فضل محمد البرح
تحدث العلماء عن أنفع الطاعات والقربات التي يتقرب بها العبد إلى باريه. فمنهم من رأى أن أنفعها ما يكون فيها مشقة على النفوس، والبعض جعل أنفع العبادات التجرد والزهد في الدنيا، ومنهم من رأى أن ما يكون فيه نفع متعدٍ للغير هو أفضل العبادة، وآخرون قالوا: إن أنفع العبادة وأفضلها هو العمل على مرضاة الرب على مقتضى الوقت المناسب لتلك العبادة، وهذا القول عليه العمل، بيد أن التفاضل مداره على الأعمال الطوعية والسنن والمستحبات، لا على الفروض والواجبات، إلاّ أنه في غضون هذه الأعمال المستحبة، حيث يكون في الأمر سعة، وفي التنقل والتقلب في مرضاة الله تعالى مرتعاً، -يلتمس العبد فيها جزيل ثواب الله وكرمه -؛ يكون ثمة تنازع بين الطاعات لفعلها، وتتزاحم عند الإقدام.
إلاّ أنَّها تمر على العبد لحظات، يتعرض فيها القلب لنفحات، يحس فيها بالأنس والطمأنينة، يودّ عدم العدول عنها لغيرها، ولا يبرح منها حتى يروي ظمأه، ويسدّ مخمصته، ويشهد بهذا من له قلب حيٌّ. فتعبر لحظات على العبد يودّ لو يقرأ القرآن، ويحبّره تحبيراً، ولا يجد ما يبتره، وينغِّص عليه لذته، من المشاغل والأعمال، وهو يعيش واقعه، وتنزُّلَه، وأسلوبه الممتع، فيترسّل معه بقراءته في صفو نفس وحشد مشاعر؛ كأنِّما يقف وحده، ولا يرى غيره. وفي حين آخر تُصبُّ من العبد العبرات، ويغشاه الخضوع والانكسار، ما يفتأُ لو يظل راكعاً ساجداً ومنطرحاً بين يدي الله ردحاً من الزمن، ولن يعييه ذلك. ويأتيه نسيم للذكر، وحلاوة للتسبيح، وتعطّش للاستغفار، يصيد اللسان، ويأسر القلب هنيهاتٍ من الوقت، يظفر بها أشد ظفرٍ بطعامٍ بعد مخمصةٍ، وماءٍ باردٍ بعد ظمأ مفرط، وكأنّما وجد مأمناً بعد هلع وخوف. وينكشف للعبد الستار، ويُرفَع الحجاب بينه وبين ربه سويعات؛ فيحصل له من لذة المناجاة وشدة الإخبات والتضرع ما ينسيه ما ألمَّ به من غمٍّ، وما نصب عليه من الهموم. وهكذا كثير من القربات والطاعات التي تلفح مشاعر الإنسان، ويجيش لها وجدانه، بيد أن العبد أحياناً لا يعير هذه المشاعر اهتماماً، ولا يدرك جليل نفحات القلب وتوجهه؛ فتتزاحم عنده القربات، وتشتبك عليه الطاعات، فيحصل له التردّد، ويقدّم رجلاً، ويؤخّر أخرى لفعل طاعة، أو توسّل بعمل، وهذه آفات وقيود تعكر صفو سير السالكين إلى الله تعالى، إلاّ أن العارفين يدركون مسلك مثل هذه الأعمال، ويحسنون استغلالها. قال بعض العارفين: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: "إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب"، و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، وقال بعض المحبين: "مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عمّا سواه...". وهذا تأويل قوله عليه الصلاة والسلام: "ذاق طعم الإيمان... "، وقوله: "وإذا مررتم برياض الجنة فارتعوا..."، فمن مرّ بلحظات يتذوق فيها الإيمان، ويرتع في رياض الجنة فلا يفوِّت فرصةً تاحت بين يديه، تمر عليه ولا ينتهزها. قال ابن القيم: لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردّد الذي هو نوع غفلة وإعراض، والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه، لا ينتهي مسيره إليه... و السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردّد والرجوع، ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره، وجدّ في السير. كثيرون هم الذين يقفون عند التردّد، وربما توانى العبد عن الفعل حينما تتعارض أفضلية فعل التنفّلات، بين قراءة للقرآن، وذكر وتسبيح للرحمن، وبين الصلاة، والمناجاة، وما يطمع العبد فيها للتقرب لرب الأرض والسماوات، بيد أن الأولى بالاهتمام عندما يتزاحم عليك تفاضل الأعمال، وتظهر أمامك كثير من المستحبات، هو "أينما تجد قلبك" فثم الأفضل، ويكمن المبتغى، ويكون السالك قد أصاب المفصل لمراده، وتخلص من معوّقات السير إلى الله تعالى، وتحقق ذلك بالإقدام على مفردٍ من مفردات الطاعة.