دور الهندسة المالية في تطوير الصيرفة الإسلامية.
تبرز أهمية الهندسة المالية كأداة مناسبة لإيجاد حلول مبتكرة وأدوات مالية جديدة تجمع بين موجهات الشرع الحنيف واعتبارات الكفاءة الاقتصادية. لذلك تحتاج المؤسسات المالية الإسلامية دوما إلى الاحتفاظ بتشكيلة متنوعة من الأدوات والمنتجات المالية تمكنها من إدارة سيولتها بصورة مربحة، بالإضافة إلى توفيرها للمرونة المناسبة للاستجابة لمتغيرات البيئة الاقتصادية.
وفي هذه الفترة بالذات والتي شهد فيها العالم تغيرات جذرية هائلة تمثلت في تغير أسلوب إدارة الموارد الاقتصادية إلى النمط الاقتصادي الحر، إلى جانب ترابط أسواق التمويل الدولية بفعل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فإن ذلك يفرض ضغوطا تنافسية حادة قد تكون غير متكافئة بالنسبة للمؤسسات المالية الإسلامية، وبالذات في أسواق التمويل والخدمات المصرفية والمالية. ويستدعي ذلك بالضرورة تطوير منتجات مالية إسلامية مستحدثة تضمن للمؤسسات قدرا من المرونة ونصيبا سوقيا وارفا بساعدها على الاستمرار بفعالية.
تعريف الهندسة المالية الإسلامية:
الهندسة المالية الإسلامية ( Financial Engineering Islamic ) يقصد بأنها مجموعة الأنشطة التي تتضمن عمليات التصميم والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة بالإضافة إلى صياغة حلول إبداعية لمشاكل التمويل وكل ذلك في إطار موجهات الشرع الحنيف. وتتضمن هذه الهندسة العناصر التالية:
1. ابتكار أدوات مالية جديدة.
2. ابتكار آليات تمويلية جديدة.
3. ابتكار حلول جديدة للإدارة التمويلية، مثل إدارة السيولة أو الديون أو إعداد صيغ تمويلية لمشاريع معينة تلائم الظروف المحيطة بالمشروع.
4. أن تكون الابتكارات المشار إليها سابقا سواء في الأدوات أو العميلات التمويلية موافقة للشرع مع الابتعاد بأكبر قدر ممكن عن الاختلافات الفقهية أي تتميز بالمصداقية الشرعية.
مزايا تطبيق الهندسة المالية الإسلامية في المصارف الإسلامية:
1- توفير البدائل للمنتجات المالية التقليدية:
حيث أن الهندسة المالية الإسلامية هي وسيلة للإبداع والتطوير وإيجاد المنتجات الإسلامية البديلة للمنتجات التقليدية، وهذا يتطلب توفر القدرة على إيجاد المنتجات البديلة للتقليدية، في بيئة تفتقر إلى محفزات الإبداع، بالإضافة إلى ندرة الأفراد المبدعين، والحاجة إلى ثقافة المؤسسات الكمالية الإسلامية وتفهمها للإبداع، ومدى اهتمامها بعمليات البحوث والتطوير، ومدى إلمام المبدعين المختصين بالمفاهيم الشرعية التي من شانها تعزيز الإبداع الأصيل.
2- تجنب التقليد لمنتجات المصارف التقليدية :
حيث أن التقليد هو البديل الوحيد للإبداع في غياب الهندسة المالية الإسلامية وعجز المؤسسات المالية عن ابتكار وتطوير منتجات مالية إسلامية تنافس نظيراتها التقليدية، ولكن في المقابل يجب عدم تحميل المؤسسات المالية الإسلامية ما لا تحتمل.
3- محددات الهندسة المالية الإسلامية:
تحتاج السوق المالية الإسلامية إلى مؤسسات مالية متطورة تستفيد من نتائج الهندسة المالية وفق المنهج الإسلامي في إبداع وابتكار الطرق والعميلات التمويلية التي تضمن لهذه المؤسسات المالية التميز في تقديم منتجاتها المالية، وتحقق لها التفوق والأسبقية على المؤسسات المالية التقليدية، هذا من جهة ومن جهة أخرى ضمان تدخل فعال لهذه المؤسسات المالية في هذه الأسواق، سواء من خلال التحوط أو إدارة المخاطر.
* المحدد الأول:
الالتزام بشرط المشاركة في الربح أو الخسارة في نص واضح وكامل لا يقبل التأويل، وذلك على أساس القواعد الشرعية المعمول بها في عقود المضاربة والمشاركات.
* المحدد الثاني:
أن لا يعاد دفع الموارد المعبأة عن طريق الأوراق والأدوات المالية التي أصدرت على أساس التخلي عن شرط الفائدة الربوية إلى مؤسسات وشركات تتعامل بنظام الفائدة في كل تعاملاتها، كما أنه لا يجوز استثمار الموارد النقدية للأوراق والأدوات المالية الإسلامية في مشروعات تدر عوائد متفق عليها مقدما على سبيل التأكيد.
* المحدد الثالث:
ضرورة استثمار الموارد التمويلية للأوراق في مشروعات لها أولويات واضحة في مجال المصلحة العامة للمجتمع الإسلامي.
مداخل الهندسة المالية الإسلامية :
يمكن أن يكون لصناعة الهندسة المالية عدة مداخل، وتتعدد تبعا للطرق الممكن استخدامها من طرف المؤسسات الإسلامية في إقامة هذه الصناعة، ومن هذه المداخل ما يلي :
المدخل الأول: المحاكاة
والذي يعني أن يتم سلفا تحديد النتيجة المطلوبة من منتج صناعة الهندسة المالية الإسلامية، وهي عادة لا تخرج عن نفس النتيجة التي يحققها منتج صناعة الهندسة المالية التقليدية.
المدخل الثاني: الأصالة والابتكار:
ويعني هذا المدخل البحث عن الاحتياجات الفعلية للعملاء والعمل على تصميم المنتجات المالية المناسبة لها، بشرط أن تكون متوافقة مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وهذا المنهج يتطلب دراسة مستمر لاحتياجات العملاء ومتطلباتهم والعمل على تطوير الأساليب التقنية والفنية اللازمة لها، وذلك لضمان الكفاءة الاقتصادية للمنتجات المالية، كما يتطلب وضع أسس واضحة لصناعة هندسة مالية إسلامية مستقلة عن الهندسة المالية التقليدية.
متطلبات الهندسة المالية الإسلامية :
* الوعي ( وعي بالسوق وأحواله ) : ونقصد به أن تكون الحاجات التي يتطلبها السوق معروفة لمن يقوم بالابتكار والتطوير للأدوات والأوراق المالية.
* الإفصاح ( بيان المعاملات وشفافيتها ) : أي بيان المعاملات التي يمكن أن تؤديها تلك الأدوات التي يتم ابتكارها أو حتى تطويرها، وذلك لسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها المضاربون لاستخدام تلك الأدوات لتحقيق غايات لم تكن تهدف إليها أصلا أو التحايل على الربا أو القمار.
* المقدرة والالتزام بالشريعة الإسلامية في التعامل: أي وجود مقدرة رأسمالية تمكن من الشراء والتعامل، وكذا الالتزام بضوابط شرعية.
الأسس العامة للهندسة المالية الإسلامية :
* تحريم الربا والغرر.
* حرية التعاقد.
* التيسير ورفع الحرج.
* الاستحسان والاستصلاح ( المصالح المرسلة ) :
ويقصد بالاستحسان هو ما يستحسنه المجتهد بعقله من دون تواجد لنص يعارضه أو يثبته، بل يرجع فيه إلى الأصل العام، وهو جريان المصالح التي يقرها الشرع.
أما المصالح المرسلة فمعناها الأخذ بكل أمر فيه مصلحة يتلقاها العقل بالقبول، ولا يشهد أصل خاص من الشريعة بإلغائها أو اعتبارها، وتختلف هذه المصالح باختلاف البلاد وباختلاف الأقوام والأشخاص، وحتى اختلاف أحوال الشخص الواحد.
خصائص الهندسة المالية الإسلامية :
# المصداقية الشرعية: وهي أن تكون المنتجات الإسلامية متوافقة مع الشريعة، حيث أن هذه المنتجات هي ترجمة عملية للقيم والمثل التي جاء بها الإسلام، فبدون هذه المنتجات تظل المبادئ حبرا على ورق ولا رصيد لها من الواقع.
# الكفاءة الاقتصادية.
# العلاقة بين الكفاءة الاقتصادية والمصداقية الشرعية.
معوقات تطبيق الهندسة المالية في المصارف الإسلامية :
1- التحديات المتعلقة بالجوانب المؤسسية
* الإطار المؤسسي السليم:
لكل نظام متطلباته المؤسسية والبنوك الإسلامية ليست استثناء فهي تحتاج غلى عدد من المؤسسات والترتيبات الداعمة بغية القيام بوظائفها المتعددة.
وتحاول مؤسسات العمل المصرفي الإسلامية الاستفادة من الإطار المؤسسي الذي يدعم العمل المصرفي التقليدي، لكنها تعاني من انعدام الدعم المؤسسي الذي يوظف خصوصا لخدمة احتياجاتها.
* الإطار القانوني المناسب والسياسات الداعمة :
وضعت قوانين التجارة والمصارف والشركات في معظم البلدان الإسلامية على النمط الغربي، وتحتوي هذه القوانين أحكاما تضيق من مدى نشاطات العمل المصرفي وتحصره في حدود تقليدية.
* الإطار الإشرافي:
الإشراف على البنوك الإسلامية مهم بنفس درجة أهميته للبنوك التقليدية، وفي الوقت الراهن فإن عدم وجود إطار إشرافي فعال يعتبر أحد نقاط ضعف للنظام القائم ويستحق اهتماما جادا.
وهناك حاجة لتنسيق وتقوية الأدوار التي تضطلع بها كل من هيئات الرقابة الشرعية والبنوك المركزية في الدول الإسلامية.
2- التحديات المتعلقة بالجوانب التشغيلية :
*انعدام التمويل عن طريق تقاسم الأرباح
تنقسم المعاملات المالية الإسلامية إلى نوعين يقوم أحدهما على رسم ثابت على رأس المال ويستند الآخر إلى تقاسم الأرباح، ويوفر النوعان كلاهما التمويل من خلال شراء وبيع سلع حقيقية بينما تقوم المعاملات المالية التقليدية على تسليف الأموال مقابل رسم ثابت ( فائدة ).
* عدم سيولة الموجودات
مشكلة أخرى يسببها انتشار صيغ التمويل القائمة على أساس الدين، وهي صعوبة تحويل هذه الصيغ التمويلية إلى أدوات مالية يمكن التفاوض بشأنها.
- حشد الودائع وتوظيف الأموال محليا.
- المنافسة .
- العولمة.
تطبيقات الهندسة المالية في المصارف الإسلامية
نموذج المرابحة (نموذج د. سامي السويلم)
يقوم هذا النموذج على إعادة هندسة بيع المرابحة للآمر بالشراء من خلال عقد المشاركة كما يلي:
- يقوم التاجر الذي ينوي تخصيص جزء من مبيعاته لتكون بالتقسيط بفتح حساب لدى البنك الإسلامي كحصته في حساب المشاركة, ويقوم المصرف كذلك بإيداع مبلغ مماثل أو يزيد كحصة المصرف في حساب المشاركة.
- يقوم التاجر بعملية البيع بالتقسيط ونقل الملكية وكل ما يتعلق بالأمور الفنية لبضاعته, ويتولى المصرف متابعة الأقساط والتسديد وكافه الأمور المالية.
- الأرباح التي يجنيها هذا الحساب المشترك توزع بين التاجر والمصرف بالاتفاق.
وبهذه الطريقة يحقق المصرف عدة أهداف, فهو أولاً يقلل التكاليف الإجرائية التي تتسم بها عمليات المرابحة بالمقارنة مع البنوك التقليدية، ومن ثم يبتعد عن الشبهات الشرعية المتعلقة بالقبض والحيازة, ويكون أيضاً مكملاً لعمل التجار وليس منافساً لهم.
* نموذج الوكالة بأجر (نموذج د. جمال الدين عطية)
ويقوم هذا النموذج على إعادة هندسة علاقة المودعين مع المصرف الإسلامي، من علاقة المضاربة المشتركة التي تثير مشكلة تطبيقية وهي مسألة التداخل الزمني, وهي اختلاف مواعيد السحب والإيداع بين المودعين ومواعيد بدء وتصفيه الاستثمارات التي استخدمت فيها أموال المودعين, وهو يحول دون تحديد الربح أو الخسارة الفعلية العائدة لأي وديعة بعينها,
ويقترح د.جمال الدين عطية أن تكون علاقة البنك بالمودعين قائمة على أساس الوكالة بأجر بدلاً من المضاربة، حيث يعتبر البنك وكيلاً عن المودعين في استثمار أموالهم لقاء أجر ثابت أو نسبة من مبلغ الوديعة ذاتها, وهذا المقترح يجعل دخل البنك مستقلاً عن مواعيد ونتائج عمليات الاستثمار الفعلية.
* نموذج سندات الإجارة الموصوفة في الذمة(نموذج د. منذر قحف)
سندات الإجارة هي نوع مبتكر من السندات الإسلامية, وهي جمع بين السند كأداة مالية وعقد الإجارة وعقد السلم, وآليتها أن تكون هناك الخدمة موصوفة في الذمة مثل التعليم الجامعي مثلاً بحيث يكون الوصف تفصيلاً ولا يدع مجالاً للخلاف كان يكون تعليم طالب جامعي, تتوفر فيه شروط معينة ويحدد له مساق دراسي معلوم بزمنه ومدته ووصفه, بعد ذلك تقوم الجامعة وهي مقدمة خدمة التعليم الجامعي بإصدار سندات خدمة موصوفة في الذمة تمثل تعليم طالب في الجامعة على أن تقدم هذه الخدمة الموصوفة في الذمة بعد عشر سنوات مثلاً،
ويمثل السند حصة ساعية واحدة, ولحامل هذا السند الحق في الحصول على الخدمة الموصوفة مقابل ما يدفعه الآن من ثمن للسند الذي يمثل ملكيته للمنفعة, إن هذا المبتكر يحقق ميزة الكفاءة في تعبئة المدخرات وميزة التخصيص الكفء للموارد, وتحقيق السيولة والربحية والضمان لكافة أطراف العلاقة بشكل كفؤ وهو ما تهدف إليه الهندسة المالية, كما أوضحناه آنفا.
* الكتابة والإشهاد والرهن لحل مشكلات التوثيق الذي يستلزمه الائتمان
* شركات الأموال (عنان ومفاوضة) لتحل مشكلة الحاجة إلى حجم التمويل الكبير.
* شركة المضاربة لتحل مشكلة الحاجة المتبادلة بين العمل والمال.
* عقد البيع الذي ارتضاه المولى تعالى حلا لانتقال الأعواض استجابة لحاجة المتبادلين إلى الأعيان والأثمان، ويسّجل للإسلام اهتمامه بعقد البيع وضبطه له على نحو معجز تتصاغر عنده كل معطيات الفكر الوضعي.
* البيع الآجل والبيع منّجم الثمن لحل مشكلة نقص السيولة آنياً.
* بيع السَّلم ليحل مشكلة تمويلية وتسويقية بتعجيل الثمن وتأجيل المثمن. وتالياً جاء السلم الموازي ليؤمن كفاءة ذلك عند وجود الطرف الثالث.
* قبولها لمبدأ تسهيم رأس المال (تجزئته) لحل مشكلات حجم التمويل الكبير، وحل مشكلة السيولة بتأمين التداول في الأسواق المالية.
* تحويل جهة الالتزام ومكان إبرائه بواسطة الحوالات أو السفاتج والكمبيالات، فالدين في الإسلام علاقة مالية لا شخصية، ومن أحيل على مليء فليتبع.
* الوكالة التي تقيم الوكيل الملتزم محل الأصيل الذي يوكله في الحدود التي يرتضيانها مما أقره الشارع.
* الكفالة التي تضم ذمة الغير الخالية من الالتزام إلى ذمة الملتزم تعضيداً لها وتدعيماً للمعاملات المالية.
* رقاع الصيارفة أو السندات الإذنية، التي توثق إقراراً بمديونية محددة وتعهداً بسدادها لحامل الرقعة أو السند، في تنميط لعلاقة ثنائية بين الدائن (حامل الرقعة) والمدين (محررها).
* الصك أو ما صار يعرف اليوم بالشيك، وهو أمر من المالك إلى المستودع بدفع مبلغ للمستفيد، في تنميط لعلاقة ثلاثية أطرافها المحرر (المحيل) والمستفيد (المحال) والمكلف (المحال عليه) أو المسحوب عليه. ومثال ما تقدم ما تعامل به عبد الله بن الزبير وأخوه مصعب رضي الله عنهما من رقاع وصكوك. هذا ويلاحظ أن هذه الأدوات هي بمثابة البكرات في عالم الفيزياء الحركية وظيفتها توفير المرونة الكافية للتعامل مع الالتزامات ضمن القواعد العامة للمعاملات الإسلامية لجهة ضبط ذمة الالتزام أو تاريخه أو مكان إبرائه.
* الكوبونات الأجرية أو صكوك الطعام التي عرفتها الدولة الإسلامية إذ كانت تخصص لموظفيها العموميين: أجورهم معرّفة بكميات معلومة من صنوف معلومة من الطعام تغلباً على مشكلة نقص السيولة.
* ومن الحلول المالية العملية والتي تبنتها كل المصارف التقليدية والإسلامية، ما كان يفعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إذ كان يقبل المال من الناس على أنه قرض لا وديعة تحقيقا لمشروعية الضمان ولمشروعية الربح الذي يتولد عن التصرف به.
* واستحدث الحنفية عقد الاستصناع وأفردوه عن السلم وخصوه بشروط وقيود تحقيقا لمقاصد إنتاجية وتمويلية.
* كما عرفت الهندسة المالية المعاصرة صناديق الاستثمار والصكوك الاستثمارية، ومشروعيتها تقيّد بالأبعاد العقدية التي تحكم أطرافها أولاً، وبطبيعة نشاطها ثانياً وبمآلات التعامل بها ثالثا، ولا شك أن وجودها يمّكن المستثمر من خفض المخاطر بتنويع مروحة أصوله.
* ومن الأدوات المستحدثة التي تبنتها الهندسة المالية الإسلامية المعاصرة، عقود الإجارة التمويلية والإجارة المنتهية بالتمليك وصكوك الإجارة الموصوفة في الذمة، وهي أدوات ينبغي أن تمّحص مبانيها العقدية أولا ثم ينظر في مآلات تطبيقها ثانيا.
آراء خبراء في الهندسة المالية الإسلامية :
تعددت آراء الخبراء المتخصصين في الصيرفة الإسلامية في مفهوم الهندسة المالية الإسلامية، وكيفية استخدامها من قيل المصارف الإسلامية، وخاصة في طل المتغيرات الاقتصادية الحالية، وفيما يلي بعض آراء هؤلاء الخبراء :
1- الخبير المالي الدكتور سامي السويلم نائب رئيس معهد البحوث والتدريب في البنك الإسلامي للتنمية :
عرف السويلم الهندسة المالية [أنها مفهوم قديم قدم المعاملات المالية، أي أنها عبارة عن التصميم والتطوير والتنفيذ لأدوات واليات مالية مبتكرة، والصياغة لحلول إبداعية لمشكلات التمويل.وأضاف أن الابتكار المقصود ليس مجرد الاختلاف عن السائد بل لا بد أن بيكون هذا الاختلاف مميزا إلى درجة تحقيقه مستوى أفضل من الكفاءة والمثالية، مبينا أن الشريعة الإسلامية قد تضمنت الأسس الضرورية لقيام الهندسة المالية ، فهي قد شجعت على الابتكار وحثت عليه، وبينت الأسس التي يمكن من خلالها توجيه وترشيد عملية الابتكار المالي بما يحقق المصالح المرجوة.
ويستدل السويلم بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا".
وبين السويلم أن هذا الحديث الشريف يمثل الأساس الأول في الحث على الإبداع والابتكار الذي ينفع المسلمين ويحقق المصلحة الشرعية، موضحا أن قوله صلى الله عليه وسلم : "من سنة سنة حسنة" يدل على وصف العمل الحسن، لا يكون ذلك إلا بموافقة الشرع، فلو كانت السنة المذكورة تغييرا للشرع لما كانت حسنة. فجانب الاختراع أو الابتكار المشروع هو في الدرجة الأولى في التطبيق أو التنفيذ للحكم الشرعي، كما ورد في الحديث وليس في الحكم نفسه.
2- الخبير والباحث الأردني ناصر الزيادات :
حيث أكد الزيادات أن هناك خلطا كبيرا بين مصطلحي الهندية المالية والمشتقات المالية، حيث أن المصارف الإسلامية جديدة نوعا ما فإن استخدام الهندسة المالية سيجعلها أكثر جذبا وتنافسية من نظيرتها التقليدية. وأوضح أنه فيما يخص المؤسسات المالية الإسلامية فالحاجة ملحة للتطوير والإبداع والهندسة ولكل ما يندرج تحت تلك المترادفات ليس على المستوى المؤسسي وحسب بل على مستوى الصناعة.
وأشار الزيادات إلى أن الصناعة المالية الإسلامية كونها صناعة ناشئة بالمقارنة بنظيرتها التقليدية تعد بأمس الحاجة إلى عميلات التطوير والابتكار لمنتجات مالية إسلامية أصيلة تحافظ على هوية الصناعة وتقيها شرور التقليد حتى وإن كان في إطار شرعي، وهذا كله سيسهم في تحقيق نمو مستدام للصناعة ككل وينعكس حتما على استدامة المؤسسات المالية الإسلامية.
وقد عرف الزيادات الهندسة المالية بأنها عبارة عن وسيلة للإبداع والتطوير وإيجاد المنتجات الإسلامية البديلة للمنتجات التقليدية، منوها إلى أن الأهم من السؤال عن قدرة الهندسة المالية على إيجاد المنتجات البديلة للمنتجات المالية التقليدية هو السؤال عن البيئة التي تحفز الإبداع وتسهله، والأشخاص المبدعين وسماتهم والاهتمام بهم وثقافة المؤسسات المالية الإسلامية وتفهمها للإبداع.
3- الدكتور عبد الكريم قندوز أستاذ في جامعة حسيبة بن بو علي الجزائرية، والمحاضر في قسم المالية في كلية العلوم الإدارية في جامعة الملك فيصل :
أكد قندوز أن معظم تعاريف الهندسة المالية تعتبر إلى أن مستخلصة من وجهات نظر الباحثين الذين يطورون النماذج والنظريات أو مصممي المنتجات المالية في المؤسسات المالية التقليدية، مبينا أنها عبارة عن مجموعة الأنشطة التي تتضمن التصميم والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة، إضافة إلى صياغة حلول إبداعية لمشاكل التمويل وكل ذلك في إطار توجيهات الشرع.
وبين قندوز أن الصناعة المالية الإسلامية وجدت منذ أن جاءت الشريعة الإسلامية بأحكامها المطهرة، وربما كان توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لبلال المازني رضي الله عنه، عندما أراد أن يبادل التمر الجيد بالتمر الرديء، فقال له صلى الله عليه وسلم : "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيبا، إشارة لأهمية البحث عن حلول تلبي الحاجات الاقتصادية دون إخلال بالأحكام الشرعية.
ونوه قندوز إلى أن الشريعة الإسلامية لم تحجر دائرة الابتكار وغنما على العكس حجرت دائرة الممنوع وأبقت دائرة المشروع متاحة للجهد البشري في الابتكار والتجديد.
وذكر قندوز أن أسباب الحاجة لهذه الهندسة تتمثل في ضرورة الانضباط بقواعد الشريعة، وتطور المعاملات المالية، بالإضافة إلى حدة المنافسة مع المؤسسات المالية التقليدية.
ويرى قندوز أن الهندسة المالية الإسلامية تهدف إلى إيجاد قيمة مضافة، وهذا يعني أن المنتجات المالية الإسلامية تناسب المسلمين وغير المسلمين، وتحقق المصلحة لهم جميعا، مبينا أن مهمة الاقتصادي المسلم المعني بالهندسة المالية ليس التخريج للمنتجات السائدة كالمشتقات وإنما البحث عن منتجات تناسب المفهوم الإسلامي للتمويل والمخاطر. وهذه المنتجات موجودة وقائمة وليست في حيز العدم.وقال أن هناك فرقا بين الهندسة المالية الإسلامية والتقليدية، حيث أن الابتكار في الصناعة المالية الإسلامية لا يؤدي إلى تجاوز الأحكام الإسلامية على النحو الذي يجري في الصناعة التقليدية.
وبين قندوز الأهمية العلمية لهذه الهندسة، منوها إلى أن الحث والتطوير يؤديان إلى استكمال المنظومة المعرفية للاقتصاد الإسلامي ومواكبته للتطورات الحاصلة في العلوم المالية، كما أن هذه الهندسة تساعد على إيجاد الكوادر الإدارية التي يتطلبها العمل المصرفي الإسلامي والتي تجمع بين المعرفة الشرعية والخبرة المصرفية الإسلامية.
4- الباحث الاقتصادي الأستاذ أحمد محمد محمود نصار :
فقد عرفها نصار بأنها مجموعة الأنشطة التي تتضمن عمليات التصميم والتطوير والتنفيذ لكل من الأدوات والعمليات المالية المبتكرة, وتكوين مجموعة حلول إبداعية لمشاكل التمويل في الشركات. وبين أن هذه الهندسة تشتمل على تصميم أدوات مالية مبتكرة, مثل بطاقة الائتمان, وأنواع جديدة من السندات والأسهم, وتصميم عقود تحوط مبتكرة، وتطوير الأدوات المالية, أي تلبية هذه الأدوات المبتكرة لحاجات تمويلية جديدة, أو التغيير الجذري في العقود الحالية لزيادة كفاءتها فيما يخص المخاطرة وفترة الاستحقاق والعائد، بالإضافة إلى تنفيذ الأدوات المالية المبتكرة, أي ابتكار إجراءات تنفيذية مبتكرة من شأنها أن تكون منخفضة التكلفة ومرنة وعملية.
ويرى نصار أن الهندسة المالية الإسلامية تعتبر منهجاً لنظم التمويل المعاصرة يهدف إلى تحقيق الكفاءة في المنتجات المالية المعاصرة وتطويرها في ظل الاحتياجات المالية والتي تتصف بأنها متجددة ومتنوعة.
وتكمن أهمية الهندسة المالية وخصوصاً في عالمنا المعاصر اليوم بأنها تقوم بالموازنة بين عدة أهداف ومن ثم تصميم أدوات مبتكرة تستوعب كل هذه الأهداف معاً, وهذه المهمة ليست باليسيرة حيث تحتاج إلى تضافر جهود على شكل تنظيمي بين الشرعيين والاقتصاديين والمصرفيين والمحاسبين للخروج بمبتكرات فعالة.
ويبين نصار أن أهمية الهندسة المالية بالنسبة للبنوك الإسلامية تبرز في أنها تتعامل ضمن الضوابط والقيود الشرعية التي تنظم آلية أعمالها التمويلية والاستثمارية, ولهذا يتوجب على المهندس المالي في البنوك الإسلامية مراعاة هذه الضوابط وعدم اللجوء إلى الحيل, لأن الأحكام والضوابط الشرعية جاءت لتحقق مصلحة للفرد والمجتمع معاً.
5- الأستاذ الدكتور عبد الهادي السبهاني:
حيث أن السبهاني قام بتعريف الهندسة المالية الإسلامية على أساس علاقتها بالتحوط، مبينا أن التحوط يقصد به اتقاء المخاطر وتخفيف آثارها، وحين يكون الحديث عن الاستثمار؛ فإن المخاطر تتلخص في: فوات ربح متوقع أو تآكل رأس المال. ويقصد بالهندسة المالية الإسلامية ابتكار الحلول المالية وتنميطها في منتجات تحقق الأغراض المالية مع السلامة الشرعية. والملاحظ أن التحوط، وهو هدف من أهداف الهندسة المالية التقليدية المعاصرة، قد طغى على أهدافها الأخرى حتى أصبحت وكأنها معنية فقط بالبحث عن حلول افتراضية للتحوط كان أبرزها المشتقات المالية. ولكي تروج هذه البضاعة كان لا بد من تصنيع الحاجة إليها بالدعاية والإعلان، وبإذكاء الخوف وإذاعته وتفعيل تقلبات الأسواق وهي مخاطر تحت السيطرة تلجئ إلى التحوط!!.
ويرى السبهاني أن الهندسة المالية الإسلامية قد انزلقت أو كادت إلى منزلق الهندسة المالية التقليدية، وكان المدخل الساذج لهذا التوجه هو التوكيد على موقف الإسلام الصحيح من حفظ المال ووجوب صيانته، لتصل إلى استنتاج سريع وخطير يتلخص في أن التحوط بالوسائل التقليدية (المشتقات) أمر سائغ بل واجب شرعاً، لأن ما لا يتم الواجب (حفظ المال) إلا به فهو واجب!!. ولقد بني النظام المالي المعاصر على عقيدة فاسدة ماليا قبل أن تكون فاسدة شرعيا ومن وجوه فساد هذه العقيدة المالية السعي إلى فك الارتباط بين مغانم الاستثمار ومغارمه (مخاطرته)، ومن وجوه فسادها سماحها بنقل هذه المخاطرة إلى الغير عبر صنوف المشتقات، ونسوا أن المخاطر محكومة بقانون ربما له دقة قوانين الفيزياء، فهي تلد مع الاستثمار ولا تفنى إلا بفنائه، وكان على النظام الذي شرعن تلك الأنانية وذلك الدجل المالي أن يتحمل غُصة تلك الأصول السامة التي تتشردق بها البنوك وشركات التأمين والمؤسسات المالية والتي تتكلف الحكومات ومن ورائها دافعو الضرائب أعباءها الهائلة بينما انسحب اللصوص والنصابون إلى مغاراتهم يستمرئون التنعم بوافر جنيهم تاركين العالم يتقلب في بلائه!!.
ويبين السبهاني أن المطلوب من الهندسة المالية الإسلامية وقفة نقدية تقديرية تخرجها من مدار الهندسة المالية التقليدية خاصة وإن القوم صاروا يتلفتون إلى الإسلام ونظامه المالي والاقتصادي.
ويشير السبهاني إلى عدم تأجيل الدعوة إلى النظام المالي والمصرفي والاقتصادي الإسلامي أو تأخير عرضه على الناس بحجة عدم نضجه، مبينا أن أول ما ينبغي فعله هو تنزيه هذا الفكر من تلك التخريجات التي قربته من نظيره التقليدي حتى لا يُفجع المتطلعون إلى الإسلام ونظامه المالي، بالمسخ الذي فعلته الهندسة المالية الإسلامية مسايرة للأسواق المالية والمصرفية التقليدية أو تأثرا بها.
وذكر السبهاني أن مزية النظام الإسلامي تكمن في تقديره في أمرين: الأول هو توسيع قاعدة المخاطرة باشتراك الممول مع المستثمر في المغانم والمغارم. أما الثاني فهو إرساء المخاطرة وعدم ترحيلها إلى الغير، وهو ما يستفاد من استقراء أحكام المعاملات. ولا يفهم من كلامنا أننا نستهدف المخاطر أو الخسائر، ولا يفهم من كلامنا تسفيه الشعور الفطري للتحوط فهذا ما لا يقول به عاقل؛ إنما نريد تحوطا مشروعا، وإذا كانت نظرية العقد تسّوغ للأغيار كل ما يتراضون عليه، فإن نظرية العقد الإسلامية تشترط أن يكون ما يتراضى عليه العاقدون في دائرة الإباحة التي حددتها الأحكام الثابتة.
وأوضح السبهاني أن الهندسة المالية الإسلامية الصحيحة، التي سبق وجودها وجود هذا المصطلح، استطاعت أن تنتج سيلاً من الأدوات والحلول الفعّالة والمشروعة في عوالم التمويل والتجارة الحقيقية. ويلخص قوله بأن عقود التحوط عبر المشتقات المالية عقود طارئة لا علاقة لها بالمبنى العقدي للتمويل، وهي عقود فاسدة بذاتها لما يكتنفها من غرر وربا وميسر، وهي فاسدة في استخداماتها إذ أراد البعض التحوط بها لما لا يجوز التحوط منه أي المخاطرة التي يطيب معها الربح، بينما أرادها الأكثرون أدوات للمضاربة والمقامرة ليس غير. كما نوه إلى أن المستثمر له أن يتحوط بتنويع أصوله والموائمة بين تدفقات حقوقه المالية والتزاماته، وهذا من الحكمة التي يتعين أن يلتمسها، أما أن يلجأ إلى بيع المخاطر وترحيلها إلى الغير عبر المشتقات المالية والتأمين التجاري فهو أمر لا يمكن قبوله إلا بتعسف الاستدلال.