنمية البشرية، حين يخرج من الأصلاب المؤمن القوي، والذي هو خير و أحب إلى الله ليعبده ولا يشرك به شيئاً، قوياً في إيمانه وعقيدته وبدنه وعلمه وعمله؟