تنصرف أذهاننا بمجرد الحديث عن التفكير الإسلامي، إلى التفكير بالإسلام، ولا تهتمّ إلا قليلا بالجهة الأخرى للتفكير الإسلامي، ألا وهي التفكير في الإسلام.
إن الفكرة الإسلامية بما تتّسم به من معقولية لم تأل جهدا في أن تدعو الموالين والمخالفين إلى أن يتفكروا فيها قبل أن بتفكروا بها، أي إلى أن يكونوا واعين بها كلّ الوعي، مدركين لأبعادها ودلالاتها، متصوّرين لما يحفّ بها من محاذير قد تتولّد على ضفافها نتيجة للتعجّل في الحكم، أو للتأويل البعيد، أو للفهم السطحي الذي لا ينفذ إلى أعماق ما أراد الشارع، بل يقف فقط عند ظاهر ما قال… ومن هنا أُعطيت المشروعية للاختلاف كأداة طبيعية بل وضرورية لإدراك الحق الذي لا ينقدح في كثير من الأحيان إلا بالمجادلة ومقارعة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة حتّى ينقدح الحقّ من بينها.
إنّ أساس التفكير الإسلامي:
- التفكير بالإسلام،
- والتفكير في الإسلام.
فأمّا التفكير بالإسلام فهو ذلك التفكير الذي ينطلق من القواسم المشتركة داخل المجتمع الإسلامي، ويحتكم إلى القيم الأساسية للمجتمع، تلك التي تضفي الخصوصية عليه، وتمثل في مجموعها مرجعية كبرى تصبغ كل المنتمين إلى المجتمع بصبغتها… ولا يفوتني التأكيد على أنّها:
- خصوصية راشدة ومتفتّحة يكون فيها الاختلاف مدعاة للتعاون وتبادل الخبرات والتجارب مصداقا لقوله تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الحجرات: 13).
- خصوصية لا تقوم على السيطرة وعلى الهيمنة فـ"الإسلام يدين روح التدمير وروح السيطرة: "تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا" (القصص: 83)، بل إنّه لا يريد فرض "إيديولوجية عالمية" : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99)… إنّه بموجب أمر إلهي سيظل الخلاف قائما بين الناس : "ولَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ولاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذّلِكَ خَلَقَهُمْ" (هود: 118-119)[1]
* قال ابن الجوزيّ: "قوله تعالى "أفأنت تكره الناس"، قال المفسرون منهم مقاتل هذا منسوخ بآية السيف، والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ، لأن الإكراه على الإيمان لا يصح لأنه عمل القلب".[2]
قال الطبري: "دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكُّم والتَّحَكُّم لا يَعْجز عنه أحد."[3]
وفي قوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة: 256)، قال الزمخشري: "أي لم يُجر الله أمرَ الإيمان على الإجبار والقسر ولكن على التّمكين والاختيار".[4]
- خصوصية لا تقوم على المعاداة المبدئية لمن خالفني في الدّين أو في التفكير، قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ "* (البقرة: 190)
* قال فيها الطبري نقلا عن ابن عباس: "لا تقْتلوا النساء ولا الصبيان ولا الشيخ الكبير ولا من ألقى السلم وكفَّ يدَه فإن فعلتم هذا فقد اعتدَيْتم…"[5]
وفي القول بنسخ الآية رأيان، وقد رجّح الطبري القول بعدم النسخ قائلا: "وأولى هذين القولين بالصواب القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكُّم والتَّحَكُّم لا يَعْجز عنه أحد."[6]
وقال القرطبي: "أحكام الله عز وجل لا يُقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول".[7]
- خصوصية تُعرب عن نفسها بأحسن الطرق وأكثرها سماحة، قال تعالى: "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت: 46)
* روى الطبريّ قال: "قال ابن زيد في قول الله عز وجل "لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ" (الشورى: 15): لا خصومة بيننا وبينكم، وقرأ "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" إلى آخر الآية".[8]
قال القرطبيّ: "اختلف العلماء في قوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب"
فقال مجاهد: "هي مُحْكَمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم إلى الإيمان لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة.."
وقول مجاهد حسن لأن أحكام الله عز وجل لا يُقال فيها إنها منسوخة إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول".[9]
- خصوصية تتوخّى في كلّ مرة، ومع الناس أجمعين أحكم الطرق وأحسنها للتعبير عن ذاتها، قال تعالى: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)" (الإسراء: 53-54)
* "قال ابن عطية: ويلزم على هذا أن يكون قوله "لعبادي" يريد به جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى لا إله إلاّ الله…
وقال الزمخشري: فسر "التي هي أحسن" بقوله: "ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم" يعني يقول لهم هذه الكلمة ونحوها ولا تقولوا لهم أنكم من أهل النار وأنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله: "إن الشيطان ينزغ بينهم" اعتراض بمعنى يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: إذا أردتم الحجة على المخالف فاذكروها بالطريق الأحسن وهو أن لا يخلط بالسب كقوله: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن" "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن" وخلط الحجة بالسبّ سبب للمقابلة بمثله، وتنفير عن حصول المقصود من إظهار الحجة وتأثيرها، ثم نبه على هذا الطريق بقوله: "إن الشيطان ينزغ بينهم" جامعاً للفريقين أي متى امتزجت الحجة بالإيذاء كانت الفتنة.[10]
إن ما يُميّز التفكير الإسلامي أنّه تفكير يسع الناس أجمعين، ويُعطيهم الشعور بالأمن على أنفسهم حتى ولو كانوا مخالفين، وهو ما أنطق المنصفين من المخالفين ليعبروا عن إعجابهم بمواقف المسلمين من ذلك ما قاله الهنديّ "أمارتيا صن":
"من أهمّ الشّارحين والممارسين لمعنى التّسامح مع التنوع في الهند، الإمبراطور المغولي العظيم "أكبر"[11]، الذي حكم ما بين عامي 1556 و1606، وقبل حقوق الإنسان بأنواعها المختلفة، بما في ذلك حرية الملكية وحرية الممارسة الدينية، وهي حريات لم يكن يسيرا التسامح معها في أوروبا في زمن "أكبر". نذكر على سبيل المثال أنّه بحلول عام 1000 هجرية، أو 1591-1592 ميلاديّة، أصدر "أكبر" قوانين عدّة مع حلول هذا المنعطف التاريخي، وركّزت هذه القوانين، من بين أمور أخرى، على التسامح الديني، بما في ذلك ما يلي:
"لا يحق لأيّ امرئ التّدخّل في تفسير الدّين وإنّ من حقّ أيّ إنسان أن يعتنق الدّين الذي يرضاه. إنّ هندوسيا إذا أُرغم في سنّ الطفولة أو غير ذلك، على أن يكون مسلما على غير إرادته فإنّ له الحقّ، إذا ارتضى ذلك، أن يرتدّ إلى دين آبائه"…
وإنّ الفيلسوف اليهودي "مايمونيد" في القرن الثاني عشر اضطر إلى الهرب من أوروبا المتعصّبة (موطن بلاده) ومن اضطهادها لليهود إلى أمن وأمان حاضرة القاهرة المتسامحة، ليعيش في رعاية السلطان صلاح الدّين."[12]
لست من قال هذا الكلام، ولا من ضرب هذا المثل، وإنما هو عالم الاقتصاد الهندي، والأستاذ بجامعة كمبريدج، الزميل الرئاسي للبنك الدولي عام 1996، والحائز على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 1998، والذي شغل منصب الأمين العام لمعهد الدّراسات المتقدّمة في برنستون.
تفكير يحترم العهود، ويعترف للإنسان بحقّه في الاختلاف حتّى ولو كان محاربا، "ولا يخفر[13] المسلمون لأهل العهد ما صالحوهم عليه، وقد كان الوليد بن يزيد الخليفة أجلى أهل قبرص إلى الشام، بعد أن أقرّهم في بلدهم الأميرُ الفاتح معاويةُ بن أبي سفيان في خلافة عثمان، فأنكر فقهاءُ المسلمين على الوليد. فلما وَلِي بعدَه يزيدُ بن الوليد، ردّهم إلى قبرص، فاستحسن المسلمون ذلك ورأوه عدْلا."[14]
تفكير لا يضيق بالمخالفين، ويجد من الاستعداد الكثير ليجادلهم ويحاورهم في أناة لتبصيرهم بما يراه حقا. يقول ابن العربي: "وكنّا نفاوض الكراميّة[15] والمعتزلة والمشبّهة واليهود، وكان لليهود حبْرٌ منهم يقال له التّستريّ، لقِنا فيهم، ذكيّا بطريقتهم. وفاوضنا النّصارى بها، وكانت البلاد[16] لهم، يأكُرُون[17] ضياعها، ويلتزمون أديارها، ويعْمرون كنائسها.[18]"
تفكير لا يُقصي الآخر لمجرّد أنّه مخالف، ويعرف للناس حقوقهم في التعبير، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما قاله الشيخ أحمد بن الخوجة:
"إنّ إحضار طائفة من أهل ذمتنا في مجالسنا معشر المسلمين للمناضلة عن حقوقهم والتكلم في المصالح واستكشاف ما عندهم من الرأي، هذا بمجرده لا بأس به شرعا لأدلة منها:
إحضار النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول واستشارته في واقعة أحد…
ومنها أنّ غاية أمرهم أن يجروا مجرى الوكلاء على بني نوعهم في التكلم في مصالحهم والمناضلة عن حقوقهم وأي مانع من ذلك؟
بل لهم المناضلة عن حقوق المسلمين والتكلم في مصالحهم، ففي الباب الأول من وكالة الهندية وإذا وكّل المسلم أو الذمي حربيا مستأمنا في دار الإسلام بخصومة أو ببيع أو غير ذلك جاز، كذا في الحاوي، وكذا رأيت في غيره من كتب الحنفية على شرط أن يدخل الوكيل تحت الأحكام ثمّ الإصغاء إلى شكيتهم وسماع ما يتعلّق بمصالحهم من مستتبعات عقد الذمة.
قال القرافي في الفرق 119 بعد أن نقل قوله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالذمّة خيرا" أنّ عقد الذمّة يوجب حقوقا علينا لهم لأنهم في جوارنا وذمة الله وذمّة رسوله ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيّع ذمّة الله وذمّة رسوله ودين الإسلام."[19]
تفكير يؤمن بنسبية التفكير، فـ"كلكم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر". كلمات اشتهرت عن مالك لتؤكّد على نسبية الحق في ما يقول الناس، وهو ما عبّر عنه أبو حنيفة بقوله: "فإذا بلغ الأمر فلانا وفلانا، فهم رجال ونحن رجال". وقد سجّل ابن العربي موقفا طريفا مع أستاذه الغزالي يكشف رسوخ هذا المبدأ في الثقافة الإسلامية بما لم يقدر الخلف أن يصيبوه من أسلافهم بالدرجة ذاتها وبالوعي ذاته، يقول ابن العربي: "فاوضت يوما الطوسي[20] في ذكر تآليفه، فأعرض عن بعضها، ثم نظرت في كتاب "المعيار"[21] فأعجبني فاستحسنته وجئت إليه وعلى كمي كراسة منه، فقال لي: ما معك ؟ فاستحييت ورفعته إليه، فقرأه مليا وأنا أسارقه النظر وأرفض عرقا، ثم رفع رأسه إلي وقال لي: كتاب حسن، ولكن لا تغتر بمخالفتنا فيه"[22].
وقد كان ما أشار به عليه الغزالي، فقد انتقد ابن العربي على شيخه فيه "أغراضا صوفية فيها غلو وإفراط"[23]، بل بلغ تميزه في هذا الشأن حد وضع قانون في المعرفة خاص أشار إليه ابن تيمية بقوله: "وكان للغزالي قانون هو المنطق، أما أبو بكر بن العربي فقد وضع قانونا آخر مبنيا على طريقة أبي المعالي ومن قبله كالقاضي أبي بكر الباقلاني[24]" [25].
وأمّا التفكير في الإسلام، فنعني به التفكّر في مبادئه، وتعميق الوعي بقيمه، وإدراك دلالات أحكامه، والتعوّد على الموازنة بين "المنْطِق" و"المنطُوق"، وبين "الحُكم" و"الحِكمة"، وبين "المقصد" و"المآل"، وبين "ما قال الشارع" و"ما أراد"… كلّ ذلك قصد إدراك ما هو قانون ثابت لكلّ أمّة وجيل، وما هو فهم عارض لجيل دون جيل… والتمييز بين ما هو فصل إلهي حاسم يتعالى على الزمان والمكان، وبين ما هو اجتهاد بشري محدود بحدود الزمان والمكان…
إنّه التفكير الذي يحرص على أن يتملك المسلم "آليّة التشخيص المستمر" لواقع الوعي بالإسلام، يسْبِر أغوارَه وينقد مقوّماتِه، ويقترح تعديل مساراته ليجعله موافقا للأسس التي قام عليها مشروعه، ولخياراته التي تُرجمت عند كثيرين فيما سُمّي بالمقاصد الكليّة. ولذلك يمكن اعتبار هذا المستوى من التّفكير "ضمينا ابستمولوجيا" (Garant épistémologique) أَدَواتُه:
- المساءلة والمراجعة،
- والتحليل والنقد،
- وتأويل النتائج…
كلّ ذلك قصد إدراك الحقّ الذي هو في ثقافتنا ليس حكرا على انتماء أو جنس أو شخص، بل هو المعيار في الحُكْم على كلّ ذلك، وقديما قال علي بن أبي طالب: "الحقّ لا يُعرف بالرجال، ولكن اعرف الحقّ تعرف الرّجال"…
كما أنّه ليس حِكْرا على جيل دون جيل أو على زمن دون زمن، وقد عبّر عن ذلك المبرّد في كامله فقال: "ليس لقدم العهد يُفضّل القائل، ولا لحدثانه يُهتضم المصيب، ولكن يُعطى كلٌّ ما يستحقّ".
بل إنّه ليس حكرا حتّى على النصّ، فقد يوجد كثير من الحقّ في غيره، وإذا جاء أذعن له المسلم لأنّ "الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ بها."[27]
وقد أحسن ابن القيّم التعبير عن ذلك عندما قال: "قال ابن عقيل: "السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي"… فإنّ الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإن ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأيّ طريق كان: فثمّ شرع الله ودينه…"[28]
إنّ التعامل بسلبيّة مع الوارد من التاريخ أو الوافد من الآخر يوقعنا في أسر حُجُب تمنعنا من إدراك الأشياء على حقيقتها، كما يمنعنا من الإبداع والابتكار فـ"تقديس الأشخاص وآراءهم المكتوبة، كان يَحُول لا شُعوريا دون التّعامل مع الوقائع الخارجية للتّحقّق من صحّة هذه الآراء. فالذين يقدّسون أرسطو –مثلا- تجمّدوا على رأيه في سقوط الأجسام، ولم يخطر لهم أن يتثبَّتُوا من صحّة أقواله. فكان التفكير في التثبت أمرا جديدا أو تطاولا وتكذيبا للثقات وعملا مرذولا، فحين كان جاليلو يمتحن قول أرسطو في سقوط الأجسام، وحين قال: يسقط مسمار كبير وآخر صغير فيصلان معا بسرعة واحدة، كان الأساتذة يسخرون منه لأنّه يحاول إظهار خطأ أرسطو (يا للوقاحة والكبرياء)."[29]
إنّ "التفكير بالإسلام" أساس للوحدة الثقافية، بينما "التفكير في الإسلام" أساس لضمان الاستمرارية والتجدّد الحضاريّين… ولعلّي لا أكون متجنّيا على تاريخ الحضارة الإسلاميّة إذا قلت بأن سبب التخلّف الذي عرفته في هذه القرون الأخيرة هو أنّ هذا التفكير بالإسلام استمرّ بشكل ما، دون أن يستمر معه تفكير فعال ومجدّد في الإسلام، وبذلك أخذت آليات الحضارة في الاهتراء شيئا فشيئا حتّى بلغت حدّ العجز عن النهوض بحقّ المجتمع والتاريخ، وغاب الضمين الفكريّ للسير على قدر إيقاع الزمان، إلى أن أمست الحضارة على هامش التاريخ. وقصد تعميق هذا التصوّر، سنضرب عليه مثلا بمسيرة التشريع الإسلاميّ على مدى التّاريخ الإسلامي في موقف آخر بإذن الله.[30]
إنّها مشكلة "الثّابت" و"المتغيّر" مرّة أخرى، وإنّها مشكلة المواقف الحدّية التي يستكين إليها الأكثرون، غافلين عن أنّ رعاية الثابت تستوجب في ذاتها إتاحة الفرصة للمتغيرات حتّى تتغيّر، بل إنّ الثابت ذاته هو في جوهره وحدة حيّة متحركة، بقاؤها في تجدّدها أثرا وحجة وتجلّيات… فإذا سكنت ماتت.
ويأتي التفكير أداةً لاستكناه هذه الوحدة في حِلّها وترحالها، يُتابع أسباب رقيّها حين ارتقت، ويكشف أسباب تراجعها حين تراجعت، وذلك قصد بلورة الرّؤى بما يزيد من حركية الأفكار في لحظتنا الراهنة، ويزيح من طريقها العوائق والعقبات…
ولذلك فإنّنا ندرس الأفكار والمواقف في كثير من الأحيان لا لذاتها، وإنّما لإدراك أبعادها دلالاتها: قد نهتمّ بنتائجها وما أفرزته من مواقف، ولكن يعنينا بدرجة أكبر طرائق التفكير وآيات النّظر التي حكمت مساراتها. وحتّى إذا توافق سؤالنا مع أسئلة سلفنا في قضايا معيّنة، فإنّ الإجابة عن تلك الأسئلة ستكون غالبا من واجبا وحقّنا مهما علا شأن إجابات أسلافنا، لأنّهم أجابوا لزمانهم لا لزماننا، ومن الظلم لهم ولأنفسنا أن نتصور بأنّهم فكّروا في الحلول لمشكلات زماننا، إذ "كلّ نفس بما كسبت رهينة"، "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، و"أن ليس للإنسان إلا ما سعى".
إنّ التفكير في الإسلام ضمانة أساسيّة ترْعى حقّ التاريخ الإسلاميّ بقدر ما ترعى حقّ الواقع والعصر، وهي تُنصف الأجيال التي صنعت الماضي، بقدر ما تُنصف الأجيال التي تصنع الحاضر:
أ- فبالمعنى الأول نُنْصف جُهْد الأسلاف دون اكتفاء أو تعويل على الجاهز، ونقول في إبداعاتهم أفضل مما قاله "نيتشه" وهو يصف التجربة الإسلاميّة عموما والتجربة الأندلسية خصوصا: "تلك الحضارة المورسكية البارعة بإسبانيا، المتّسمة بروح شديدة القرب منا، والمتحدّثة بمعانينا وبأذواقنا أكثر حتّى من روما واليونان، تلك الحضارة التي دِيست بالأرجل، لا لشيء إلا لأنّها وليدة حسّ أرستقراطي… حسّ رجوليّ وشجاع، لأنّها قالت نعم للحياة، فضلا عمّا بها من رهافة حسّ أضفتها عليها الحياة المورسكية… لقد حاربها الصلييون وقد كان الأولى بهم أن يسجدوا لها في التّراب، تلك الحضارة التي لو قُورنت بقرننا السادس، لَبَدَا هذا الأخير أمامها فقيرا ومتخلّفا…"[31]
ب- وبالمعنى الثاني نُنصف حقّ كلّ جيل في أن يتجاوز القائمَ باحثا عن الأمثل. ذلك تأويل ما قاله أبو حنيفة قديما: "فإذا بلغ الأمر فلانا وفلانا، فهم رجال ونحن رجال…"
وتأويل قول ابن القيّم: "فصل في تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"[32]، ثم يخرج على هذه القاعدة جملة من القضايا والفتاوى منها:
* شروط إنكار المنكر.
* النهي عن قطع الأيدي في الغزو.
* سقوط الحد عن التائب.
* سقوط حد السرقة أيام المجاعة.
* صدقة الفطر حسب قوت المخرجين.
* لا يتعين في المصراة ردّ صاع من تمر.
* طواف الحائض بالبيت.
* جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد.
* موجبات الأيمان والأقارير والنذور.
* طلاق الغضبان.
* اليمين بالطلاق والعتاق.
* تأجيل جزء من المهر وحكم المؤجل.
* شرط الواقف ليس بمنزلة نص الشارع…
وأخيرا… وقبل أن أضع عصا الترحال في هذه المسألة أقول بأن التفكير في الإسلام هو الضمين لأن يستمر التفكير بالإسلام فعلا وأداء، لأنه هو الذي يعطيه حيويته ومعناه… وهو في الوقت ذاته الضمين لأن يثمر التفكير بالإسلام الثمرة المرجوّة ويؤتي أكله كلّ حينٍ بعيدا عن السلبية والتنطع والانبتات، لأنّه يغسله في كلّ مرة بماء الحقّ… ويعرضه على شمس التنقيح والمراجعة قصد إدراك السعادة والرحمة المنشودة للجميع… في الدنيا وفي الآخرة…
* رياض الجوادي: دكتور في المناهج وطرق التدريس. خبير في التدريب (التكوين) والجودة وتطوير المناهج
الهوامش:
[1]عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم: 63
[2] ابن الجوزي: زاد المسير: 4/67
[3] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن: 2/195
[4]الزمخشري: الكشاف: 1/151
[5] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن: 2/195
[6] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن: 2/195
[7] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 13/311
[8] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن: 11/137
[9] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 13/311
[10] أبو حيان الأندلسي: تفسير البحر المحيط: 7/361
[11]لعلّه السلطان جلال الدين محمد أكبر سلطان هندستان، عاش في القرن الحادي عشر للهجرة، وقد مدحه الشيخ أبو الفيض بن المبارك الهندي (954-1004 هـ) في نظم بالفارسية. (كشف الظنون: 2/1978)
[12] أمارتيا صن: التنمية حرّية: 282-283
[13] خَفَرَ به خَفْراً وخُفُوراً: نَقَصَ عَهْدَه وخاسَ به وغَدَرَه… ويقال: أخْفَرَ الذِّمّة إذا لم يَفِ بِها وانْتَهَكَهَا. الزبيدي: تاج العروس: 1/2781
[14]محمد الطاهر ابن عاشور: أصول النظام الاجتماعي في الإسلام: 212
[15]فرقة من المشبهة، وهم أتباع أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني (ت: 255)
[16]يقصد بيت المقدس
[17]أي يحفرون الأرض ويحرثونها
[18]ابن العربي: قانون التأويل: 96
[19] أحمد بن الخوجة: في التسامح وأهل الذمة: جريدة الجوانب – السنة السادسة – العدد الصادر في يوم الأربعاء 10 محرم سنة 1294، 24 جانفي 1877
[20]يعني الغزالي، والدليل الصريح يأتي سريعا عند حديثه عن كتاب "معيار العلم" مدار الموقف
[21] الكتاب "معيار العلم" وهو أحد كتب الغزالي المنطقية اعتنى به كثيرون أمثال سليمان دنيا وأحمد شمس الدين، طبع أكثر من طبعة من ذلك طبعة دار الكتب العلمية سنة 1990.
[22] القانون : 340 - 341
[23] العواصم : 106
[24] هو محمد بن الطيب بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني البصري المالكي، رأس المتكلمين في عصره، صنف التصانيف الشهيرة كشرح الإبانة والتقريب والإرشاد وإعجاز القرآن، توفي سنة 403 هـ. انظر شجرة النور الزكية: 92.
[25] موافقة صريح المعقول لصريح المنقول: 1/3، وانظر ابن خلدون: المقدمة: 326 - 327
[26] Emile Durkheim: Education et sociologie:102
[27] الترمذي: الجامع الصحيح: 7/329
[28] ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية:13-14
[29] جودت السعيد: اقرأ وربك الأكرم: 74-75
[30] انظر ص 129
[31] Friedrich Nietzsche: L’Antéchrist: 85
[32] إعلام الموقعين: 3/3
[33] القانون : 347، سراج المريدين : 59/ب
[34] م.ن
[35] المقدمة : 4/1362 - 1363
[36] ابن القيم: الطرق الحكمية: 13
[37] لا اقصد بأنه سمع منه مباشرة، ولا بأنّه قصده بالردّ، وإنّما عنيت في كلّ مرّة الرأي وما يقابله.
[38] الرسالة: 477
[39] فصول مختارة في أصول الفقه للقاضي عبد الوهاب: ملحق بـ»المقدمة في الأصول «لابن القصار: 305
[40] الموطأ : كتاب البيوع : باب بيع الخيار : 2/666
البخاري : في البيوع : باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا : 3/84
مسلم : في البيوع : باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين
[41] القبس : 2/844-845
[42] القاضي أبو يوسف: كتاب الخراج: 34
[43] توبي أ. هفّ: فجر العلم الحديث: 70
المصدر: رياض الجوادي
نشرت فى 17 يناير 2011
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,879,537