الإتصالات الإدارية :
مقدمة :
الإتصالات بمعناها العام هي المشاركة و النقل مع الآخرين و هي من الأهمية بمكان بحيث لا غنى عنها لأي نشاط تنظيمي فردي أو جماعي. و تعتبر الاتصالات في أي منظمة من المنظمات همزة الوصل الرابطة لهذه المنظمات لما تقوم به من مهام ووظائف تيسر العمل الإداري والفني . فالاتصالات الإدارية أساسية في أي منظمة مهما كان حجمها و أي قصور في نظام الاتصالات من شأنه أن يعطل أو يؤخر سير الإدارات الأخرى . فقرارات المنظمة و أهدافها و توجهاتها و خططها تتعلق بعملية الاتصالات. و هي الجسر الموصل بينها و بين العاملين فيها و بينهم و بين العالم الخارجي.
1 - مفهوم الاتصال :
أورد معجم المصطلحات الإدارية تعريفًا للاتصال بأنه "عبارة عن تبادل الأفكار و الآراء و المعلومات بين الأفراد بواسطة الوسائل الشفهية و غير الشفهية و ذلك للتأثير على السلوك و تحقيق النتائج المطلوبة". و عرفـه الصّحاف في معجمه بأنه "إثارة رد فعل أو تحريك السلوك لدى الطرف الآخر, و يعتبر الاتصال مقومًا أساسيًا لوجود الإنسان و ينشأ من خلال عملية خلق و تبادل رسائل معينة في شبكة من العلاقات التي تعتمد على بعضها البعض بغرض تحقيق أمرٍ في ظل البيئة المحيطة . من هذه المفاهيم المتعددة للاتصال يتضح لنا أن الاتصال أحد المفاهيم النسبية التي تشمل أغلب المجالات المتعددة و لا يوجد تعريف محدد و شامل له. أيضًا نرى أن الاتصال وسيلة أو طريقة لإيصال معلومات أو أفكار معينة للطرف الآخر و ذلك بهدف إقناعه بفكرة ما بعدة وسائل منها ما هو لفظي و غير لفظي و منها ما هو كتابي أو الكتروني أيضًا. مفهوم الاتصالات الإدارية: أورد الهواري تعريف الاتصالات الإدارية بأنها "عملية يتم عن طريقها إيصال معلومات (من أي نوع) من أي عضو في الهيكل التنظيمي إلى عضو آخر بقصد إحداث تغيير. و هي كما يقول حنفي نقل المعلومات و الأفكار بصفة مستمرة بين الأفراد و بين بعضهم البعض في كل المستويات التنظيمية بين المديرين التنظيمين و بين الإدارة العليا و بين الموظفين و المشرفين أي هي شبكة تربط كل أعضاء التنظيم. أما عامر فعرّفها بأنها ظاهرة تؤثر و تتأثر بمكونات السلوك الفردي و تشتمل على نقل المعاني المختلفة باستخدام لغة مفهومة من خلال قنوات معينة في التنظيم. و عرّفها العلاق بأنها تدفق التعليمات و التوجيهات و القرارات من جهة الإدارة إلى المرؤوسين و تلقي البيانات و المعلومات منهم في صورة تقارير أو مذكرات أو اقتراحات أو غيرها بهدف اتخاذ قرار معين. و أشار الصباب و آخرون أنها تعني الربط بين مختلف الأجهزة الفرعية و التنظيم الكلي للمنظمة بهدف نقل المعلومات بين الأفراد و الجماعات للتأثير على سلوكهم و توجيههم نحو الهدف المطلوب. من خلال استعراض المفاهيم المتعددة لعملية الاتصالات الإدارية يتضح لنا أنها العملية التي تهتم بإيصال المعلومات الهامة و القرارات لجميع أفراد المنظمة عن طريق متابعة وصول المعلومات و تذليل عقبات وصولها باستخدام وسائل شفهية أو كتابية أو الكترونية بالإضافة إلى تقييد و متابعة أي اتصال من خارج المنظمة أي المحافظة على طرق دخول و خروج المعلومات بوسائل اتصالية منظمة.
2 - أهمية الاتصالات الإدارية :
إذا كان الاتصال هامًا في حياة الفرد العادي فإنه لا يقل أهمية في حياة المنظمات صغيرها و كبيرها. إن معظم مشكلاتنا اليوم كما يقول عبد الباقي ليست في عالم الأشياء و لكن في عالم الأشخاص و إن أكبر فشل للإنسان كان و ما يزال هو عدم القدرة على التعاون مع الآخرين و فهمه إنها مشكلة اتصال. لذا يعتبر الأكاديميون كما أوردا جرينبرج و بارون أن الاتصالات هي الغراء و الصمغ الاجتماعي الذي يستخدم لتحقيق التماسك بين أجزاء المنظمة و تحسين مستواها. يقول تشستر برنارد Cheaster Bernard رئيس شركة نيوجرسي بل للهاتف New Jersey Bell Telephone الأسبق كما أشارا جرينبرج و بارون إن هيكل المنظمة و انتشارها و مجال عملها تتحدد بواسطة أدوات و أساليب الاتصال بها. و لا يرى جرينبرج و بارون أن هناك مبالغة في عبارة تشستر برنارد إذا ما علمنا أن مديري الشركات يقضون 80% من أوقات عملهم في عملية الاتصالات. و يمكن قياس مدى أهمية الاتصالات عندما يتضح لنا أن التجارب أثبتت كما يقول عبد الباقي أن عدالة الإدارة في معاملة موظفيها ليس كافيًا في حد ذاته إذا لم يصحب ذلك شرح وافي و تفسير كامل لتوجهاتها مما يقطع الطريق على مروجي الشائعات أي القدرة على تحقيق اتصال فعّال. أيضًا كما أوضح حمود إن التطور و النمو الكبير في المنظمات و اتساع أنشطتها و تزايد أحجامها و بالتالي ابتعاد قيادات الإدارات العليا عن الإدارات التنفيذية أسهم بشكل كبير في زيادة الاهتمام بالاتصالات. أيضًا يقول قوته و دياب "إن العامل الأساسي الذي يجعل الاتصالات الإدارية تختلف عن أنواع الاتصالات الأخرى هو أن نجاح أو فشل الاتصالات الإدارية يؤثر على إنتاجية المنظمة"(41). لذا لا يمكننا كما أورد الهواري تصور أن هناك تنظيم أو إدارة دون اتصال و بدون اتصال لا يوجد هناك تنظيم. لذلك تقول المنجي أن للاتصال دور في جميع العمليات الإدارية من تنظيم و تخطيط و رقابة وتنسيق و اتخاذ قرار و لا عجب أن تعود أغلب المشكلات في المنظمات إلى سوء ممارسة الاتصالات الإدارية بين الإدارة و العاملين. من خلال ما تقدم يتضح لنا أهمية الاتصال الإدارية في المنظمات و بالأخص مع كبر حجم المنظمات و بعدها عن بعضها البعض (مثل الشركات الإقليمية و المتعددة الجنسيات) فالاتصال هو عصب العمليات الإدارية و متطلب حتمي لأي تنظيم. أيضًا يتضح لنا أن الاتصالات الإدارية لا بد لها من قوانين و مبادئ تحكمها لتسييرها بفعالية في الاتجاه الصحيح و تحقيق فاعليتها. أيضًا يتضح لنا أنه متى ما كان الاتصال واضحًا و يسّهل انسياب المعلومات داخل قنوات التنظيم فإن ذلك يساعد على كفاءة الأداء في التنظيم.
3 - عناصر عملية الاتصالات الإدارية :
لكي تتم عملية الاتصالات الإدارية لا بد من توافر عدة عناصر أساسية و هي:
أ - المرسل أو المصدر: وهو ذلك الشخص الذي لديه الرغبة في مشاركة الآخرين معلوماته أو أفكاره. و قد دلت الدراسات كما أشارا آل علي و الموسوي أن مصادر الاتصال الموثوق بها لها قدرة أكبر على التأثير من المصادر الأخرى و أن محتويات الرسالة غالبًا ما تُفسر بناءً على مَنْ هو مرسلها.
ب - الرسالة : وتعني الفكرة أو المعلومة من المرسل إلى هؤلاء الذين يريد أن يشاركهم أفكاره أو معلوماته.
ج - قناة الاتصال : وهي الوسيلة التي تنتقل بها الرسالة بين المرسل و المستقبل.
د - المستقبل : وهو ذلك الشخص الذي سوف يستلم الرسالة و قد يكون فرداً أو جماعة قليلة أو جمهور كبير في المنظمة.
هـ - التغذية الراجعة : وهي رد الفعل الذي يحدث لدى المستقبل نتيجة عملية الاتصال مبينًا هل حققت الهدف المطلوب أم لا؟ وهو المتمم اللازم لعملية الاتصالات بين المستقبل والمرسل.
فعملية الاتصال لا تنتهي باستلام الرسالة بل يجب التأكد من وصولها و فهمها بالشكل الصحيح لأن عملية قياس ردود الفعل تعتبر أهم عنصر في عملية الاتصال.
4 - أهداف الاتصالات الإدارية :
تختلف أهداف عملية الاتصالات الإدارية تبعًا لطبيعة المنظمة و أهدافها الرئيسية إلا أن هناك أهداف أساسية في أغلب عمليات الاتصال و هي:
ا - الإقناع : إن الهدف من أي عملية اتصالية ليس إيصال المعلومات و الأفكار كما يتبادر إلى الذهن فقط إنما الهدف هو الإقناع فأي عملية اتصالية لا بد أن تهدف إلى الإقناع بأمر ما بطريقة أو بأخرى. و لذلك فإن كثيرًا من القادة في المؤسسات الذين يريدون أن يقدموا أفكار جديدة يستخدمون الاتصال لإقناع الناس بإتباع هذه الأفكار.
ب - اطلاع المرؤوسين على تعليمات الأهداف المطلوب تنفيذها و التعرّف على مدى التنفيذ و المعوقات بالإضافة إلى تسهيل عملية اتخاذ القرار.
ج - مساعدة الإدارة في القيام بأعمالها الرئيسة ، مثل وضع السياسات و الخطط و تقسيم العمل و التوفيق بين جهود العاملين.
د - توفير المناخ الايجابي الذي يرغّب العاملين في الانجاز و ينظم قيادة و توجيه الموارد البشرية و الفنية و المالية.
هـ - ربط المديريات و الدوائر و الأقسام مع بعضها و تنسيق وصول و تدفق المعلومات من أجل تحقيق الأهداف.
من خلال ما تقدم يتضح لنا ارتباط أهداف الاتصالات الإدارية بجميع مراحل و وظائف المنظمات و خططها و أهدافها أيضًا. لذا كان لزامًا على المنظمات باختلاف أنواعها و أحجامها أن تهتم بمقومات و متطلبات الاتصالات الإدارية لكي يحقق الاتصال أهدافه في تلك المنظمات و تحقق المنظمات أهدافها.
إن الاتصال فن له مقومات و مبادئ ، وحتى يكون الإتصال فعالاً يجب أن يتصف بما يلي :
أ - أن تحتوي العملية على معلومات جديدة و إلا كانت مجرد اتصالات مزعجة لا طائل منها .
ب - تحديد الهدف المُخطط له من عملية الاتصال . ما الذي نريد توصيله و إلى مَنْ نريد توصيله لكي نستخدم الوسيلة و المدخل المناسب.
ج - إجادة فن الاستماع : فالاستماع الجيد سيساعد على تدفق المعلومات و توفير مناخ الثقة بين الطرفين المدير و المرؤوس.
د - سلامة تنظيم سياسة الإتصالات .
هـ - الوضوح و التوقيت المناسب باستخدام الوسيلة المناسبة .
و - أخذ المعلومات من مصدرها المباشر و فهم الرسائل بموضوعية و فتح قنوات و طرق اتصاليه مباشرة بين القائد المنصت و بين مرؤوسيه.
ز - المتابعة عن طريق التغذية الراجعة للتعرف على وجهة نظر الطرف الثاني و مدى تمكّنه من فهم المعلومات بطريقة صحيحة.
6 - قنوات تدفق الاتصالات الإدارية :
وهي أربعة قنوات أساسية :
ا - الاتصالات من أعلى لأسفل : أي من الإدارة العليا للدنيا حيث تصل التوجيهات والقرارات والمعلومات من المدير إلى المرؤوسين. و تعتبر الاجتماعات الرسمية و القرارات المفاجئة و نشرات أهداف المنظمة من طرق الاتصال من أعلى لأسفل. فهذا النوع من الاتصالات الإدارية أساسي في أي تنظيم.
ب - الاتصالات من أسفل لأعلى : أي من الإدارة الدنيا للعليا و مثال هذه الاتصالات تقارير الأداء التي يكتبها المشرفين إلى الإدارة العليا و يهدف هذا الاتصال إلى زيادة فرصة مشاركة العاملين مع الإدارة و إعطائهم فرصة لتوصيل صوتهم للإدارات العليا.
ج - الاتصالات الأفقية : و يتم هذا النوع بين العاملين في الإدارات والأقسام الأخرى داخل المنظمة التي لها نفس المستوى و هو شائع و ضروري في عملية التنسيق الضرورية للمنظمة.
د - الاتصالات المحورية : و يشمل هذا النوع من الاتصالات العلاقات القائمة بين المدراء و العاملين في إدارات أخرى غير تابعة تنظيميًا لهم. أي انه اتصال يأخذ شكلاً غير رسمي تنظيمي .
هناك عدة طرق للاتصالات الإدارية داخل المنظمات منها :
أ - الاتصال الشفهي (اللفظي) : وهو ذلك الاتصال الذي يستخدم الألفاظ المنطوقة المشتملة على كلمات أو جُمل أو عبارات دالة على معنى مفيد و تتكون منها الفكرة أو الموضوع الذي يريد المدير نقله للسامعين.و من صور هذا الاتصال المحادثات و الندوات و الاجتماعات و المقابلات و البرامج التدريبية و يشمل أيضًا هذا النوع من الاتصال استخدام الهاتف في المنظمات.
ب - الاتصال الكتابي : وهو الاتصال الذي يستخدم كتابة الأفكار و المعلومات إما باستخدام الكلمات أو الرموز و توزيعها للعاملين في المنظمة. و الاتصال الكتابي سلاح ذو حدين فقد يكون ايجابيًا إذا اتسم بالدقة التعبيرية و الوضوح و بالتالي يمكن اعتماده كوثيقة رسمية قانونية و قد يكون سلبيًا إذا لم يكن بالدقة المطلوبة و يكون عبء على المنظمة لحفظه و تكديسه في المخازن. و من صور هذا النوع من الاتصال التقارير و الأوامر و التعليمات و كتيبات المنظمة و سياسات و لوائح المنظمة و دليل قوانين العاملين و غيره.
ج - الاتصالات الالكترونية : وهي القرارات أو المعلومات التي تصل للعاملين عن طريق التقنيات الحديثة الانترانت أو الانترنت أو الفاكس. فالاتصالات الالكترونية من الممكن أن تعزز نمو و فاعلية الاتصال بين العاملين إلا أنها من الممكن أن تُـحاط بعدم الفهم الصحيح إذا لم تكتب بطريقة واضحة مثل الاتصالات الكتابية. و نرى أنه غالبًا ما تكثر الاتصالات الالكترونية مع المنظمات الافتراضية التي تستخدم التجارة الالكترونية لتحقيق الاتصال مع العاملين و المديرين و العملاء.
د - الاتصالات غير اللفظية هي الاتصالات التي لا تستخدم الكلمات للدلالة على معانيها و إنما لغة غير لفظية مثل الإشارات. تعد مساحة الاتصالات غير اللفظية واسعة جدًا فتعابير الوجه و لغة الجسد تعطي انطباعات بحسب مغزاها ، فقد يستعمل المدير قبضة يده و يضربها على الطاولة للتأكيد على جدية الأمر. كما أن إبتسامة أحد المديرين لموظفه و ربته على ظهره تُـعد نوعا من الاتصال غير اللفظي للتعبير عن عمل جيد .
و ليس هناك ما يميز طريقة من طرق الاتصال هذه عن الأخرى إلا أن الموقف هو الذي يحدد ذلك فقد يكون الاتصال الشفهي فعّال في الاتصالات التي تحتاج لشرح وافي و قد يكون الأسلوب الكتابي فعّال في الاتصالات الروتينية.
8 - معوقات الاتصالات الإدارية :
إن إدراك المديرين لمعوقات الاتصالات الإدارية يسهّـل عليهم معرفة هذه المعوقات و بالتالي تجاوزها لكي يتم تحقيق الاتصال الفعّال و من هذه المعوقات الآتي:
أ - معوقات شخصية : مثل عدم القدرة على التعبير الجيد و اختيار ألفاظ مبهمة و غلبة الغموض و عدم إصغاء العاملين و اختلاف قدراتهم و مداركهم العقلية نتيجة الفروق الفردية.
ب - معوقات تنظيمية : مثل كبر حجم نطاق الإشراف وكثرة المستويات الإدارية التي تنقل الرسالة مما يؤثر على وصول المعلومات بطريقة صحيحة , أضف إلى ذلك عدم وجود هيكل تنظيمي يؤدي إلى وضوح الاختصاصات و الصلاحيات ، أيضًا غياب السياسة الواضحة لنظام الاتصالات في المنظمة التي توضح أهداف الاتصالات الإدارية في المنظمة و تساعد على تحديد السلطة و الصلاحيات و المسؤوليات و تمنع التداخل بين الوحدات التنظيمية.
ج - معوقات بيئية : كدرجة الحرارة أو الإضاءة أو سوء التهوية ، كم أن وجود الضوضاء تساعد على إعاقة الاتصال الفعّال . وإن الحيز المكاني الضيق و بالأخص في الدوائر الحكومية مع كثرة المراجعين يعرقل الاتصال الفعّال و يؤدي للتوتر .
د - معوقات نفسية اجتماعية : مثل كون طرفي الاتصال من مجتمعات مختلفة .
9 - إسهامات الدين الإسلامي في رفع فعالية نظام الإتصالات :
اهتمَّتِ الحضارة الإسلامية بالبريد ونظم الاتصالات وأَوْلَتْهُ عناية كبيرة، وقد كان حينما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية ، وازدادت الحاجة إلى إنشاء نظام إداري يضمن وصول الرسائل بين عاصمة الخلافة ومدن دار الإسلام ، وخاصة المراسلات بين الخليفة والولاة، فتطوَّر ذلك النظام وأصبح مؤسسة كبرى لها دورها ومكانتها في الدولة الإسلامية، كما أصبح شاهدًا على مدى ما وصلت إليه حضارة الإسلام من تقدُّم ورقي.
وكان الغرض من البريد في صدر الإسلام توصيل أوامر الخلفاء إلى ولاتهم وعمالهم، وأخبار الولاة والعمال إلى الخلفاء، ثم تَوَسَّعُوا فيه حتى جعلوا صاحبه عينًا للخليفة؛ فهو كما ينقل أمره إلى ولاته وعماله، كان رقيبًا عليهم، ينقل أخبارهم إليه ، وكان البريد مقصورًا على أغراض الدولة، ثم أُبِيحَ فيما بعدُ للرعية أن ينتفعوا به في نقل رسائلهم .
أ - البريد في العهد النبوي :
إن نظام البريد كان سُنَّة قديمة، وأسلوبًا مُتَّبَعًا لدى الفرس والرومان، وكان العرب قبل الإسلام كانوا على دراية به، فالبديهي أن يكون البريد معروفًا منذ عهد الرسول ؛ إذ كان يتبادل الرسائل والسفارات مع الملوك والأمراء من أجل دعوتهم إلى الإسلام، وبلغ من اهتمامه بذلك أنه أمر عُمَّاله أن يُرْسِلوا له البريد مع أشخاص يتوافر فيهم حسن الوجه والاسم، كما كان حريصًا على توافر تلك الصفات فيمن بعثهم إلى الملوك المعاصرين له ، مثل كسرى ملك الفرس، وقيصر الروم، وإلى المقوقس حاكم مصر، وإلى النجاشي ملك الحبشة ، وغيرهم؛ وذلك لعلمه بأن المبعوث هو لسان مُتَرْجِمٌ لرغباته وآرائه، وإذا لم يكن كذلك خسر مهمَّتَه، ورجع على مُرْسِله بالخسران.
وكان من مظاهر اهتمام النبي بالبريد أنه اتخذ الخاتم ؛ لأن العجم كانوا لا يقبلون كتابًا إلاَّ إذا كان مختومًا؛ لأنهم يَرَوْنَ ختم الكتب فيه تعظيم للمكتوب إليه.
ب - البريد في العصر الأموي :
ولما قامت الدولة الأموية جعل معاوية بن أبي سفيان لديوان البريد اختصاصات، وقواعد مُقَنَّنَة من أهمِّهَا الإشراف على كل شئون الدولة، وبذلك كان معاوية أول من أدخل نظام البريد في الإسلام على هذا النحو المُقَنَّن؛ حيث وُضِعَ ديوانٌ للخاتم لتنظيم البريدِ وإحضارِ عمال من الروم والفرس لهذا الغرض.
ثم جاء عبد الملك بن مروان فأدخل على ديوان البريد العديد من التحسينات؛ ليصبح أداة مهمَّة في إدارة شئون الدولة، وذلك مثل مسح الأرض، ووضع حدود على كل مساحة، فضلاً عن أربعة طرق تمتدُّ من القدس إلى دمشق، وفي عهد الوليد بن عبد الملك زاد اتساع شبكة البريد لتخدم التقدُّم العمراني والاقتصادي الذي كان ينشده, ووفَّر لها من الخيل والإبل العدد الكبير, وأنشأ لها السكك (المحطات) في كل أنحاء الدولة, وبلغ من أهمية البريد في عهده أن حُمِلَ على ظهور دوابِّه الفسيفساء (الفصّ المُذَهَّب) من القسطنطينية إلى دمشق، حتى صُفِّح منه حيطان المسجد الجامع بها، ومساجد بمكة والمدينة والقدس.
وكذلك اهتمَّ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بتنظيم البريد ؛ حيث أنشأ المحطات والخانات, وأقام أحواض السقيا، ومخازن العلف للدواب في كل المسالك والطرق التي يُحْمَلُ عَبْرها البريد، وقد بلغ من وَرَعِ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أنَّه كان لا يحمل على البريد إلاَّ في حاجة المسلمين؛ لأنَّ البريد كان مخصَّصًا لخدمة الدولة، وكتب إلى عامل له يشتري له عسلاً، ولا يُسخَّرُ فِيه شيئًا، وأن عامله حمله على مركبة من البريد، فلمَّا أتى قال: على ما حمله؟ قالوا: على البريد. فأمر بذلك العسل، فبِيعَ، وجعل ثمنه في بيت مال المسلمين، وقال: أفسدتَ علينا عسلك .
ج - البريد في العصر العباسي :
أما في العصر العباسي فيُسْتَشَفُّ من المصادر التاريخية أن خلفاء هذا العصر قد اعتنوا بالبريد عناية كبيرة، واعتمدوا عليه كثيرًا في إدارة شئون دولتهم، وكان أبو جعفر المنصور يقول: "ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعفَّ منهم. قيل له: يا أمير المؤمنين، مَنْ هم؟ قال: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلاَّ بهم، كما أن السرير لا يصلح إلاَّ بأربع قوائم إن نقصت واحدة وَهِيَ (أي ضَعُف): أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية؛ فإني عن ظلمها غني، والرابع - ثم عضَّ على أصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه آه. قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحَّة .
وقد أحاط هارون الرشيد دولته بشبكة دقيقة من خطوط البريد؛ ليتوخَّى السرعة في تلقِّي الأخبار، وإصدار الأوامر إلى وُلاَتِهِ، وقُسِّمَتْ هذه الخطوط إلى محطات، وفي كل محطة يوجد عدد من العمال والخيل، وكلُّ ما يحتاج إليه عامل البريد من زادٍ، وعلف، ومياه .
ويذكر ابن كثير في أحداث سنة (166هـ/ 782م) أن الخليفة المهدي أمر بإقامة البريد بين مكة، والمدينة، واليمن، وأنه لم يفعل أحد هذا قبل هذه السنة .
د - البريد في عصر المماليك :
وكذلك ارتقى البريد في عهد المماليك، وبخاصَّة في أيام السلطان بيبرس؛ فقد وضع له نظامًا يكفل ارتباط جميع أجزاء الدولة بعضها بالبعض الآخر بشبكة من خطوط البريد البرية والجوية (عن طريق الحمام الزاجل)، وكان مركز هذه الخطوط قلعة الجبل (شرقي القاهرة) التي أنشأها صلاح الدين سنة (572هـ/1176م ) .