أهمية الأخلاق والقيم في الحضارة الإسلامية
تُمَثِّل الأخلاق والقيم الجانب المعنوي أو الرُّوحي في الحضارة الإسلامية، وأيضًا الجوهر والأساس الذي تقوم عليه أي حضارة، وفي ذات الوقت تضمن سرَّ بقائها وصمودها عبر التاريخ والأجيال، وهو الجانب الذي إذا اختفى يومًا فإنه يُؤْذِنُ بزوال الدفء المعنوي للإنسان، الذي هو رُوح الحياة والوجود؛ فيصير وقد غادرت الرحمة قلبه، وضعف وجدانه وضميره عن أداء دوره، ولم يَعُدْ يعرف حقيقة وجوده فضلاً عن حقيقة نفسه، وقد بات مُكَبَّلاً بقيود مادية لا يعرف منها فِكَاكًا ولا خلاصًا.
الحضارات السابقة والأخلاق
لم تَحْظَ الحضارات السابقة والمعاصرة بإسهام كبير ولا دور بارز في جانب الأخلاق والقيم، ويشهد على ذلك علماء الغرب ومُفَكِّروهم؛ فيقول الكاتب الإنجليزي جود: "إن الحضارة الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق؛ فالأخلاق متأخِّرَة جدًّا عن العلم، فقد منحتنا العلوم الطبيعية قوَّة هائلة، ولكننا نستخدمها بعقل الأطفال والوحوش... فالانحطاط هو خطأ الإنسان في فهم حقيقة مكانته في الكون، وفي إنكاره عالم القيم، الذي يشمل قيم الخير والحقِّ والجمال"[1].
ويقول ألكسيس كارليل: "في المدينةِ العصرية قَلَّمَا نشاهد أفرادًا يتبعون مَثَلاً أخلاقيًّا، مع أن جمال الأخلاق يفوق العلم والفنَّ من حيث أنه أساس الحضارة"[2].
والحقيقة أيضًا أن هذا الجانب -جانب الأخلاق والقيم- لم يُوَفَّ حقُّه إلا في حضارة المسلمين، تلك التي قامت في الأساس على القيم والأخلاق، وبُعث رسولها خاصة ليُتَمِّمَ مكارم الأخلاق ويكملها، وذلك بعد أن تشرذمت وتفرَّقت وأُهْمِلَتْ بين الأمم والحضارات.
تلك الأخلاق والقيم التي لم تكن يومًا نتاج تطور فكري على مرِّ العصور، وإنما كانت وحيًا أوحاه الله وشرَّعه رسول الإسلام محمد ، فكان مصدرها التشريع الإسلامي منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان.
إن البواعث التي تدفع الإنسان إلى العمل كثيرة ومتباينة، وربما لا يدركها العامل نفسه، رغم أنها سرُّ اندفاعه، ولكنَّ العمل الذي يُرضي الله يجب أن يُبْنَى على إخلاصٍ من العبد لله وقصد وجهه لا شريك له، وعندها ينال المسلم الثواب والأجر.
ففي الحديث الصحيح يقول : "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى..."[1]؛ فإخلاص النية وصلاحها يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي البحت، فيصير عبادة مُتَقَبَّلة، قال : "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ..."[2].
والمرء ما دام قد أخلص نيَّتَه لله فإن حركاته وسكناته ونوماته ويقظاته، تُحتَسَب خطوات إلى مرضاة الله، ولئن كانت النيَّة الصالحة تضفي على صاحبها هذا القبول الواسع؛ فإن النيَّة المدخولة تنضمُّ إلى العمل الصالح في صورته، فيستحيل بها إلى معصيةٍ تستجلب الويل، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4-7].
فالقلب المقفر من الإخلاص لا يُنْبِتُ قَبُولاً، كالحجر المكسوِّ بالتراب لا يخرج زرعًا، فمِن أَنْفَسِ الإخلاص، وأغزر بركته، أنه يخالِط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير فلا يزن عند الله هباءة؛ ولذلك قال : "أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ"[3].
والله يريد من الناس أن يعرفوه حقَّ المعرفة، وأن يُقَدِّروه حقَّ قَدْرِهِ في السراء والضراء جميعًا، وأن يجعلوا الإخلاصَ له مكينًا في سيرتهم، فلا تضعف صلتهم به أبدًا، ولا يقصدون بعملهم غيره.
غير أن حرارة الإخلاص تنطفئ رويدًا رويدًا كُلَّما هاجت في النفس نوازع الأَثَرَة، وحبُّ الثناء، والتطلع إلى الجاه، وغير ذلك من أغراض الدنيا الزائلة.
والحقُّ أنَّ الرياء من أفتك العلل بالأعمال، وهو إذا استكمل أطواره في النفس أصبح ضربًا من الوثنية، التي تقذف بصاحبها في سواء الجحيم[4]، وأرذلُ أنواع الرياء ما يظهر في لباس الطاعة؛ لأن صاحبه يشعر أنه يُرضي اللهَ بينما هو يعصيه، فكيف يتوب مما يظنُّه خيرًا وطاعة!!
إن الله لا يقبل من العبادة إلاَّ ما كان خالصًا لوجهه الكريم؛ لأنه الذي أمر بذلك {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وقال : {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].
إنَّ على كلِّ إنسان أنْ يُخْلِص عمله لله، وألاَّ يريد به إلاَّ وجهَ الله؛ فإنَّ العلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا هي قَلَّتْ تركت به ثلمًا[5] شتى ينفذ منها الشيطان. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وصَّى الإسلام أبناءه بالحياء، وجعل هذا الخُلُق السامي أبرز ما يتميَّز به الإسلام من فضائل، قال : "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الْحَيَاءُ"[1]. فالحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، وهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه، ويدلُّ على حياة الضمير ونقاء المعدن. وقد "كَانَ رَسُولُ اللهِ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا"[2].
والحياء يؤسِّس في النفس عاطفة حيَّة، تترفَّع بها عن الخطايا، وتستشعر الغضاضة من سفاسف الأمور، والمرء حينما يفقد حياءه يتدرَّج من سيِّئ إلى أسوء، ويهبط من رذيلة إلى أرذل.
ومِن ثَمَّ كان "الإِيمَانُ وَالْحَيَاءُ قُرَنَاءُ جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآخَرُ"، كما قال [3]. وللحياء مواضع يستحبُّ فيها؛ فالحياء في الكلام يتطلَّب من المسلم أن يطهِّر فمه من الفُحش، وأن ينزِّه لسانه عن العيب، قال : "الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ"[4].
ومن الحياء أيضًا أن يخجل الإنسان من أن يُؤْثَر عنه سوء، وأن يحرص على بقاء سمعته نقيَّة من الشوائب، بعيدة عن الإشاعات السيِّئة.
إن الحياء مِلاكُ الخير، وهو عنصر النبل في كل عمل يشوبه، ولو تَجَسَّم الحياء لكان رمزَ الصلاح والإصلاح.
ومن حياء الإنسان مع الناس أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم، وأن يؤتيَ كل ذي فضلٍ فضله، وفي الحديث: "تَوَاضَعُوا لِمَنْ تَعْلَمُونَ مِنْهُ"[5]. والحياء ليس جبنًا؛ فإن الرجل الخجول قد يفضِّل أن يُريق دمه على أن يريق ماء وجهه، وتلك هي الشجاعة في أعلى صورها. على أن مَن يتهيَّب تقريع المبطلين ليس حييًّا؛ فالحياء لا موضع له في السلوك عندما يقف المرء موقفًا يناصر فيه الحقّ، {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53].
والحياء في أسمى منازله وأكرمها يكون من الله ، فنحن نَطْعم من خيره، ونتنفَّسُ في جوِّه، وندرج على أرضه، ونستظلُّ بسمائه، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
إن من حياء المسلم أن ينزَّه لسانه أن يخوض في باطلٍ، وبصره أن يرمق عورة، أو ينظر شهوة، وأذنه أن تستَرِقَ سرًّا، أو تستكشف خبأً، وأن يفطم بطنه عن الحرام؛ فإن فعل ذلك عن شعورٍ بأن الله يرقبه، ونفورٍ من اقتراف تفريط في جنب الله، فقد استحيا من الله حقَّ الحياء.
والحياء بهذا الشمول هو الدِّين كله، فإذا أُطلق على طائفة من الأعمال الجميلة فهو جزء من الإيمان وأثر له؛ قال : "... وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ"[6].
[1] نقلاً عن أنور الجندي: مقدمات العلوم والمناهج 4/770.
[2] ألكسيس كارليل: الإنسان ذلك المجهول ص153.
[1] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (1)، عن عمر بن الخطاب t، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله : "إنما الأعمال بالنية..." (1907). [2] البخاري: كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (2195)، عن أنس بن مالك t، ومسلم: كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع (1552). [3] الحاكم (7844) عن معاذ بن جبل t، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعليق الذهبي في التلخيص: غير صحيح. والبيهقي: شعب الإيمان (6593)، وتفسير ابن أبي حاتم (6196). [4] فلننظر معًا إلى وصية الرسول لعبد الله بن عمرو بن العاص، الذي قال لرسول الله : أخبرني عن الجهاد والغزو. فقال : "يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، إِنْ قَاتَلْتَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بَعَثَكَ اللهُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا". أبو داود (2519)، والحاكم (2437)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه. وتعليق الذهبي في التلخيص: صحيح. [5] الثُلْمَة: الخلل في الحائط وغيره.
[1] ابن ماجه: كتاب الزهد، باب الحياء (4181) عن أنس بن مالك t، والموطأ - رواية محمد بن الحسن (949)، قال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (940). [2] البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي (3369) عن أبي سعيد الخدري t، ومسلم: كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه (2320). [3] الحاكم (58) عن عبد الله بن عمر، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما فقد احتجا برواته، ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وتعليق الذهبي في التلخيص: على شرطهما. وابن أبي شيبة: المصنف 5/213 (25350). [4] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الحياء (2009) عن أبي هريرة t، وقال أبو عيسى: وفي الباب عن ابن عمر وأبي بكرة وأبي أمامة وعمران بن حصين، هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (4184)، وأحمد (10519) تعليق شعيب الأرناءوط: صحيح، وهذا إسناد حسن. وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (495). [5] الطبراني: المعجم الكبير 19/450 عن أبي هريرة t، والبيهقي: شعب الإيمان (1741)، وقال الألباني: ضعيف. انظر: السلسلة الضعيفة (1610). [6] البخاري: كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان (9) عن أبي هريرة t، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان... (35).