1- مقدمة:
إن بزوغ مجتمع الخدمة Service Society في منتصف القرن الماضي، أسهم في تعميق أهمية الدَّور الذي تلعبه معرفةُ وخبرة وإبداع العاملين، في إضافة عنصر القيمة إلى المنظمة.
وقد باءت المحاولات المستمرة بعقد السبعينيات من القرن العشرين؛ لتحويل استثمارات المنظمة للعاملين فيها، إلى رأس مال يمكن التعبيرُ عنه بقيمة مادية في الميزانية العمومية - بالفشل؛ نتيجة لكثرة العقبات التي اعترضتْ هذه المحاولاتِ الجادةَ، وبدأ هذا الموضوع يحشد المزيد من الاهتمام في عقد التسعينيات، بعد سيادة تقنيات الاتصال والمعلومات (ICT).
إن توجُّه عمليات التجارة والأعمال نحو الارتكاز على نظم معلوماتية عملاقة، وتوظيف البيانات والمعلومات والمعرفة المتوفرة لدى العاملين، إلى حصيلة اقتصادية، ورأس مال مضاف إلى الميزانية العمومية للمنظمة - قد دعا مهندسي نظم المعلومات إلى التقاط جميع المفردات المعرفية الضمنية Implicit منها والجلية Explicit، وإيداعها في بيئة "ذاكرة مشتركة Corporate Memory" بواسطة الشبكات المحلية، وتطبيقات معلوماتية أخرى (Malhotra,2000a:23)، وبدأت الحاجة تنمو باتجاه تنمية وتطوير فهم اقتصادي سليم لرأس المال المعرفي، والذي بات يُطلَق عليه اصطلاح "الموجودات غير الملموسة Intangible Assets".
إن انتقال اقتصاديات بلدان العالم من عالم "الذرات"، الذي يمتاز بخصائص كمية ونوعية مميزة، ووجود فيزيائي يسود حياتنا الواقعية، إلى عالم "البتات Bits"، الذي يتألف من نبضات إلكترونية تنتقل بين عقد الشبكات المعلوماتية، في عالم افتراضي لا نستطيع الإمساك بمفرداته غير الملموسة، وتسود فيه أنشطة جمع المعلومات، وتوليد المعرفة، وإدارة النظم المعرفية التي تتحكم بكل صغيرة وكبيرة من حياتنا الجديدة، كل هذه الأمور مجتمعة باتتْ تحتم ضرورة التفكير برأس المال المعرفي والموجودات المعلوماتية بمنظور جديد، وضرورة تأسيس اقتصاد جديد يستطيع توفير أدوات ومعايير تصلح لقياس قيمتها.
لقد أصبح واضحًا أن أية معلومة إضافية تستثمر بصورة فعالة في عملية الإنتاج، تنتج زيادةً ملموسة في كفاءة الأداء، وتورث المنظمة قيمة إضافية ملموسة، من أجل هذا؛ فإن النجاحات التي تحققها الشركات المعلوماتية - مثل شركة مايكروسوفت - يمكن أن تعزى إلى حقيقة كون أية وحدة إضافية للمنتجات أو الخدمات المرتكزة إلى المعلومات Information-Based Product، سينتج عنها زيادة ملموسة بالعوائد.
وبرغم الدور الكبير الذي تلعبه الموجودات المرتكزة إلى المعرفة في تعميق الأداء الوطني، فلا تزال طائفة كبيرة من البلدان تغفل هذا الموضوع، وتعمد إلى تقييم أدائها بالرجوع إلى المؤشرات التقليدية لعملية الإنتاج، وتقتصر أدواتُ يومِنا هذا على نظم قياس تمتلك القدرة على حساب المعرفة الضمنية لدى القوى العاملة، وحقوق المعرفة العلمية، والماركات المسجلة، وبمعايير لا تتناسب مع الثورة بالمفاهيم التي جاءت بها المعلوماتية وتقنياتها.
ويمتاز عصرنا الراهن ببزوغ اقتصاديات المعرفة، التي ترتكز إلى صناعات تستمد جلَّ مواردها من المعرفة، وسيادة سلع وخدمات ذات طبيعة غير ملموسة، وتختلف في ماهيتها عن البضائع التي ألفنا استخدامها في الماضي القريب، ويمكن أن تعدَّ الموجودات المعلوماتية أو رأس المال المعرفي، الموجودات "الكامنة أو الخبيئة" في البلاد، والتي تشكل الأساس المتين لنموِّها وازدهارها، وتغذي عجلة التنمية بقوى إضافية، وتعد مصدر ثرائها، ومحرك الابتكار والإبداع الذي يمدها بالحيوية ويديم بقاءها.
2- أساليب قياس الموجودات المعرفية ورأس المال المعرفي:
يسعى العاملون في ميدان الاقتصاد والأعمال إلى الحصول على معايير ومقاييس لتحديد قيمة الموجودات المعرفية، وقياسها بأساليبَ كميةٍ، والتي ستذلل الطريق أمام الإدارات للسيطرة على الموارد غير الملموسة، وحسن إدارتها بشكل يضمن نجاح منظماتهم ومؤسساتهم، ويعمق رسوخها الاقتصادي.
ولكي نذلل عقبة التمييز بدقة بين الموجودات المعلوماتية ورأس المال المعرفي؛ سنبيح لأنفسنا دمج هذين المفهومين في بوتقة واحدة؛ لكي تسهل مهمة التعامل معها، وتصبح أساليب قياسها أكثر سهولة، وعليه "ستتحدد تخوم الموجودات المعرفية بالقيمة الكمونية الموجودة في عناصرها الأساسية، والتدفقات الكلية لرأس المال في المنظمة، والعلاقات والتغييرات الدؤوبة التي يمكن أن تُحدِث زيادةً في قيمة رأس المال ذاته، وتوظيف إمكانياته في مهام الأعمال الميدانية، وستتضمن موجودات المنظمة المعرفية التي لم تمرَّ بعمليات معالجة وتركيز، بالإضافة إلى الموجودات التي تولد الثروة، والتي تكون المعرفة العنصرَ الأساس الذي يشكل مادتها".
ويلاحظ المرء أن توظيف رأس المال المعرفي في التطبيقات الميدانية، هو الذي يمثل حجر الزاوية لعملية ترجمة قيمته الكامنة إلى موجودات مالية، أو كما ذهب ستيوارت إلى أن الذكاء يصبح في عداد الموجودات، عندما ينتج عنه نوع من الترتيب والبنى المنطقية للقدرات العقلية، عندما تطرح في بناء متماسك (مثل قواعد بيانات، أو قائمة مراسلات... إلخ)؛ وعندما يمكن الظفر بها بطريقة تمنحنا فرصة لوصفها، ومشاركتها، واستثمارها، وعندما يمكن توظيفها لأداء مهمةٍ ما لا يمكن أن نقوم بتنفيذها، ما دامت مبعثرة وغير مترابطة مع الواقع الملموس.
وعليه؛ ما لم تستثمر الموجودات المعلوماتية، ويتم تطبيقها بصورة صحيحة على أرض الواقع، فإنها لن تثمر أي مردود اقتصادي ملموس وَفْق مقاييس الأداء المالي؛ لأن هذه الموجودات - شأنها شأن رؤوس الأموال والمعدات - تكون موجودة، وذات قيمة مادية مثمرة، فقط عندما تكون قائمة ضمن مسار يدرك بوضوح ماذا يريد منها، وطبيعة الغاية التي يوظفها من أجلها.
لقد اقترحت جملة من النماذج والأساليب لقياس رأس المال المعرفي، ولكنا آثرنا أن نعرض الأنموذج الإسكندنافي Skandia Model، الذي وفَّر صورة واضحة المعالم ومتكاملة لكل من رأس المال المستثمر ورأس المال المعرفي، يحتوي هذا الأنموذج على خمسة عناصر، هي: رأس المال المعرفي، رأس مال السوق (ويرمز إليه برأس مال الزبون)، رأس مال التصنيع/ المعالجة، رأس المال البشري، ورأس مال التحديث والتطوير، وبينما يمثِّل رأس المال المستثمر تاريخ الشعب، وحجم إنجازات الماضي، فإن رأس المال المعرفي يعكس مقدار الاستثمارات الكامنة في هيكل الاقتصاد الوطني، والتي تعدُّ مادة للنمو والتطور المستقبلي.
تصف سلسلة القيمة لدى أيدفنسن عناصر قيمة السوق المختلفة على أساس الأنموذج الآتي:
قيمة السوق = رأس المال الاستثماري + رأس المال المعرفي.
إن المفتاح الحاسم للقيمة الوطنية الخبيئة، أو رأس المال المعرفي، تكمن في كلٍّ من رأس المال البشري، ورأس المال الهيكلي؛ لذا يمكن أن يصاغ أنموذجه كما يأتي:
رأس المال المعرفي = رأس المال البشري + رأس المال الهيكلي.
ولكي تزداد معرفتنا وتتعمق بتفاصيل هذا الأنموذج؛ سنعمد إلى توفير تعريفات مختصرة، توضح مكونات عناصر رأس المال المعرفي التي ينبني عليها هيكل هذا الأنموذج.
• رأس المال البشري Human Capital: ويتألف من الخبرة المتراكمة، والمهارة، والقدرة على الابتكار والإبداع، وقدرة أفراد الشعب على تحقيق المهام، ويتضمن القيم والثقافة والفلسفة التي قد بزغت على تربة الوطن، وتكمن في هذه المفردات: المعرفة، والحكمة، والخبرة، والحدس، وقدرة الفرد على إدراك المهام والأهداف الوطنية.
يعد رأس المال البشري من الخصائص التي يتسم بها أفراد المجتمع، ولا تقع في دائرة ملكية المنظمة أو الشعب.
• رأس المال الهيكلي Structural Capital: يعبِّر هذا النوع من رأس المال عن الموجودات المعرفية التي تبقى في دائرة المنظمة، عندما لا يؤخذ رأس المال البشري - والذي يعد من الخواص الفردية - بعين الاعتبار، ويتضمن رأس المال المؤسساتي Organizational Capital، ورأس مال الزبون Customer Capital (ويعرف أيضًا برأس مال السوق Market Capital)، وعلى النقيض من رأس المال البشري، فإن هذا النوع من رأس المال تمتلكه المنظمة أو الشعب، ولها القدرة على الاتجار به.
رأس المال الهيكلي = رأس مال السوق + رأس المال المؤسساتي.
• رأس مال السوق Market Capital: ضمنالسياق المعتمد في هذا الأنموذج، يمثل هذا العنصر من رأس المال المعرفي القيمة المطمورة في العلاقة القائمة بين المنظمة أو الشركة مع زبائنها، ويطلق عليها رأس مال الزبون، وبمنظور الموجودات المعرفية الوطنية يشار إليها كرأس مال السوق، الذي يدل على علاقات السوق والتجارة التي تنهض بها الدولة ضمن الأسواق العالمية مع الزبائن والمجهزين.
• رأس المال المؤسساتي Organizational Capital: ويتضمن الإمكانيات الوطنية المنتظمة في عتاد الحاسوب، والبرمجيات، وقواعد البيانات، والهياكل المؤسساتية، وحقوق المعرفة العلمية، والعلامات التجارية، وأية مواد أخرى تسهم في دعم إنتاجية الأفراد من خلال مشاركة المعرفة ونقلها، يتألف هذا النوع من رأس المال من عنصرين، هما: رأس مال التصنيع، ورأس مال التطوير والتحديث.
رأس المال المؤسساتي= رأس مال التصنيع + رأس مال التطوير والتحديث.
• رأس مال العمليات/ التصنيع Process Capital: وتشمل العمليات الوطنية، والأنشطة، والبنى التحتية الموظفة في عمليات: الإبداع، والمشاركة، ونشر المعرفة؛ لغرض الإسهام في تعميق إنتاجية العاملين بمختلف الميادين.
• رأس مال التحديث والتطوير Renewal and Development Capital: يعكس هذا الجزء من رأس المال المعرفي القدراتِ الوطنيةَ، والاستثمارات الفعلية للنمو المستقبلي، مثل أنشطة البحوثوالتطوير، وحقوق المعرفة العلمية، والعلامات التجارية، والشركات الجديدة التي تعدُّ المفتاح الأساس للقدرة التنافسية الوطنية المستقبلية.
وفي سياق تخمين رأس المال المعرفي الوطني، فإن رأس المال الاستثماري يعكس السجل الوطني والإنجازات المتحققة في الماضي، بالمقابل فإن رأس مال العمليات ورأس مال السوق يشكلان العنصرين اللذين ترتكز عليهما عمليات المجتمع بالوقت الراهن، ويحدد رأس مال التحديث والتطوير كيفية الإعداد للمستقبل، أما رأس المال البشري، فيستقر في الجزء الحيوي من رأس المال المعرفي، مطمورًا في القدرات، والخبرات، والحكمة المتوفرة لدى الكوادر البشرية الوطنية، والتي تعكس بوضوح الطاقات المطلوبة التي ستوفر فرصة توليد عنصر القيمة من جميع عناصر رأس المال المعرفي المتاحة.
المصدر: حسن مظفر الرزّو
نشرت فى 15 نوفمبر 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,757,685