فاطمة عليوة
ذُكرت الرضاعة في القرآن الكريم في أكثر من موضع، وفي الآية الكريمة يقول الله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: آية 233]، وفي ذلك إشارات واضحة إلى أهمية هذه العملية سواء بالنسبة للمولود أو الأم، فالرضاعة بالنسبة للرضيع غذاء للروح والبدن وهى وصال لعاطفة ربانية بين الأم ورضيعها، وهي البيئة الخصبة لبذر أرق المشاعر وأغلاها لدى المرأة تجاه صغيرها.
والرضاعة الطبيعية هي من أفضل ما يجب أن يتغذى عليه الرضيع، فقد أثبتت الدراسات أن لبن الأم يوفر للطفل الحماية للصحة بجانب الغذاء كما يلي:
1- إن لبن الأم ليس له مثيل من أنواع الألبان الأخرى؛ فقد جعله الله -عز وجل- ملائماً بحيث يوفي احتياجات الطفل يوماً بعد يوم، ومتناسباً مع نمو الطفل؛ ففي الأيام الأولى من الرضاعة يحتوي اللبن على (اللبأ)، وهو سائل أصفر يفرزه الثدي بعد الولادة مباشرة، ولمدة ثلاثة أيام أو أربعة، ويحتوي على كميات مركزة من البروتينات المهضومة، وكذلك يساعد هذا السائل في تقوية المناعة عند الطفل.
2- إن لبن الأم معقم وجاهز للتناول مباشرة لفم الرضيع، مما يقلل من تعرّضه للنزلات المعوية، والتهاب الجهاز التنفسي الذي يصيب الرضيع عن طريق القارورة أو الزجاجة، وذلك لوجود مواد مضادة للميكروبات في لبن الأم.
3- يحتوي لبن الأم على كمية كافية من البروتين والسكر وبنسب تناسب الطفل.
4- أثبتت الدراسات أن نمو الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم أسرع وأكمل من أولئك الذين حُرموا من الرضاعة الطبيعية.
5- يتعرض الأطفال الذين يرضعون من الألبان المجففة بوساطة القارورة لأمراض الحساسية الجلدية بأنواعها، والربو، وحساسية الجهاز الهضمي والنزلات المعوية المتكررة.
وينصح المتخصصون بضرورة الغذاء المتوازن للأم؛ إذ يُعدّ المصدر الطبيعي لغذاء الطفل، وقد أثبتت الدراسات أن النقص في غذاء الأم أثناء الرضاعة يؤثر على نمو الطفل بشكل سلبي.
وأنسب مدة للرضاعة الطبيعية كي تؤدي النفع التام لصحة الطفل ونموه البدني والنفسي هي كما حددها الله -عز وجل- حولين كاملين إن لم يكن هناك مانع قوي مثل مرض الأم مثلاً.
ويُنصح بالتدرج في عملية فطام الطفل، وكذلك ضرورة اختيار الوقت المناسب لذلك؛ من حيث اعتدال الجو بين البرد والحر، وكذلك بالنسبة لمستوى نمو الطفل، بحيث يكون قد تكامل عنده إنبات الأسنان اللبنية التي تساعده على تقطيع الطعام.
ويجب عدم الإفراط في تغذية الطفل؛ فإن الطفل السمين ليس هو الطفل السليم، ولأن الإفراط في تناول الطعام عند الطفل يصبح عادة مكتسبة، مما يتسبب له في كثير من المشاكل الصحية في مراحل عمره اللاحقة.
الرضاعة حب
ثبت أن الطفل الذي يرضع من أمه ينمو نمواً نفسياً سليماً، بينما تكثر الأمراض والعلل النفسية لدى أولئك الذين يرضعون من القارورة؛ لأن الرضاعة الطبيعية هي عملية نمو جسمي ونفسي، ولها أثر بعيد في التكوين الجسدي والانفعالي والاجتماعي للرضيع.
فاللحظات التي تجمع الأم برضيعها، ويقترب من صدرها لدرجة الالتصاق حيث يطمئن لدقات قلبها، تلك التي اعتاد على سماعها، وهو في بطن أمه، حيث يتولد لديه شعور بالأمان والسكينة بمجرد ضم أمه له، وهذه الأوقات تُعدّ موسم إنبات بذور الحب بين الأم ورضيعها، وعلى الأم استثمار هذه الأوقات في زيادة التأثير الإيجابي لعملية الرضاعة، بحيث لا تكتفي على إلقامه ثديها ليتغذى فقط، بل عليها أن تطيب نفسها وتهدئ مشاعرها إن كانت منفعلة من شيء ما، فالاستقرار النفسي للأم هام جداً؛ لأنه يترك أثره في حليب الطفل.
وقد أثبتت الدراسات أن الحالة الانفعالية للأم الحامل تؤثر في نمو الجنين، ولذا حرص الإسلام على حسن التعامل بين الزوجين بحيث يضمن توفير بيئة صالحة لاستقبال الطفل؛ إذ أمر الله عز وجل بذلك في قوله (وعاشروهن بالمعروف) [النساء: 19].
وكذلك اهتم الإسلام بتوافر حالة الرضا والراحة النفسية للأم الحامل عند إقدامها على إرضاع طفلها، كما أمر الله -عز وجل- بذلك السيدة مريم في قوله (وكلي واشربي وقري عيناً...).
وقد ثبت من تحليل سلوك العديد من الأطفال أن سلوك الطفل يكون نابعاً من علاقته بأمه، وأن الطفل المتزن المنسجم الشخصية لا يكون إلاّ في أسرة متحابة متفاهمة.
وكذلك ثبت أن الطفل الذي يتمتع بالتّّماسّ الحسي مع أمه، والذي يتوافر بشكل طبيعي أثناء الرضاعة، ثبت أنه أكثر استقراراً في الحالة النفسية، وكذلك يتمتع بارتفاع في نسبة الذكاء والعديد من القدرات أكثر من الأطفال الذين لم يتمتعوا بهذا القرب والحنان بين الأم ورضيعها.
الرضاعة أخلاق
يرى علماء التربية المتخصصون ضرورة أن تكون المرضعة للطفل هي أمه التي اختارها أبوه على أساس من الدين والأخلاق، كما وصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث (... فاظفر بذات الدين تربت يداك)؛ لأن لبن الأم كما يؤثر في صحته وغذائه كذلك له بالغ الأثر في أخلاقه وطبعه، كما يقول ابن الجزار القيرواني، وهو من علماء التربية: "إنها ترضعه لبنها وعاداتها وأخلاقها وصحتها وسقمها وعاطفتها"، وبالتالي إذا لم تتمكن الأم من الرضاعة لوليدها لِعلّة ما... فينبغي أن يُختار للرضيع المرضعة المناسبة من حيث السن والخَلْق وحتى الخُلُق..
يقول الغزالي: "فلا يُستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متديّنة تأكل الحلال؛ فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه".
وعلى هذا لنا أن نتخيل الأثر العائد على الطفل عندما يُغذّى بالألبان المصنعة من حليب الأبقار! و مدى الإساءة التي نفعلها بأولادنا؟! وما هو الموروث الذي سيرضعه الطفل من هذا الحليب؟!
وقد رُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد حرص على أن يختار لابنه زوجة صالحة ترفض غش اللبن بالماء، مما يدل على عظيم الأخلاق التي تتمتع بها حتى ترضع أولاده لبناً حلالاً متحلياً بأخلاقها، ولذا كان من ذريتهم الخليفة الراشد (عمر بن عبد العزيز).
أما فوائد الرضاعة الطبيعية بالنسبة للأم فهي عديدة:
1- إن الرضاعة الطبيعية بعد الولادة مباشرة تساعد على رجوع الرحم بعد الولادة إلى مكانه الطبيعي، وكذلك تعود مقاييس بعض أجزاء الجسم إلى ما كانت مثل (البطن والصدر).
2- الرضاعة الطبيعية تقي -بإذن الله تعالى- من أمراض خطيرة جداً مثل (سرطان الثدي والرحم لا قدّر الله).
3- الرضاعة الطبيعية تساعد الأم في الحفاظ على رشاقتها؛ إذ يستهلك الطفل من أمه الكثير من غذائها، والذي تفقده في صورة سعرات حرارية تبذلها الأم أثناء فترة الرضاعة الطبيعية.
وأخيراً أقدم هذه البشرى لكل أم حامل أو مرضعة، فقد أعد الله -عز وجل- لها من الثواب والأجر ما يهوّن عليها كل المشاق التي تعانيها في هذا الدور العظيم وهو إعمار البشرية، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن للمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها من الأجر كالمتشحط في سبيل الله، وإن هلكت فيما بين ذلك فلها أجر الشهيد". رواه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عمر.