فضل محمد البرح

حديثنا عن التسامح يتناول أصحاب المشرب المتحد والمنبع الصافي، وكانت كثير من القواسم المشتركة تجمعهم من الأخوة، والانتماء لهذا الدين والعمل لنهضته، ونحو ذلك، فأثر المعوقات داخل الصف أبلغ  في التأثير على المجتمع، ومسيرة الصحوة والعمل الإسلامي.

فلا يُطلب التسامح في جانب التصورات والعقائد  تجاه البعيد، بقدر ما هو ملحٌ في جانب المعاملات والسلوك نحو القريب، فيُقرر على مفهوم الدين والحنفية السمحاء وما استقاه الجيل الأول، ويتجرد عن الإملاءات من الغير وضغوطاته، وما تقتضيه المصالح الخاصة لزمرة من البشر بمنأى عن مصالح الأمة، غير ذلك لا يعدو أن يكون مناقضاً للواقع، فيؤثر سلباً, ويثير حفيظة الكثيرين، مما ينتج عنه ردود أفعال غير مدروسة، ويكون الواقع مكلوماً بالجراح.

حينما نريد أن نشيع مفهوم التسامح الإيجابي، فلنجعل له من أنفسنا منطلقاً، وبين مجتمعنا مَدخلاً، وبين قادتنا وعلمائنا نبراساً، وفي أعمالنا وتصرفاتنا مبرهنا، "علينا أن نترك أعمالنا تتحدث نيابة عنا" وأن نرتقي بذواتنا ونتخلص من أنانيّتنا.

فأنَّى لنا استيعاب مفهوم التسامح المأمول ونحن لم نزرعه فينا، ولم ينمُ في محيطنا، حيث لم نرَ إلاّ الإقصاء للغير، والإلغاء لمن نختلف معه، والإبعاد لمن أظهر نصحه، سواء في ميدان البيت والأسرة، أو ميدان الدعوة والعلم والتربية، أو ميدان القيادة والعمل، و ميدان الكلمة والحوار والفكر، في حين أن التلاحم والنجاح في هذه الميادين مرهون بالتسامح والتطاوع والسمو، والتخلص من القيود والأغلال الناتجة عن ركون الإنسان إلى أصل خلقته ومادته الأولى من الطين، في حين تجذبه وتشده إلى أسفل فيصدر منه ما لا يليق.

الحديث له حاجته الماسة لاسيما في هذا العصر المليء بالمكدرات، ووجود المعكّرين لصفوِ ساحة العمل وميادين العلاقات؛ إذ لم تسرِ في الأرواح السماحة والمُطاوَعَةُ في مد جسور الشراكة والتعاون، وإذكاء الروح الإيجابية لشركاء البيت والعمل.

ويكتسب الحديث عن هذا الخلق أهميةً خاصةً في ظل غياب التلاحم الأُسَري والأخوي، فكم من أُسرٍ تفككت، وعلاقاتٍ تقطعت أواصرها، وتحوّلت المحبة إلى عداوة، وأضحت الشراكة في العمل الدعوي والدنيوي متشرذمةً  ومتمزقةً. وكم من مشروعات وأفكار أُجهضَت، بل وانفرط عقد كثير من الكيانات والمؤسسات!! وكان لضعف خلق التسامح والتطاوع حظ وافر من ذلك.

فالمرء حينما يتصل بمن حوله بنفس زكية واسعة، ويكون هيّناً ليّناً، ويتجاوز حظوظ نفسه، ويسيَّر الأمور بتيسير وملاينة، فقد جعل من نفسه ظرفاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو تحرم النارُ عليه، على كل قريب هيّن سهل"، وأذكى في نفسه الروح الإيجابية.

فالقلوب لن تُفتح لنا؛ إلاّ عندما نكون ظرفاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أهدِ دوساً وأتِ بهم مسلمين". وقوله: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وقوله: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

والدعوة لن تأخذ مسارها، وتتمكن من الدخول إلى بيت المدر والحجر ما لم تكن سير الأعلام والأئمة ظرفاً لنا في دعوتنا.

فعندما نعيش قصة الإمام أحمد -رحمه الله- في عهد المعتصم  -بعد أن لقيَ ما لقي من الضرب والجلد حتى قال بعضهم: لو جُلد جملٌ كما جُلد الإمام أحمد لمات – تجده لا يدور حول نفسه وذاته بل أخذ يقول: "من ذكرني فهو في حِلّ، وقد جعلت أبا إسحق – المعتصم – في حِلٍّ، ورأيت الله يقول: "فليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم"... وما ينفع أن يعذب الله أخاك المسلم في سبيلك"، وقصة شيخ الإسلام ابن تيمية مع ألد أعدائه – ابن محلوف - لمَّا مات جاءه تلميذه ابن القيم يبشره بموته، فنهره وتنكر له واسترجع، ثم قام إلى بيت أهله؛ فعزاهم ودعا لهم، وقال: أنا لكم مكان أبيكم، وما يكون لكم من أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلاّ ساعدتكم فيه. فسُرّوا واستبشروا ووعدوا خيراً.

ولن تهبَّ رياح النصر للمسلمين اليوم في شتى ميادينهم، لاسيما ميدان القيادة والعمل؛ ما لم  يكونوا ظرفاً لمواقف أصحاب النفوس الكبيرة، منهم أبو عبيدة عند توليه الإمارة وعزلِ خالد بخطاب من أمير المؤمنين -عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين-، فكتم أبو عبيدة الخبر عشرين ليلة، فيأتيه خالد – وقد علم الخبر من غير أبي عبيدة - قائلاً: يرحمك الله، ما منعك أن تعلمني حين جاءك؟! فيأتي الجواب من أبي عبيدة – الهين السهل -: "إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا أريد، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوة، وما يضرّ الرجل أن يليه أخوه في دينه أو دنياه"!

أي مشاعر كانت تغمر خالداً وهو يرى هذا النور يتدفق من فم ِأبي عبيدة، وهو يرى هذا التسامح وهذا الخلق العالي، الذي لم يجعل لنفسه حظاً.

وإذا كانت النفوسُ كباراً           تعبت في مرادها الأجسامُ

إضفاء خلق التسامح على النفس، وإصباغها به، كفيل بتعزيز أواصر الأخوة و التلاحم الأسري، واستمرارية كثير من الأعمال، ودوامها، وحصول الثمرة المرجوة، وتكون الأمور كلها على قدر من اليسر والسهولة.

والنأي عن هذا الخلق الرفيع يشكل خطراً على السلوك والأعمال، وتعصف بهما رياح  الجدل والانتقام للنفس وحب الذات، ويتشتت عش الحياة الأسرية، وتنطفئ شمعتها, ويكون مطيةً لإجهاض كثير من المشروعات النهضوية للأمة.

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 25/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
9 تصويتات / 1257 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,754,725

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters