د. خالد بن سعود الحليبي
الحب .. تلك العاطفة الخلاّبة، التي يشعر كلٌّ منا أنه في أمس الحاجة إليها، كلنا نحبُّ أن نُحِبَّ، وأن نُحَبَّ، وبقدر ذلك نكون راضين عن أنفسنا أكثر، وكلما أحسّ الإنسان أنه مقبول من نفسه ومن الآخرين، كلما كان أكثر إيجابية في هذه الحياة.
ولعل في رمضان فرصة لتنشّق عبير حب عظيم؛ هو أعظم حب في الوجود حبُّ الله للعبد، وحبُّ العبد لله؛ لأنه سر الحياة، وإكسيرها النفيس، وحول قطبه النوراني تدور كل كواكب الحب الإنساني.
وينمو هذا الحب في القلب الصادق من خلال عبادات يأخذ بعضها بحُجز بعض؛ حتى لا تفتأ النفس المؤمنة صائمة قائمة تالية ذاكرة لمحبوبها الأعظم؛ مما يرتفع بمستوى إيمانها إلى درجات من السموّ لا تحصل عليه خارج دائرة رمضان.
ومن خلال تنمية الحب لله تعالى تنمو حدائق الحب الأخرى بدءاً بحب الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو طريق إلى حب الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) [آل عمران:31].
وحب الوالدين؛ الذي منبعه حب الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [14: لقمان]. ولعلك تحس كما أحسست بأن هناك امتزاجاً وتداخلاً عجيباً بين الحُبّين؛ فالوصية من الله بإكرام الوالدين، ثم أمرٌ بشكرهما بعد شكر الله تعالى مباشرة، ثم عودةٌ إلى الله مرة ثالثة لتُختم آية الوالدين به عز وجل.
وحتى حب المؤمن للمؤمن مبنيّ على حب الله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [54: المائدة]. وفي الحديث "ثلاثٌ من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار" [البخاري 16]. فالعلاقة في الثلاث كلها علاقة حب وكره.
وحبنا للأشياء وتحديد المواقف مبنيّ على الحب والكره، ولكن نظرتنا للأمور مبنية على تصورنا لها من الخارج، والله هو الذي يعلم بواطن الأمور وما وراءها، فلذلك جاء التوجيه الرباني في هذا الحب والكره بآية عظيمة جاء فيها: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). [البقرة:216].
والحب الإلهي للعباد وما يدور من شأنهم مبنيّ على الحقيقة المطلقة التي لا يتطرق إليها شكٌ البتة، فما أحبه الله فهو الذي يستحق أن يُحَبَّ، وما لا يحبه، فهو المستحق للبغض والكره والهجران؛ وقد جاءت المواقف الربانية لكثير من الأمور في حياة البشر بصيغة الحب والكره، فالله تعالى: (لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190].، و(يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]، وهو (لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة:205]، و(يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222]، وَاللّهُ (لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:57]، ولكنه (يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران:76]، وهو عز وجل (لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) [النساء:36]، ولا (مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء:107]، ولكنه (يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة:42].
ولأنه يحب المقسطين، وبناء على كل تلك المحبات المعللة، جاءت علاقتنا بالآخر علاقة حب وعدم حب بحسب علاقته هو بنا، فإن كان معادياً محارباً نابذناه العداوة، ولم نعطه الحب الذي لا يستحقه بالطبع، قال تعالى: (هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). [آل عمران:119]. وإن كان مهادناً أو موافقاً أو متعاوناً بذلنا له حب الخير فيه، ورغبتنا في أن يمنّ الله عليه بما منّ علينا من الدين الذي رفَعَنا به.
ولعل في آيات الممتحنة ما يشفي الصدور، ويعدل المسار في العلاقة بالآخر؛ يقول الله تعالى: (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:7-9].
وهكذا تجعلنا هذه الآيات بين يدي عدالة عظمى في الحب والبغض، والمودة والعداوة، وهي أمور قلبية محضة، ولكنها الأساس للعلاقات الإنسانية صغيرها وكبيرها.
في رمضان فرصة لتجديد الحبّ الإنساني في ميزان الحبّ الرباني .. فهل نحن فاعلون؟