القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعني أنّه يعادل كتاباً من 300 صفحة تقريباً. ومثل هذا الحجم لا يتضمن ، في العادة، الكثير من المعلومات والمعارف والخبرات. وعلى الرغم من ذلك فقد أحدث القرآن الكريم تغييراً هائلاً وجذرياً في مسيرة البشرية الفكرية والسلوكية، مما يجعلنا نتساءل عن سر الانطلاقة الفكرية التي حدثت بعد نزوله. وظاهر الأمر أنّ السر لا يكمن في الكم الهائل من المعلومات، لأنّ مقدار 300 صفحة لا يكفي في العادة لإعطاء إلا القليل من المعلومات. والذي نراه أنّ السّر قد يكمن في المنهجية التي يكتسبها كل من يتدبر القرآن الكريم.
عند تَصفُّح أي كتاب نجده في الغالب يتسلسل في الفكرة والمعلومة من البداية حتى النهاية، ويرجع هذا الأمر إلى رغبة الكاتب في إعطاء القارئ المعلومات والخبرات. ولكن من يتصفّح القرآن الكريم يلاحظ أنّ اكتشاف التسلسل يحتاج إلى تفكر وتدبر. من هنا نجد أنّ غير العرب يشعرون عند قراءة ترجمة القرآن الكريم بأنه غير مترابط في كثير من المواقع. ويرجع هذا إلى أنّ القرآن الكريم يخالف في صياغته مألوف البشر، ثمّ إنّ كلماته المعدودة تحمل المعاني غير المحدودة. ولا ننسى أنّ إعجازه بالدرجة الأولى يرجع إلى لغته، وبيانه وإيجازه…وأنّ فهمه يحتاج إلى تدبر. ويلحظ أنّ من يعتاد تدبره تنشأ لديه منهجيّة في التفكير والاستنباط. وإذا وجدت هذه المنهجيّة أمكن أن يوجد الإنسان المبدع. وكل من يتعمق في تدبّر القرآن الكريم ودراسته يلمس الترابط بين معاني كلماته، وجُمله، وآياته، بل وسوره. ولا يزال علماء التفسير يشعرون بحاجتهم إلى التعمق أكثر من أجل إبصار معالم البنيان المحكم للألفاظ والجمل القرآنية.
الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي يلاحظ أنّ ظهور علم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، وعلم الكلام، وعلم النحو والصرف، كل ذلك كان قبل ظهور علوم مثل؛ الطب، والصيدلة، والكيمياء، والبصريات…وغيرها من العلوم. من هنا فقد ظهر العلماء والفقهاء واللغويون من أمثال مالك، والشافعي، والخليل بن أحمد، قبل ظهور الرازي، وابن سينا، وجابر بن حيّان، وغيرهم. وهذا أمر بدهي؛ فعلم أصول الفقه هو علم في منهجيّة الاجتهاد والاستنباط. وعلم أصول الحديث هو علم في منهجية البحث التاريخي. وعلم النحو هو علم قائم على منهج الاستقراء. وعلم الكلام هو الأساس الفلسفي للفكر الإسلامي.
فيما بعد أدّى التطور في منهجيّة التفكير لدى المسلمين إلى ظهور العلوم المختلفة؛ فكانت البداية تتعلّق بالأسس المنهجيّة، وكانت الثمار تتمثّل بالعلوم المختلفة، ومنها العلوم الكونيّة. ويمكننا اليوم أن نقسّم تاريخ الفكر البشري إلى مرحلتين؛ مرحلة ما قبل الإسلام، ومرحلة ما بعد الإسلام، حيث تميّزت المرحلة الثانية بمنهجيّة مستمدة من القرآن الكريم، أدت إلى نهضة فكرية وعلمية هائلة أفرزت في النهاية الواقع العلمي المعاصر، حيث من المعلوم أنّ الغرب قد تتلمذ على المسلمين، وعلى وجه الخصوص في الأندلس وجامعاتها، إلى درجة أنّهم لم يعرفوا سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم من الفلاسفة الغربيين، إلا من خلال ترجمات علماء المسلمين.
إذا كان القرآن الكريم قد طوّر منهجيّة التفكير لدى الصحابة والتابعين وأتباعهم…فلماذا لا يؤثر اليوم في منهجيّة التفكير لدى كثير من المسلمين، والذين يتلونه صباح مساء؟!
للإجابة عن هذا التساؤل نقول: اللافت للانتباه أنّ الغالبية الساحقة ممن يقرأ القرآن الكريم اليوم لا تزيد على أن تتلوه بصوت مسموع، أو بشفاه متحركة، ويندر أن نجد من يقرؤه متدبراً لمعانيه، متفكراً في مُشكلاته؛ إذ لا تتشكّل منهجية التفكير لدينا إلا عند تسريح الفكر في معانيه، وتراكيبه، وأساليبه، وتصريفاته…
والدارس لتاريخ التفسير والفقه، ومناهج المفسرين والفقهاء، يدرك أنّ هذه المنهجية قد تجلّت لدى المفسرين والفقهاء المجتهدين؛ أي لدى الذين تعاملوا بعمق مع النص القرآني الكريم. وحتى يتحقق الأثر المنشود على مستوى مناهج التفكير، لا بد أن نضيف إلى تلاوة القرآن الكريم التدبّر، بل لا بد من تقديم التدبر على التلاوة، والفهم على الحفظ. ولا شك أنّ المتدبر الحافظ هو أقدر من غيره على النظر بشمول إلى القرآن الكريم، وهو الأقدر على تفسير القرآن بالقرآن، ثم هو الأقدر على الملاحظة والربط، إلا أنّ مداومة النظر في القرآن الكريم قد تغني عن الحفظ، مع إقرارنا وتأكيدنا أنّ الحفظ هو من مقاصد التربية القرآنية.
الصحابة والتابعون، رضوان الله عليهم، وهم أهل اللغة والبيان، عندما كانوا يتدبرون القرآن الكريم، فيشكل عليهم، يأخذ ذلك حظاً من تفكيرهم، ويلجأ بعضهم إلى بعض يتشاورون؛ فهذا معاوية، رضي الله عنه، يدخل عليه عبد الله بن عباس، فيقول معاوية: "لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك". ويعرض عليه آية من الآيات التي استشكلها، فيبيّنها عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما. وهذا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وفي أكثر من موقف، يجمع الصحابة ويناقش معهم معنى آية كريمة أو أكثر. أما اليوم فيكتفي الكثير من الناس بالرجوع إلى كتابٍ من كتب التفسير عند استشكال معنى آية من الآيات، ويندر أن يتمّ الرجوع إلى أكثر من كتاب في التفسير، ويندر أيضاً أن تتم مناقشة ذلك مع آخرين للتوصل إلى فهم أفضل. فلا عجب بعد ذلك أن لا تتشكل عند الكثيرين منا المنهجيّة المأمولة. في المقابل لا عجب أن يتأثر الصحابة والتابعون بالقرآن الكريم، ثم تتشكّل لديهم المنهجيّة في التفكير، فيظهر أثر ذلك فيما تحصّل من تطوّر سريع ومتصاعد على مستوى الفكر، والمعرفة، ومناهج البحث، والعلوم المختلفة، حتى بلغ كل ذلك أوجهُ في القرن الرابع الهجري.
ويجدر في هذا المقام أن نشير إلى تجربتنا في (ندوة نون)، حيث يُكلّف كل شخص من المشاركين في الندوة أن ينظر في عدد من كتب التفسير، ويتفكّر في معاني آيات معيّنة، ويكون ذلك في مدى أسبوع. فإذا كان عدد المشاركين عشرة أشخاص، مثلاً، فإنّ ذلك يعني أنّ المجموع قد اطلعوا على ما لا يقل عن ثلاثين تفسيراً. وقد يرجع الشخص الواحد إلى أكثر من عشرة تفاسير. وفي يوم الندوة تتم مناقشة الآيات الكريمة، ويكون التوقّف طويلاً عند الآيات التي تُشْكِل. ويتاح لكل شخصٍ أن يطرح آراءه ووجهات نظره التي تُناقش، فتُعزز أو تُفنّد. وقد لوحظ أنّه، وفي كل جلسة، تتجلى معانٍ، وتتفتح مغاليق، بل وتبرز إبداعات في الفهم نأمل أن يكون لها شأن في تفسير القرآن الكريم. والمراقب للندوة يلاحظ تميّز المشاركين فيها بمنهجيّة في الاستنباط والتفكير.
تؤكد مسيرة التفسير عبر القرون الماضية على حرص المفسرين على اتخاذ فهم السابقين أساساً في بناء فهمهم الخاص؛ فليس بإمكان أحد أن يستغني عن فهم السلف في التفسير لأسباب من أهمها:
أ- أنهم أهل اللغة، وعنهم أخذنا علومها .
ب- حرصهم على نقل ما صحّ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في تفسير القرآن الكريم، وكذلك ما صحّ عن الصحابة والتابعين.
قلنا إنّ عدد كلمات القرآن الكريم يزيد قليلاً عن 77 ألف كلمة، وهذا يعادل 300 صفحة. ويتضمن القرآن الكريم 114 سورة؛ منها السور الطويلة، والسور القصيرة. ولا تزيد أطول سورة عن 24 صفحه، في حال أنّ كل صفحة تتألف من 260 كلمة، في حين تتألف أقصر سورة من عشر كلمات. أما باقي السور فهي بين ذلك طولاً وقِصراً. وتتألف كل سورة من عدد من الآيات، وإذا عرفنا أنّ متوسط عدد كلمات الآية الواحدة هو 12.4 كلمة، وأنّ بعض الآيات تتكون من كلمة واحدة أو كلمتين، تبيّن لنا أنّ هذا الأسلوب يختلف عما اعتاده البشر في كتاباتهم. وقد يكون هذا المنهج في العرض من أسرار تأثير القرآن الكريم. والمتدبّر يلاحظ أنّ الآيات المكيّة غالباً ما تتسم بالقصر، في حين أنّ الآيات المدنية، إجمالاً، تتسم بالطول النسبيّ. ومعلوم أنّ التركيز في المرحلة المكيّة كان على الجانب العَقَديّ، وهذا يعني أنّ طرح العقيدة يحتاج إلى الأفكار المركّزة والسريعة، بعيداًَ عن التطويل والتفريع. وهذا يرشدنا إلى اعتماد أسلوب الشِّعار في الدعوة إلى الأفكار والعقائد، فذلك أسرع في تبليغ الفكرة وتعميمها، وأسهل تناولاً. أما أسلوب الفلاسفة، فلا يصلح إلا لفئة قليلة متخصصة. ومن ينظر في سورة الإخلاص، مثلاً، يلاحظ أنها شعار واضح، ورسالة سريعة وحاسمة، تجلجل بعقيدة التوحيد: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد". وهذا يرشدنا إلى المنهجيّة التي يجدر أن نتبعها عند مخاطبة عامّة الناس، وفي الدعوة إلى الفكرة والمبدأ، ويدعونا إلى الاستفادة من منهجيّة القرآن المكي والمدني، لتوظيفها في مخاطبة الناس، بحيث يكون لكل مقامٍ مقال .
في أكثر من مّرة أعرضنا عن شراء كتب نفيسة بسبب أسلوب العرض فيها؛ حيث السرد المتواصل، فلا تبويب، ولا فقرات، ولا علامات ترقيم... ولو عُرِضت علينا مثل هذه الكتب بالمجّان لترددنا في أخذها، لعِلمنا أنّها ستأخذ من مساحات رفوف المكتبة، ولعِلمنا بأن لا دافعيّة لدينا لقراءَتها، بل إنّ القراءة فيها ضرب من المعاناة. وقد تُفاجأ بعد حين بمثل هذا الكتاب وقد طُبع بثوب جديد، وقُسّم إلى فُصول وأبواب، وازدان بالعناوين الواضحة، والفقرات القصيرة، ولوّنت بعض العبارات الهامّة، ووضعت الفواصل والحدود بين الفصل والفصل، والباب والباب، والفقرة والفقرة، والجملة والجملة... نعم، فبإمكاننا الآن أن نركز على التفاصيل، وأن نُلمّ بكُلّ صغيرةٍ وكبيرة، فقد أصبح الوضوح نوعاً من الجمال الجذّاب، والمتعة الدافعة. فلا بُد من الفصل والتحديد، حتى يتسنّى للقارئ أن يركّز ويميّز. ألا ترى أنّ القرآن الكريم يتألّف من 114 سورة، وكل سورة هي عدد من الآيات؟! وكما أسلفنا لا يتجاوز عدد كلمات الآية الواحدة في المتوسط 12.4 كلمة. وهل من قبيل الصدفة أن تسمّى (السورة) سورة؛ فكلمة السورة تذكِّرُنا بالسُّور، الذي يفصل بين قطعة أرضٍ وأخرى، وبيتٍ وآخر. وهل من قبيل الصّدفة أن تسمّى (الآية) آية؛ فالكلمة تُذكرنا بالعلامة الواضحة، والتي يُشكّلُ وُضوحها دليلاً هو في النهاية حجّة وبرهان.
قلنا إنّ الكتّاب، في الغالب، يهدفون في كتاباتهم إلى تزويد الناس بمعلومات وخبرات جديدة، لذلك فهم يتسلسلون في الأفكار من البداية حتى النهاية، ومن ذلك تتسلسل الأبواب والفصول، ويكون ذلك واضحاً غاية الوضوح، وإلا عُدّ خللا وقصوراُ. وهذا أمر مفهوم في العمل الذي يُقصد به نقل المعلومة والخبرة. أمّا إذا أردنا الحث على التفكير والتدبّر، وخلق المنهجيّة السويّة في التفكير والبحث والاستنباط، فإن أسلوب العرض يجب عندها أن يختلف؛ فلا نعود بحاجة إلى التسلسل الواضح، بل نكون بحاجة إلى التسلسل الذي يجتهد القارئ في اكتشافه.
عند تدبر القرآن الكريم نقوم أولاً بتدبر الآية، فإذا فهمنا معانيها يصبح من السهل علينا بعد ذلك أن نربط بين آيةٍ و أخرى. وبعدها يفترض أن نلحظ أنّ آيات السورة جاءت في مجموعات، فإذا فُهمت معاني المجموعة الأولى، ثم فُهمت المجموعة الثانية، أمكن أن نربط بين معاني المجموعات. وبعد أن ننتهي من فهم سورة كآل عمران، مثلاً، نقوم بتدبر سورة النساء، فإذا فهمناها؛ كلمات وجُملاً، وآيات، ومجموعات، أصبح بإمكاننا أن نربطها جميعاً بسورة آل عمران التي تسبقها. ولا يسهل علينا أن نربطها بسورة المائدة، التي تليها، حتى نتدبر سورة المائدة أيضاً، وذلك في مستوى الكلمات، والجمل، والآيات والمجموعات؛ فكمال الفهم للسورة الأولى، و كمال الفهم للسورة الثانية، يؤدي إلى استكشاف الروابط والصلات بين السورتين، وهكذا... وتكون المفاجأة أن نكتشف أنّ القرآن يفسر القرآن، ويتجلّى لنا بناءاً متكاملاً متراصاً. وسيبقى الإنسان ينظر في تفاصيل هذا الكتاب العظيم في محاولتهِ لتصوّر البناء الكلي في صورة أفضل، كما يفعل وهو يحاول أن يفهم الكون.
نشرت فى 14 يناير 2011
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,878,233