سلطان الذيب
شرع الله العبادات والفرائض لحكم جليلة وغايات عظيمة؛ فليست الفرائض شعارات يُتلفظ بها وحركات نعملها وحسب.. إنها أكبر من تلك الحركات والشعارات.. إنها تربية للأمة على صفات تجعلها تحافظ على خيريتها فهي تقوي الإيمان، وتزكي النفوس، وتقوم السلوك وتهذب الأخلاق، وتجمع الشتات، وتؤلف القلوب، وإذا لم يتحقق شيء من ذلك فهناك خلل في هذه العبادات، ولم تؤدَّ بالشكل المطلوب، لذا لن يكون لها أثر يذكر.
ولا شك أن عبادة الحج لا تخرج عمّا ذكرنا، بل انفردت بدروس عظيمة وغايات كبيرة للأمة بأسرها قد لا توجد في طاعة أخرى؛ فالحج مدرسة عظيمة ومنحة ربانية، ولها مقاصد وأسرار كثيرة وعظيمة لمن تعرف عليها وتدبرها.
إن المتأمل في أعمال الحج يستفيد منها دروساً خالدة، ويأخذ منها معاني سامية، وسنركز هنا على درس مهم من تلك الدروس العظيمة من مدرسة الحج ألا وهو الوحدة الإسلامية؛ فالقبلة واحدة، والرب واحد، والدين واحد، والوجهة واحدة، واللبس واحد فلماذا التفرقة؟ أليس هذا درساً عظيماً وبليغاً ليعلمنا أن الانتماء للدين يلغي القوميات والطائفية والمذهبية واللون؛ فالكل سواسية.. فهلا اتّعظنا؟ إن أعظم درس في الحج، دلالته على وحدة الأمة الإسلامية، ولا شك أن الحج موسم عظيم، تتجسد فيه وحدة المسلمين في أبهى مظاهرها وأجمل حللها، حيث تذوب الفوارق، وتتلاشى الحواجز، ويجتمع المسلمون في مشهد جليل، يبعث على السرور، ويسعد النفوس ويبهج الأرواح. وقد تجلَّت هذه الحقيقة في الحج من خلال أمور كثيرة، بل أغلب مناسك الحج تدعو إلى ذلك، وسنذكر خمسة منها: أحدها: قبلة واحدة يتجهون إليها في صلاتهم من مشارق الأرض ومغاربها، وهذه القبلة هي التي يجتمعون عندها ليؤدوا شعائر مناسك الحج (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).[الحج:27]. الثاني: شعار واحد؛ فالجميع يلبون تلبية التوحيد لله تعالى (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)، فهو نداء لله وحده لا لمذهب أو قبيلة أو دولة أو جماعة...أو..، فهي عبودية لله وحده. الثالث: في لبسها، ومن الجوانب الظاهرة لهذا النظام العظيم الذي يربي على الوحدة أنه يطلب من الكل أن يتخلوا عن ملابسهم الخاصة، وأن يرتدوا لباساً واحداً بسيطاً. فيزول هنا الفرق بين الملك والرعية، وتختفي هنا امتيازات الملابس الغربية والشرقية، ويبدو الناس في لباس الإحرام المشترك وكأن لكل منهم وضعاً واحداً.. فالكل عباد الله ولا وضع لهم سوى وضع العبودية لله. الرابع: وحدة الزمان والمكان، فالحج له زمان ومكان محدد يُؤدّى فيه، لا يجوز أن يكون في غيره، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ). [البقرة: 197]، وقال - صلى الله عليه وسلم – : "الحج عرفة". رواه الترمذي. وفي الاجتماع بعرفات وحدة في المكان والزمان بشكل أكبر– تتوحد الأمة الإسلامية كلها، حتى غير الحجاج من المسلمين؛ فهم يتطلعون لذلك اليوم بمشاعر جياشة وقلوب مؤمنة وهم صائمون. الخامس: وحدة الهدف والغاية والشعور؛ فالجميع قد جاؤوا من كل فج عميق، يحدوهم الأمل، ويحفهم الخوف والرجاء، رافعين أكف الضراعة إلى الله -عز وجل-، راغبين في مغفرته، طامعين في فضله ورضوانه. إن الحج رمز لوحدة هذه الأمة، وتأكيد على أن هذه الأمة لا يفرق بين أفرادها لون ولا قبلية ولا عصبية. يجتمع المسلمون من أقطار الأرض حول هذا البيت العتيق، الذي يتجهون إليه كل يوم خمس مرات، البيت الذي يقصدونه بقلوبهم وأفئدتهم من خلال صلواتهم في بلادهم الشاسعة البعيدة، ها هم الآن يجتمعون حوله ويرى بعضهم بعضاً، يتصافحون ويتشاورون ويتحابّون، خلعوا تلك الملابس المختلفة والمتباينة من على أجسادهم، ووحدوا لباسهم، ليجتمع بياض الثياب مع بياض القلوب، وصفاء الظاهر مع صفاء الباطن. إنها لحظات رائعة جميلة وهم يتحركون جميعاً من منى، ثم يقفون ذلك الموقف العظيم في عرفة، وقد اتحدوا في المكان والزمان واللباس والوجهة. إن أمتنا اليوم في حاجة ماسة للوحدة أكثر من أي وقت مضى؛ فأراضيها مغتصبة، وحرماتها ومقدساتها منتهكة، وثرواتها منهوبة، ولأن الاجتماع والاتفاق سبيل إلى القوة والنصر، والتفرق والاختلاف طريق إلى الضعف والهزيمة، وما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلاّ بالوحدة والتلاحم بين أفرادها، وتوحيد جهودها، والتاريخ أعظم شاهد على ذلك، ولذا جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- تدعو إلى هذا المبدأ العظيم، وتحذر من الاختلاف والتنازع ومنها قوله تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). [الأنفال: 46]. وفي حديث أبي مسعود : "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول : استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم". رواه مسلم. إن الوحدة الإسلامية بقدر ما تجد أنها نظرية قوية متماسكة إلاّ أننا نفترق حول كل شيء ولأتفه شيء، وأحياناً حول هذه الوحدة، ذلك لأن الكثير يحسب السعي للوحدة شعاراً، أكثر منه نظرية ضرورية واقعية. وإذا تأمل المسلم أمم الأرض وشعوبها هنا، وهناك يجد أن كل الأمم والشعوب والجماعات والمذاهب بل والأديان تجاوزت خلافاتها الداخلية، وعملت على دفع مصالحها المشتركة بإنشاء وحدة سياسية وأخرى اقتصادية وثالثة ثقافية، وتجد أنها تستثمر وحدتها إما عرقاً أو ديناً أو دولة أو قارة.. فما بال الأمة الإسلامية تشترك في الدين وفي الإله الواحد، والنبي الواحد، وفرائض دينها أغلبها جماعية، وأحياناً في العرق واللغة، ثم تتنابذ بالأيدي وتتنابز بالألقاب؟! و قضية الوحدة الإسلامية يجب أن يمارسها الجميع على كل مستوى، ويسعى لها الكل؛ فهي ليست شعاراً شفوياً، وعلى النخبة والعقلاء العمل على إيجاد منظمات وهيئات وتجمعات إسلامية عالمية مشتركة،، تجمعات اجتماعية وفكرية وثقافية واقتصادية،إن هم يئسوا من القادة والحكام، والمهم أن نجعل (الوحدة الإسلامية) هاجساً للأفراد والمجتمعات. إن على المسلمين من مفكرين ومثقفين وفقهاء إسلاميين أو غيرهم أن يتجاوزوا حقهم الشخصي أو الفئوي أو الجماعي أو المذهبي إلى حق الأمة الأعظم في الوحدة والائتلاف (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). وخلاصة القول إن الحج مؤتمر إسلامي كبير، ومصدر عظمة الإسلام، و اتحاد المسلمين و تقوية شوكتهم، فهو من جانب يُرعب أعداء الإسلام، و يفشل خططهم الاستعمارية، و من جانب آخر يبُثُّ في نفوس المسلمين كل عام روح الإيمان و التقوى و الجهاد و الالتزام الديني، و الوحدة الإسلامية، و يُبصِّرهم بهموم الأمة، كما و يُشعرهم بقوتهم و عزتهم، الأمر الذي يُرعب الأعداء و ينغص عيشهم، و يربك مخططاتهم التآمريَّة تجاه الأمة الإسلامية. و هناك كلمة مشهورة تُنسب لأحد الساسة الأجانب تكشف عن أهمية الجانب السياسي للحج في تقييم الساسة غير المسلمين، حيث يقول : "ويل للمسلمين إذا لم يعرفوا معنى الحج، و ويلٌ لأعداءِ الإسلام إذا أدرك المسلمون معنى الحج"! كانت تلك لمحة سريعة، وإطلالة قصيرة، على هذا الموضوع المهم الذي يشغل بال كل مسلم؛ إذ يتطلع الجميع إلى العهد الزاهر الذي يجتمع فيه أصحاب الدين الواحد، ليكوّنوا الأمة الواحدة التي ترفعهم فوق الأمم، وتعيد لهم الريادة والسيادة التي ضاعت من أيديهم بسبب الفرقة والنزاع والله غالب على أمره. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). [النور:55].