يقول الله تعالى في سورة آل عمران الآيات 133- 136:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (*) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (*) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (*) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين ﴾
فما المسارعة؟ هي المبادرة والاستباق إلى ما يوجب المغفرة. وهي الطاعة. ويندرج تحتها أمور كثيرة كأداء الفرائض، وهو قول علي رضي الله عنه. والإخلاص في التوجه، وهو قول عثمان رضي الله عنه. وقيل التوبة إلى الله، والبعد عن الربا، والثبات في القتال. والآية عامّة في الجميع.
وقد ذكر الحث على المبادرة مرات في القرآن يدعو إلى التنافس وبذل الجهد للوصول إلى الهدف المنشود من وجودنا أحياء. يقول تعالى ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ .
وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه في الاستباق والمسارعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصلاة على وقتها: «إنما مثل المهجّر إلى الصلاة كمثل الذي يُهدي البدنة، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي البقرة، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي الكبش، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي الدجاجة، ثم الذي على أثَره كالذي يُهدي البيضة». ويشجع الحبيب المصطفى على الإسراع في أداء الصلاة في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو محذورة عن أبيه عن جده «أول الوقت رضوان الله، ووسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله». فقال أبو بكر رضي الله عنه : «رضوان الله أحب إلينا من عفوه. فإن رضوانه عن المحسنين، وعفوه عن المقصّرين».
المسارعة إلى أين
وإلى أين المسارعة؟.. إنها إلى مغفرة من الله تعالى تفتح آفاق النفس وتقرّب العبد من مولاه.. إلى رضوان الله وكرمه، وهذا يستدعي الإخلاص والهمة، وبذل الجهد للوصول إلى الهدف. ومن غفر الله تعالى له نال السعادة كلها، ونال مع رضوان الله تعالى ثوابَه وجودَه، إنها جنة عرضها السماوات والأرض. فهي واسعة لا يعلم مداها إلا الذي خلقها – سبحانه – وعرْضُ هذه الجنة السماوات السبع والأرضين السبع مقترنة بعضها إلى بعض مبسوطة كما تبسط الثياب. فكم عرضها يا ترى؟ الله أعلم... وإذا كانت السماوات والأرض عرضَها فكم طولها يا ترى؟!! والطول أكثر امتداداً من العرض. والجنان أربعة: جنة عدْن، وجنة المأوى، وجنة الفردوس، وجنة النعيم. وكل جنة منها كعرض السماوات والأرض. وفي الصحيح: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من يتمنّى ويتمنّى حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله».
قال يعلى بن أبي مرة: «لقيت التنوخيَّ رسول هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً، قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل، فتناول الصحيفة رجل عن يساره, قال: فقلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا معاوية. فإذا كتاب صاحبي – هرقل - : إنك تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار».
لمن أعِدّت الجنة؟ إن أصحابها المتقون. ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين ﴾ والمتقي من ابتعد عن غضب الله وعذاب جهنم. إن المتقين ذوو صفات عدة، ذكرها القرآن في مواطن كثيرة تتعدد حسب الفكرة المقصودة في كل آية. فما صفات المتقين في هذه الآيات الكريمة؟
بعض صفات المتقين: نسأله تعالى أن نكون منهم :
* الذين ينفقون في السراء والضراء: من صفات الله تعالى الكرم والجود، والسعيد من يحاول التحلي ببعض هذه الصفات التي يحبها المولى سبحانه. ومن كان جواداً كريماً كان هماماً واضح الإحساس زكي النفس ذكي الفؤاد، يحب الخير للعباد، ويساعد ذا الحاجة الملهوف، يقصده الناس لقضاء حوائجهم وتفريج كروبهم. «الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله» و «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة». والكرم والجود من أخلاقه في حالاته كلها. قال المفسرون: «في حالة السراء والضراء، والعسر واليسر، والرخاء والشدة، والرضا والغضب، في حال الصحة والمرض. فالإنفاق - على هذا- متأصّل في نفوسهم، وسجية في طبائعهم».
* والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين. ثلاث صفات رائعات يتدرج المتقي فيها ليصل إلى أفضلها. أولها: كظم الغيظ – حبسه ومنعه من الثوران والتصرف الهائج – فهو الصبر إذاً... والصبر نور في البصر والبصيرة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : «والصبر ضياء »، وقال تعالى ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ وعلى المسلم الداعية أن يتجاوز عن إساءات الناس إذا أراد أن يصل إلى قلوبهم، ويلج عقولهم، فيحبوه ويتبعوه، وقد جبل الناس على الضعف والخطأ الذي يولد الأذى فقد قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم». ولا ننس أن كظم الغيظ لا يعني نسيانه، إنما تناسيه، والفرق بينهما واضح جليّ. فإذا نجح المسلم في السيطرة على نفسه فحبس غيظه دخل في المرتبة الثانية: العفوعن الناس والعفو نسيان ما كان منهم، ومسامحتهم، وكأن شيئاً لم يكن. فقد كان الرسول الكريم يعفو عمّن ظلمه، والسيرة مليئة بهذه المواقف النبوية الرائعة في العفو والصفح عن المسيء، وتاريخ الصالحين من أسلافنا شاهد على ذلك. والعفو دليل سمو الأخلاق ورجاحة العقل، ولن يكون الداعية ناجحاً إذا عامل الناس بالمثل. إنه إن عاملهم كذلك لم يتميّز عنهم. والقرآن الكريم يدعونا إلى العفو ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ويقول: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ﴾ هذا مع المسلمين. وكذلك مع غير المسلمين فإن العفو عنهم رفع مقام للمؤمن، وزيادة في عقاب الكافر ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس الشديد بالصُرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»، بل إن الإنسان إذا تحمّل أذى الآخرين نال ثواباً عظيماً يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ما من جَرعة يتجرعها العبد خيرٌ له وأعظم أجراً من جرعةِ غيظ في الله. فإذا نجح المسلم في الدرجة الثانية جازها إلى الدرجة الأخيرة الراقية الإحسان الذي يحبه الله تعالى ويحب أهله ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين ﴾ ودرجة الإحسان أنك تعبد الله «كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فأنت على هذا في المعية الإلهية. قال سريٌ السقَطيّ: «الإحسان أن تحسن في وقت الإمكان، فليس كل وقت يمكنك الإحسان فيه». وقال الشاعر أبو العباس الجمّني:
ليس في كل ساعة وأوانِ *** تتهيّـا صنائع الإحسـان
وإذا أمْكـَنَـتْ فبـادر إليهـا *** حذراً من تعذّر الإمكان
وقد أورد القرطبي في المحسن: من صحح عقد توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء فرائضه، وكفى المسلمين شرَّه.
* والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم:
ا- ذكروا الله ...
ب- فاستغفروا لذنوبهم – ومن يغفر الذنوب إلا الله؟- ،
ج- ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
ما من أحد لم يقترف ذنباً، أو يجترح إثماً فالإنسان خطّاء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وخطّاء تعني كثير الأخطاء. لكن التائب بصدق يتوب الله تعالى عليه، وهؤلاء في هذا الصنف دون الصنف الأول، فألحقهم الله بهم منّاً منه وكرماً، وهؤلاء هم التوّابون. الذين يقعون في الفاحشة، ثم يستدركون ويتوبون إلى الله تعالى، فيتوب عليهم ويغفر لهم. أما ظلم النفس هنا فالخطأ دون الكبائر.. هؤلاء يذكرون الله تعالى ويعلمون أنهم أغضبوه فيسارعون للاستغفار والتوبة والأوبة إليه سبحانه فهو وحده الذي يقبل توبتهم، ويقيل عثرتهم. فإذا كان الله وحده من يغفر الذنوب فاللجوء إليه وحده الطريق الصحيح للتخلص من الذنوب والآثام. والتوبة لها شروط ثلاث كما ذكر العلماء اعتماداً على هذه الآية الكريمة أن : يقلع الإنسان عن المعصية. وأن يندم على فعلها. وأن يعزم أن لا يعود إليها. فإذا كانت المعصية بحق غير الله زيد شرط رابع: أن يعيد الحق لصاحبه وأن يستسمح منه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يذنب ذنباً، ثم يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يستغفرُ الله، إلا غفر له» ثم تلا الآية الكريمة ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَة .... ﴾ ومن علم أنه واقف يوماً أمام الله تعالى - «وهم يعلمون» - خاف ورجا، ورغب ورهب، فأسرع تائباً إلى الله عز وجل .
جزاء المتقين
﴿ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾.
فهؤلاء الذين ينفقون من أموالهم ابتغاء مرضاة الله، ويكظمون غيظهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى الناس، ويتوبون إلى الله ويستغفرونه، ويعلمون أنهم محاسبون على ما يعملون فيحترسون لهم جزاء عظيم يقود إلى نتيجة عظيمة .
أما الجزاء العظيم فالمغفرة من الله تعالى ومن رضي الله عنه رضي كل شيء عنه وأحبه، وعفا عنه وأبدل سيئاته حسنات. ومن نال هذه الفضائل العظيمة استحق الجنة ونعيمها الأبدي الخالد بأنهارها العذبة من ماء غير آسن ولبن لم يتغير طعمه وعسل مصفى وخمر لذة للشاربين، ونال ما يتمناه من ثمار الجنة وأُكُلها، وجميل حورها. وما أحسن هذا الجزاء الكريم من رب كريم.