مصطفى محمد الأزهري
شُرعت الأعياد في الإسلام لحكم سامية ولمقاصد عالية، فالعيد فرصة للفرح ولتقوية الروابط الاجتماعية، ولتجديد قيمة التواصي بالحق والتواصي بالمرحمة، وهناك سنن وآداب وصّى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الاحتفال بالأعياد.
فمن الحكم التي شُرعت من أجلها الأعياد في الإسلام أن تكون فرصة للترويح عن النفس من هموم الحياة، وشُرعت الأعياد أيضاً لتكون فرصة لتوطيد العلاقات الاجتماعية ونشر المودة والرحمة بين المسلمين. وشُرعت الأعياد لكي نشكر الله تعالى على تمام نعمته وفضله وتوفيقه لنا على إتمام العبادات.
و تختلف عن الأعياد في غير الإسلام، ففي الإسلام ارتبطت الأعياد بأداء الفرائض، وتكون فرحة العيد بالتوفيق في أداء الفريضة؛ فالذين يصومون لهم الحق أن يفرحوا بالعيد لأنهم أدوا فريضة الصوم، والذين يحجون لهم أيضاً أن يفرحوا لأنهم أدوا فريضة الحج.
و ربط العيد بأداء الواجب -وهو معنى سام- يختلف عن المناسبات الدنيوية، فالإسلام سما بمعنى العيد وربط فرحة العيد بالتوفيق في أداء الفرائض، ولذلك فإن العيد يُعدّ من شعائر العبادة في الإسلام.
وإذا كان القرآن الكريم قد نهى عن لون من الفرح يشير إلى التكبر والأنانية والاستعلاء على خلق الله وقطع الصلة بهم، كما في حالة قارون (...إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)[القصص: من الآية76]؛ فهذا فرح لا يحبه الله، ومن شأنه أن يحول بين صاحبه وبين الناس محبة وتواصلاً؛ فكذلك أمر الله بالفرح برحمته وفضله، ومنها التوفيق للطاعة التي من أجلِّها التواصل بين الناس عموماً وأولي الأرحام منهم على وجه الخصوص.
فالأعياد في الإسلام لم تُشرع من أجل مجرّد الفرح، وإنما شُرعت لكي تستكمل حلقة البر في المجتمع الإسلامي، فإذا كان البر في الأيام العادية عادة فردية ففي أيام الأعياد يصبح البر قضية اجتماعية لقول النبي صلى الله عليه وسلم مطالباً الأغنياء بألاّ يتركوا الفقراء لفقرهم: «اغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» هذا فيما يخص زكاة الفطر، والإسلام لم يسن الأضحية ليشبع أصحاب الأضحية من اللحم، ولكن ليشبع الفقراء من اللحم الذي ربما لا يذوقونه طوال أيام السنة، ولعل الآية التالية تؤكد على إعلاء شأن العبادة إذا أثمرت سلوكاً نافعاً لأصناف الناس جميعاً وإلا تصبح الصلاة والصيام وغيرها من الشعائر عبادات جوفاء لا تؤدي المعنى الاجتماعي التي من أجله فُرِضت. يقول الله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]
(...وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ...)[البقرة: من الآية177] يشمل جميع ألوان ذوي الحاجات فلم يترك طبقة من الطبقات إلا وشملها هذا الفيض من رحمة الله؛ فالمجتمع لا يعيش إلا بهذا التراحم. هذا ما دعا إليه الإسلام وما استُهدف من معنى "الإيعاد" فليست الأعياد مناسبة للمبالغة في الأفراح الطائشة أو إحياء التقاليد الموروثة أو انتشار البدع.
فالعيد في منهج الإسلام بهجة وفرحة وسرور وشكر لله على التوفيق لأداء فريضة الصيام أو الحج. وواجب المسلمين في هذا اليوم التزاور والتراحم بينهم وبين بعضهم البعض، ومراعاة الآداب التي وضعتها الشريعة الإسلامية للاحتفال بالعيد ومراعاة حرمات الله تعالى؛ فلا يجوز أن يكون يوم العيد يوم حزن أو هم بالبكاء والندب على الراحلين، بينما الأحياء متقاطعين لا يصل بعضهم بعضاً.
كما أن الأعياد لم تُشرع لتكون مناسبات فارغة المحتوى والمضمون من الدلالات الأخلاقية والإنسانية ليكون العيد موسماً للمباراة في مظاهر السفه والترف وإنفاق المال في غير موضعه، والخروج عن كل معقول ومقبول من سلوكيات الإسلام وآدابه وجمالياته المعنوية والحسية من مساعدة للمحتاج وبر الوالدين وصلة الأرحام.
تجديد الأواصر وتمتين الروابط
وعن أثر العيد في تجديد الروابط الإنسانية فإن الله سبحانه وتعالى تكرّم على عباده المؤمنين بأن شرع لهم الأعياد، ففي العيد تتجلى السلوكيات الطيبة والأخلاق الحميدة فيسارع الناس إلى تبادل التهاني بقدوم العيد ويتصالح المتخاصمون وتنعقد مجالس الحب والتراحم والمودة، وتزول الأحقاد من النفوس فتتجدّد العلاقات الإنسانية، وتقوى الروابط الاجتماعية وتنمو القيم الأخلاقية وتعلو قيمة التآخي والتعاون والبذل والعطاء والجود والكرم والتراحم والتعاطف.
إن العيد فرصة نفسية كبيرة ومدخل اجتماعي عظيم لكسر ما سببته شواغل الحياة عن القيام بواجب صلة الأرحام والتواصل مع أولي القربى؛ فقد مر زمن كريم كانت زيارة الأهل والأقارب شيئاً شبه مقدس، تعلَق بالقاطع أو المقصّر في هذا الحق معرّة لا تنفك عنه حتى يكون من الواصلين.
إن زيارة الأقارب وصلة الأرحام، لهي سبب دخول الجنة وحصول الرحمة.قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره، فليصلْ رحمه". رواه البخاري. وللزيارات والرحلات العائلية في العيد شعور له مذاق خاص.
تكنولوجيا البر والصلة
إذا كان لكل زمان مخترعاته وإفرازاته التقنية، والتي تنعكس سلباً وإيجاباً على سلوك الناس وتعاملاتهم، كما حدث فيما سُمّي بعصر "الآلة"، وما أفرزه ذلك من قيم اجتماعية جديدة؛ فكذلك حدث مع ما ظهر من مخترعات اختزلت من سلوك كثير من الناس قيمة الأشياء، سلبت منها مضمونها، ففي زمن "العولمة" الذي بدّلت قيمه الحديثة ما كان مقدساً في السابق. من هذا تلك الثورة الهائلة والمتسارعة في عالم "الاتصالات"، فمن "تليفون العمدة" الذي لم يكن موجوداً إلا في بيته الكبير فقط، ويشكل جزءاً من مسؤوليته عن شؤون القرية، إلى الهواتف النّقالة القابضة عليها أيدي طلاب المدارس. كان من شأن هذه الثورة في عالم الاتصال إلى إحداث حالة من الخمول الاجتماعي والتراخي الإنساني في مجال صلة الأرحام، والذي كان يمثل الانتقال من مكان إلى مكان، بل من بلد إلى بلد لزيارة الأقارب ـ بما فيه من جهد بدنيّ وماديّ ـ فرحة نفسية كبيرة للزائر والمزور على السواء.
وجميل أن تكون وسائل الاتصال حاملة لأصوات الناس عبر الأثير تهنئة وسؤالاً واطمئناناً لكن قد لا يغني الاتصال ـ بهذا الشكل ـ عن التواصل بتغبير الأقدام والانتقال لزيارة الأهل والأقارب والتواجد بينهم إحياءً لتعاليم الإسلام أولاً، والعودة بأيام العيد ـ مرة أخرى ـ إلى أيام الزمن الجميل.