ليلى بيومي
من المشكلات التي يعاني منها كثير من الأسر، عدم الرضا عن الأبناء، خاصة إذا كان الأب ناجحاً في عمله، والأم على هذا القدر من النجاح، ثم يأتي الابن في مستوى أقل، من حيث التكوين العقلي، ومن حيث الثقافة، وربما من حيث البناء الشخصي والأخلاقي، وربما من حيث درجة التواصل مع المجتمع، وبالتالي النجاح في الحياة والتأثير في دنيا الناس.
في البداية يؤكد د. رضا البنا أستاذ التربية أن الابن يريد من أبيه ألاّ يتدخل في شؤونه الخاصة؛ إذ إن لكل شخص شؤونه وأسراره الخاصة، و يريد منه ألاّ يحاول أن يعرف كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة في حياته.
وكذلك يريد الابن من أبيه أن يمنحه شيئاً من الحرية وليس الحرية المطلقة، وكذلك استقلالية تامة في اتخاذ القرار. فلا يجبره على عمل شيء بشدة وقسوة قد ينتج عنها تمرّد، وإنما يعامله برحمة الأبوة وطيبة القلب.
الابن يريد أيضاً ألاّ يحاسبه والداه على أنه طفل، فهو يريد ألاّ يمنعاه من كل شيء، بل يريد أن يحققا له كل شيء ويشتريا له كل ما يطلب، حتى لو كان في غير قدرة وطاقة الوالدين. الابن هنا يريد حياة كما يتصورها هو، وليس كما هي حياة الأسرة على أرض الواقع من حيث الأزمات المادية ومنغّصاتها، و في ظل تعدد مسؤوليات الأب وعدم استطاعته تلبية كل طلبات الأبناء.
ماذا يريد الأب من ابنه؟
أما الأب فإن عليه – كما يضيف د. رضا البنا - أن يتذكر شبابه، وماذا كان يفعل فيه قبل أن يحاسب ابنه، كما لابد على الأب احترام الابن أمام زملائه وأصدقائه.
ويجب أيضاً على الأب أن يتذكر أن لهذا الابن ظروفه الخاصة من حالة نفسية ومزاجية يجب مراعاتها في حالة وجود أخطاء من الابن من غير قصد.
وكذلك يجب أن يعرف الأب أن ابنه وُجد لزمان غير زمانه؛ فيجب ألاّ يحاول أن يجعله نسخة منه في كل شيء، وأيضًا يجب تجنّب التفرقة بين الأبناء وعدم التدليل الزائد الذي قد ينقلب إلى الضد.
ويريد الأب من ابنه أيضاً أن يحقق ما لم يستطع هو أن يحققه، وأن تكون طموحاته أكبر من طموحات أبيه، وربما أراد من ابنه أن يكون مجتهداً في نفس مجال الأب المهني حتى يكمل الطريق، ويعين أباه، ويستطيع أبوه أن يدعمه ويساعده، لكي يتجنب أي أخطاء وقع الأب فيها سابقاً.
وكذلك يريد الأب من ابنه ألاّ يعتبر توجيهه له إهانة، وإذا حدث وغضب الأب على ابنه فعلى الابن أن يتأكد من أن هذا الغضب نابع من الحب وليس الكره، ويجب عليه أن يتقبله بكل أدب واحترام.
ويريد الأب من ابنه ألاّ يعتقد أنه يفضل ابناً على آخر، وإنما هذا التفضيل المرحلي المتوهم ناتج فقط عن بعض الصفات في أحد الأبناء يفضلها الأب.
ومهما كبر الابن فإنه يظل في عين أهله صغيراً، ولن يكبر إلاّ بعد الزواج وعندما يكون له أطفال. وغالباً فإن للأبناء أصدقاء وأسراراً، و أفكاراً.. هم يرونها صحيحة، ولا يدركون دوافع وأبعاد اعتراض الأب والأم عليها.
فلماذا لا يتقرب الأب من أبنائه ويتابعهم؟ ولكن عن بعد، فيحاول أن ينصحهم بطريقة لا تجعل الابن يشعر بأنه مراقَب، وتكون النصائح بطريقة بعيدة عن الموضوع وليست مباشرة.
فمثلاً الأب يعرف أن أصدقاء ابنه لديهم أخطاء وأفكار لا يستحسن أن تكون في ابنه، وهنا فإن عليه أن ينصحه ولكن بطريقة لا تجرح أصدقاء الابن ولا تجرح الابن نفسه، فيختلق قصة حدثت لمجموعة أصدقاء ويأتي بها على شكل دعابة، ومن خلالها ينقل الرسالة التي يريد توجيهها للابن وأصدقائه على السواء.
احترام واستقلال
د. عبد الفتاح جمال الدين أستاذ التربية المقارن يلفت النظر إلى خطأ يقع فيه بعض الآباء، وهو أن الأب الذي كافح حتى اغتنى يريد بعد أن كبر أن يستمتع ابنه بدلاً منه؛ فكل طلبات الابن مجابة، وله، حتى ما لم يطلبه منها. فالأب كافح كثيراً وفات عليه زمن التمتع والآن ليتمتع ابنه بدلاً منه. هذا الأب يدمر الابن من شدة الحب.
وأحياناً نرى الأب يضحي بكل ما له في سبيل ابنه، لعله يرى في ابنه صورة أخرى منه أو امتداداً له أو تحقيقاً لرغباته وأمانيه، وهو يقدم أعظم التضحيات لصالح أسرته في سبيل ذلك، ولكن الابن لا يشعر بذلك ولا يقدره.
هذا المثال السابق ليس مثالاً تربوياً سليماً، كما يؤكد د. عبد الفتاح، فالحب الأسري الحقيقي يعني أن أرى ابني أو أبي كشخص مستقل يـُحتـَرم ويـُحـَب في ذاته؛ أطلقه ولا أقيده، أعاونه لتحقيق أفضل الخير له، لا لتحقيق أمنياتي أنا فيه، أعطيه ما يحتاجه وما يطلبه ولا أعطيه ما أحتاج أنا أن أعطيه له.
فأن تحب أقرب الناس إليك ليس مهمة ميسورة وسهلة أو أمراً طبيعياً بدهياً، بل هو غالباً طريق طويل يحتاج إلى كثير من اليقظة والفطنة، يحتاج إلى حساسية وتواضع واستعداد دائم للتعلم والتخلي عما يثبت فساده في قلبك أو سلوكك، فمحبة الأسرة والأبناء ليست كلاماً، ولا هي انفعالات عاطفية سريعة، بل هي استعداد للمسؤولية والالتزام والعطاء الدائم المستمر، وفي نفس الوقت الرقابة المستمرة والمتابعة والمراقبة والتقويم.
حتى تتحول التربية إلى متعة
ومن جانبها ترى د. سلوى عثمان أستاذ علم النفس أن أسلوب المحقق الذي يتبعه الأب مع الابن يجبر الابن أن يكون متهماً؛ فيأخذ موقف الدفاع عن النفس، وهذه الطريقة قد تؤدي إلى أضرار كبيرة، فقد يكذب حتى يخرج من الموقف .. الخ، وهنا نؤكد أن أكثر الأبناء إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وعدم اتباعهم الطرق التربوية الصحيحة معهم.
إننا يجب أن نبحث عن المتعة في تربية الأبناء، ولا يمكن أن نصل لهذه المتعة إلاّ إذا نزلنا إلى مستواهم، وهذا النزول لمستوى الأطفال كان يمارسه ويعرفه الأجداد والجدات، عند تعاملهم مع أحفادهم، أفضل منا، فقد كانوا ينزلون إلى مستوى الطفل، ويتحدثون معه عما يسعده، ويتعاملون معه بمبدأ أنه هو صاحب الحق في الحياة، وأن طلباته مجابة ما دامت معقولة، وعلى الرغم من أن الأطفال يحبون أجدادهم وجداتهم بلا شك، إلاّ أنهم ينتظرون هذا التعامل اللطيف، والعلاقة الخاصة منا نحن، وتظل صورة الأب التقي هي النموذج الذي يحبه الابن ويقتدي به ويتعلم منه كيف يقود البيت، ويرعى زوجته وأبناءه في المستقبل.
وتظل صورة الأم ذات الدين والحياء والعفة، والذوق الرفيع هي النموذج الذي تتعلق به الفتاة وتقتدي به، وتتعلم منه كيف تكون زوجة وأماً.
إن الابن لا يريد أكثر من أن نستمع له باهتمام ونتفهم مشاعره فقط لا غير، الابن يريد صديقاً يفهمه لا شرطياً يحميه، ولذلك يبحث الأبناء في سن المراهقة عن الصداقات خارج البيت، ويصبح الأب معزولاً عن ابنه في أخطر مراحل حياته، وفي تلك الساعة لن يعوض الأب فرصة الصداقة التي أضاعها بيده في أيام طفولة ابنه.
وصاية على الابن حتى بعد الزواج!
يقول الكاتب أشرف شهاب: كثير من الآباء يصرون على معاملة الأبناء، حتى بعد أن يكبروا، على أنهم ما زالوا أولئك الأطفال الذين يجب اتخاذ القرارات بالنيابة عنهم، وأنهم لا يعرفون مصلحتهم، وأن الأب هو الوحيد الذي يعرف مصلحة ابنه.
وفى بعض الأحيان تمتد وصاية الآباء إلى الأبناء المتزوجين، فنجد الابن المتزوج يعاني من محاولات والده السيطرة على شؤون حياته بداية من اختيار العروس المناسبة له، ووصولاً إلى التدخل في كافة تفاصيل حياة الأبناء، وحتى علاقاتهم بزوجاتهم، وذلك على الرغم من أن لكل زمن أفكاره، وظروفه التي تتغير، وليس المفترض أن يتحول الأبناء إلى نسخة طبق الأصل عن الآباء.
فلماذا يتدخل الآباء بالرقابة، وفرض الأوامر والتعليمات على الأبناء؟ ولماذا لا يترك الأب لأبنائه حرية التعبير عن رأيهم؟ ولماذا لا يسمح لهم بحق الاختلاف معه في الرأي، خصوصًا وأن الظروف التي نعيشها في هذا الزمان تتطلب نوعًا من أنواع الانفتاح في التربية، والتعاون والتفاهم لضبط سلوكيات الأبناء حتى لا يحدث الانحراف، أو يحدث نوع من العناد، والإصرار من جانب الأبناء على فرض آرائهم حتى لو كانت خاطئة، لمجرد أنهم يريدون إثبات شخصيتهم المستقلة، والتمرد على وصاية الآباء؟!
فجوة غير مرغوبة
تقول الاختصاصية الاجتماعية أنوار عبد الله: هناك فجوة في العلاقات بين الأب وأبنائه نتيجة عدم منح الأبوين الرعاية الكاملة للأبناء، وعدم إقامة علاقة جيدة معهم، وعدم إقامة حوار وفهم وجهات نظرهم، فيصبح الأب من وجهة نظر أبنائه مصدراً للسلطة، وفرض الأوامر وبالتالي مصدر إزعاج.
بينما يرى الأب أن ابنه مخالف للعادات والتقاليد سواء كان في مظهره كلبسه وقصة شعره أو تصرفاته وتفكيره، مما قد يزيد حجم جمود العلاقات وجفافها بينهما.
وتكوين علاقة متينة بين الأب وابنه تقوم على الثقة والتسامح والمرونة أمر شديد الأهمية؛ فالابن مهما كبر، يحتاج للتعرف على متطلبات الرجولة من أبيه لتقوية شخصيته ولإشباع حاجاته النفسية، كما أنه يفترض ألاّ يغفل الأب عن مقولة: (إن كبر ابنك خاويه).. أي اجعله صديقاً لك، وعامله كما تعامل صاحبك في نفس السن؛ فالأسرار التي تنشأ بين الأب وابنه وكذلك المصارحات والمداعبة تزيد في قوة علاقتهما، مما يجعل الصراحة والثقة تزيد من قبل الابن للأب، ويستحسن أن يترك الأب للابن حرية التعبير عن رأيه وإن كان رأيه مخالفاً لرأي الأب، إلاّ أنه يُفترض أن كليهما يحترم رأي الآخر دون تأثير على العلاقة بينهما! و يجب محاولة تقريب وجهات النظر، ومن المهم أن يتقبل كل منهما الآخر كما هو، وليس كما يريد الطرف الثاني، وأن يدرك كل منهما، وخاصة الأب، أن الاختلاف سُنة من سنن الله في خلقه.