عبد الفتارح الشهاري

يشكل تديُّن الفتيات قضية مهمة سواء في جوانبها الدينية أو الاجتماعية أو النفسية, وتعتري هذه القضية الكثير من الإشكاليات، كما هناك الكثير أيضاً من التساؤلات التي تكتنف هذا التديُّن, من ذلك مفهوم التديُّن لدى الفتاة، ومدى ارتباطه بتكوينها النفسي, واستخدامه كهروب عند البعض الآخر.

مفهوم التديُّن

تحكي (ن. المحمود) عن قصتها مع التديُّن مؤكدة في البداية أنها نشأت في جو ملتزم أي أنها وجدت نفسها متديّنة بطبيعة الأسرة والحال, لكن (المحمود) تريد شيئاً آخر أبعد من ذلك، وهو أن تمارس التديُّن (بكل أقطابه) وفق تعبيرها، نافية بذلك أي تناقض أو التباس قد يخالط مفهوم التديُّن عندها؛ فهي لاتنزع الحجاب في أي مكان، حتى وإن سافرت خارج السعودية، كما أنها أيضاً تلتزم بصيامها وصلاتها في كل مكان، وفي أي وقت، وهي أيضاً لاتؤذي أحداً، حتى وإن آذاها، وماتعوّدت على النميمة والغيبة، ويضيق صدرها من الأغاني ومراقبة الآخرين.. هذا هو التديُّن الحقيقي -كما تقول (ن. المحمود)- وهذا هو الشكل الذي ترغب أن تكون عليه, وهي ماتحاول أن تكون عليه فعلياً عبر ممارساتها اليومية الفعلية والقولية.
وفي صورة مشابهة تسرد (هناء الحمراني) رؤيتها لمفهوم التديُّن من حيث إنه: رغبة جبارة تعتري الفتاة تغيرها للأفضل، وتجعلها تنطلق إلى عالمها الخاص لتغير الكثير، قد تكون بداياته قيام تلك الفتاة المراهقة (لنقل إنها نورة) بتمزيق صور المغنين من على جدران غرفتها، وسحب الأشرطة الغنائية وإتلافها بكل حماس، والدموع تملأ عينيها فرحاً بقرارها الجديد: "ألا تبدو الحياة أفضل بدون الأغاني؟" كل شيء تغيره قدر إمكانها.. نغمة الجوال.. طريقة اللباس..اسمها في المنتديات.. بل حتى المنتديات ذاتها، كذلك الحجاب، تغير إلى نوع آخر أكثر احتشاماً.

تديُّن الفتاة.. تقليد أم قناعة؟!

عن ذلك تجيب (عائشة مصلح صالح – معلمة 44 عاماً) بقولها إن: تديُّن الفتيات إن لم يكن عن اقتناع بأن ما تقوم به من أمور دينية وشرعية هو الصراط المستقيم الذي أمرها الله تعالى بالسير عليه في حياتها فسوف يكون تديُّنها بالونات إعلامية، لا تلبث إلا زمناً قليلاً ثم تنفجر.. ولن نجد في داخلها إلا هواء لم يستطع أن يصمد داخلها, وأحب التمدد والخروج إلى ما لا حدود.. وتضيف: "الفتاة المتديّنة.. توازن بين تعاليم الدين، وما تتطلبه فطرتها السليمة الإنسانية من المخرجات الحياتية الجديدة.. ولكن عليها التنبه؛ فهي تنظر إلى المستحدثات بعين المسلمة الواعية, والمتديّنة المستقيمة. فلا تجعل من تديُّنها مظهراً فقط دون مضمون.. ولا تنساق خلف كل ما استحدث من المخرجات الحياتية الجديدة, فليس كل ما قيل عنه حجاب.. حجاب.. وخاصة ما ظهر منه على بعض الفنانات, أو رُوّج له عن طريق بعض مجلات الأزياء.
من جانبها تعرّج (بدرية العبدالرحمن) على قضية هامة، وهي: هل التديُّن بالنسبة للفتاة هو استسلام ورضوخ.. أم اختيار مرغوب؟ وتقول: إن وضع الفتاة الخليجية والعربية والمسلمة عموماً يجعل من تديُّنها حالة استسلام أم رضوخ للسائد أم اختياراً لـ(وجود) مرغوب..!! أي حين تختار الفتاة التديُّن فهل هي (تختاره)؟ وهل هي تختاره لـ(تكون)؟ أم تختاره لكي تبقى وتساير رغبة المجتمع وإعجابه بها كمتديّنة؟
وتستطرد في طرحها قائلة: "إننا لو أجبنا بـ(نعم)، وجعلنا من حالة الرضا العامة التي تكتنف ظاهرة تديُّن البنت، والتي ترتبط بالاستعفاف والعفة، والابتعاد عن كل سبل الاتصال المنفلت بالجنس الآخر... وربما كان هذا أكثر ماتتمناه وتطلبه العائلة المسلمة من البنت... لو جعلنا من ذلك الارتباط سبباً في رضوخ البنت له، وتديُّن الفتاة ربما يحميها من كثير من القهر الاجتماعي المصاحب لأنثويتها..
إننا لو أجبنا بنعم بناء على تلكم الرؤية.. فسوف نغض الطرف عن كثير من المجتمعات التي تتديّن فيها الفتاة وسط (رفض) أو (فوقية) أو (تحسّس) وتمييز يمارسه المجتمع ضدها باعتبارها متديّنة، وهذا يحدث كثيراً جداً، وفي طبقات كثيرة من المجتمعات الإسلامية... ولا مجال لتجاهله، ولا يمكن أن يُقال إن تديُّن الفتاة في تلكم الحالة هو حالة رضوخ واستسلام، ففي المقابل لو أجبنا بـ(لا) ونفينا أن تتكون ظاهرة تديُّن الفتاة كحالة رضوخ، فإننا لن نفهم أن يرتبط التديُّن في كثير من الحالات بالعائلات ذات السمت الذكوري، والتي قد ينتشر فيها القهر الاجتماعي للمرأة أكثر من غيرها، بالإمكان أن تجد متديّنات ينتهجن هذا السبيل عن غير قناعة، وبتذمر واضح ممايجعل الأمر استسلاماً لإرادة العائلة أكثر منه (تديُّناً) مختاراً...هذا أيضاً يحصل كثيراً.

تصنيف غير منصف!

تبدو (غادة أحمد 37 عاماً) مستاءة بشدة من التلميح المتواصل إلى سيكولوجية المرأة في التأثر بالتديُّن، وتردّ: "كأننا بعبارة (سيكولوجيتها و طبيعتها العاطفية) نشير إلى اختصاصها بالضعف، والذي يؤدي لهذا التخبط العقدي، ألا يحدث ذلك مع الشاب و الرجل والمرأة، ومن ذا الذي يضمن لنفسه الثبات من دون رحمة الله تعالى، و لذا كان القرآن أكثر مصداقية من مصطلحاتنا؛ إذ تم ربط الضعف بالإنسان عموماً (وخُلق الإنسان ضعيفاً). وتستطرد قائلة: "سيكولوجيتها وطبيعتها العاطفية هي من تمكنت من مقاومتها لأعلى مستوى ما كان يخطر للعقل البشري. حين تحتضن أسماء -رضي الله عنها- عبد الله بن الزبير، و تتحسس ملابسه، وتنكر عليه ارتداء الدرع الذي يقيه الضربات، و تنبئه بأن هذا ليس بلباس من يسعى للشهادة، وحين يحكي الخطيب البغدادي خبر ثلاث فتيات هن بنات لأب من العلماء، ليس لهن بعد الله تعالى سواه، فيرسلون إليه (لئن يأتينا خبرك أحب إلينا من أن تجيب)، و كانت وقتها محنة خلق القرآن التي امتُحن فيها الأمام أحمد. و حين تقف تلك الأم التي جاوزت الستين أيام إبعاد الأخوة في فلسطين إلى مرج الزهور لتعلن أمام العالم إما أن يعودوا جميعاً أو يبقوا جميعاً حينما خُيرت أن يعود أولادها الستة فقط وحولها زوجات أبنائها و حفيداتها ما خالفها أحد. و حين تقدم كل يوم أروع النماذج في الصبر و الثبات مما لا يتسع له المجال هنا. عندما تتربى الفتاة على القرآن و السنة، و تدرك قيمتها كأنثى خلقها الله تعالى لخلافته مع الرجل في هذه الأرض، فلن يكون عندها مجال للحديث عن تخبطها العقدي.
بينما تؤيد (العنود 19 عاماً) الحالة الخاصة لطبيعة الفتاة،: "نعم الفتاة بطبيعتها ضعيفة، ولست أقصد ضعيفة في بنيتها الجسدية أو العضلية فقط بل كذلك في قراراتها وأحكامها، لذا نلحظ تحريم الإسلام من زواج الكتابي بالمؤمنة خشية على دينها.. الفتاة تتأثر سريعاً وليس هذا نقصاً, وإنما لما جبلها الله عليه من العاطفة، فعليها أن تلزم طريق المؤمنين، ولاتصاحب إلا التقيات" وتضيف: "وعلى ذلك نجد أن الله ضرب مثلاً للذين آمنوا بامرأتين مريم بنت عمران وآسيا بنت مزاحم التي كانت تحت ذلك الجبار الطاغوت، فأبت إلا أن تتمسك بدين ربها, ولكن الحكم للغالب".

تناقض في السلوك

أحياناً ما تعيش الفتاة المتديُنة تناقضًا في السلوك بين تديُّنها وبين واقعها الحياتي. وبسؤالها: إلى ماذا يعود هذا التناقض؟ تقول (غادة أحمد): بداية لا يمكننا التعميم؛ إذ يزول هذا التناقض شيئاً فشيئاً بالوعي والإدراك، وعندما يتمدد الإسلام في تعاملاتها فلا يبقى محصوراً في عباداتها فقط، فتجد أنه لا يحول بينها و بين ممارسة الحياة بكافة أشكالها، طالما أن هذه الممارسة في حدود ما شرعه الله تعالى لنا، هذا التناقض قد يحدث عند البعض، ولفترة محدودة؛ إذ ارتبط مفهوم التديُّن بنبذ الحياة، و الزهد فيها، والذي أشار الخطاب الديني، و بكل أسف لعقود طويلة أنه علامة التقوى و محبة الله تعالى دون شرح أو تفصيل، فانعكس ذلك على هذه التناقضات التي ألمحت إليها، ولكن -وأؤكد دوماً على التربية- لن يصح إلا الصحيح، فلا تجد الفتاة نفسها مضطرة للتخفي لمشاهدة التلفاز مثلاً أو الدخول على الإنترنت أو تسويغ مكالمتها الهاتفية مع زميلاتها أو التسويغ لخطاها إن أسرفت في الحديث مع شاب معاكس أو نحو ذلك، بل ستجد من صميم الواقع أن تقف و تراجع نفسها و تصحح أفعالها، و كلما كانت البيئة المحيطة بها على درجة من النضج، والوعي كلما قلت هذه المتناقضات إلى حدٍ كبير.

التديُّن كهروب

تعتقد الكاتبة بدرية العبد الرحمن أن هناك أمراً آخر يمكنه أن يفسر حالة التديُّن ويساعد على فهمها لدى الفتاة، وهي أن التديُّن ليست في المجمل حالة هروب، ولا حالة إذعان... ولا بالمقابل حالة رفض وتمرّد وعصيان، ولو بدا كذلك في كثير من الأحوال، ولكن ظاهرة التديُّن أكثر من كل هذا وذاك، حالة ارتداد للجذور، تمارسها الفتاة ربما للتعبير عن أصالتها من جهة، وربما للتعبير عن عدم رضاها عن واقعها من جهة أخرى.
حالة الارتداد للجذور حالة نفسية لها أبعادها وظواهرها في اللغة والفكر والأدب، ولها ارتباطها بالوعي الثقافي للتراث الإسلامي لدى الجماهير المسلمة، وعلى صعيد الممارسة الاجتماعية فإن خير ما يمكن أن يمثل هذه الحالة، وهذه الرغبة العارمة في العودة للجذور، والمجتمع النبوي في تصورنا هو التديُّن.

اعترافات

تقول هناء الحمراني:
ما الدافع الذي يجعلنا نتقدم تلك الخطوات نحو الصعود؟
قد تستيقظ فتاة ما.. في يوم ما.. قبيل صلاة الفجر.. رغبة قوية جارفة تطالبها بالوضوء.. والصلاة.. والبكاء.. والتوبة.. ليتغير كل شيء..
قد تجد من يحتويها في المجتمع المدرسي.. تحتفي بها المعلمات في الإذاعات.. والحفلات.. لأن صوتها جميل عند قراءة القرآن وإنشاد الأناشيد.. والانضمام إلى أنشطة المصلى.. لتجد نفسها وقد أصبحت داعية منذ الصغر..
قد تتديّن شخصية ما في المجتمع.. شخصية تحبها.. ترتاح لمتابعة أخبارها.. ومن أجل ذلك تتديّن..
قد تمر بموقف مرعب..حادث لإحدى صديقاتها.. وفاة شخص قريب.. شائعات تنذر بأن العالم على وشك الانتهاء، وأن الدابة قد ظهرت وبدأت تكلم الناس..
الوضع الحالي لا يشجع أبداً للقاء ملك الموت..لابد من التغيير والاستعداد من أجل هذا اللقاء..
ولكن حالما تزول الأسباب..
فتبتعد التلميذة عن المجتمع الذي وجّه مواهبها نحو التديُّن..ليحتويها مجتمع آخر يوجّه مواهبها وجهة أخرى..أو تتعرض شخصيتها(القدوة) لضغوط وعواقب وخيمة نتيجة لالتزامها أو لانتكاس هذه الشخصية..
أو يزول ذلك الرعب.. وتنتهي أيام العزاء.. وتتبدد الشائعات بأن الوقت لا يزال مبكراً.. ولا يزال هناك الكثير من العلامات التي لم تظهر بعد..
عندها.. تعود.. وتنسى.. وتغوص في مجتمعها القديم.. فتلك التي كانت منذ فترة قصيرة تواظب على صلاة الضحى في مصلى الجامعة.. تجلس اليوم بين صديقاتها السابقات.. تضرب الطاولة بإيقاع موزون.. والثانية تغني..والثالثة ترقص.. والبقية يصفقون..
ولكن.. تلك ليست حالة عامة لجميع من يتعرض لذات المواقف.. فهناك نماذج مشرقة رائعة..تعترف وبصدق.. أن أول خطوة لهم في طريق التديُّن والهداية.. كان أحد هذه المواقف.. (نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء).

أخيراً

أخيراً، إنّ علينا أن نعترف أولاً وأخيراً أن ظاهرة التديُّن والتي انتشرت بشكل ملحوظ وجميل في المجتمعات الإسلامية تحف المتديّن والمتديّنة على حد سواء بهالة من التميز والخصوصية، والأمر قد يشكل مشكلة حين يتجاوز الأمر حده في مسألة الخصوصية والتميز والتباين، لانريد من شيء ما أن يجعل من التديُّن مسألة تستدعي التفكير في طريقة التعامل معها، هذا لكي لاتتحول ظاهرة التديُّن إلى مشكلة في حد ذاتها تؤدي إلى قطيعة ومفاصلة مع المجتمع.
إن المتديّنة تشكل طبقة قوية وسميكة في مجتمع النساء الآن، وعلى المتديّنة أن تجعل من هذه القوة والأصالة والنشاط في مجتمعها وسيلة لتقريب المجتمع وصهره بعضه في بعض، في طريقها لتشكيل عالم متوائم وجميل.
يدين بالإسلام، ويؤمن بالله، وينشر الحب والسلام.
إن المتديّن والأنثى المتديّنة على وجه الخصوص تواجه أعباء، وتُناط بها مسؤوليات كبيرة جداً في نقل المجتمع وتطويره للأفضل.
إن التديّن لم يعد مجرد ظاهرة عابرة، وإنما هي ظاهرة شكلت شريحة واسعة من المجتمع، وعلى هذه الشريحة أن تشكل لوحة المجتمع بالقوة التي تملكها.
هذا كي تكون المتديّنة قد أخذت كتاب الله بحقه، وأدت رسالتها كما قام بها الأنبياء والمرسلون، مباركة حيثما كانت.

 

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 10/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
2 تصويتات / 1265 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,880,178

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters