إنها لسعادة غامرة حقًا, تلك التي يعيشها قلب الداعية المؤمن حين يطرق سمعه نداء نبي الهدى له من وراء السنين: ' لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير مما طلعت عليه الشمس '.
إنها سعادة المستبشر الطامع في ذلك الثواب الجزيل الذي وعد الله جل وعلا به كل همام موفق أعطى المجهود من نفسه في دلالة الخلق على ربه, ولمثل هذه السعادة كان عبد القادر الكيلاني ـ رحمه الله ـ يصف حينما قال: ' إذا رأيت وجه مريد صادق قد أفلح على يدي شبعت وارتويت واكتسيت كيف خرج مثله من تحت يدي '.
أجل أيها الأخوة الدعاة, فهذا ريّ الداعية الصادق وذاك شبعه وتلك كسوته, يوم أن يوفقه الله في انتشال مسلم من ركب الهوى والضلال, ليصبح جنديًا في كتائب الإيمان, محدثًا بذلك اختلالاً في ميزان القوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان, ثم تتوالى الانتشالات تجر من بعدُ اختلالات, حتى يأتي ذلك اليوم الموعود الذي يشفي الله فيه صدور دعاة مؤمنين, فتطيش فيه كفة الباطل المزهوة أمام كفة الحق الراسخ التليد, كان ذلك في يقين الدعاة حتمًا مقضيًا {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
ولكن دون هذا الأجر الجزيل وذاك النصر المأمول مفاوز وفلوات لا يجيد السير عبر دروبها إلا كل داعية خرِّيت, آتاه الله تلك البصيرة الموروثة عن سيد الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه المغاوير {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
وإنما تترجم هذه البصيرة في عرف دعاة اليوم بمصطلح فقه الدعوة، هذا العلم النادر والذي من خلاله يتقن داعية الإسلام في اجتذاب الفراشات البشرية الهائمة في دروب الظلمات إلى نور الحق الوقاد, ومن أجل إعانة إخواننا الدعاة على حيازة فقه الدعوة, تتقدم إليهم مفكرة الإسلام بهذه الحلقات المسلسلة في فن الدعوة, تجمع لهم فيها أطايب كلام الدعاة والمربين وتضيف إلى ذلك ما جدّ من تجارب واطلاعات وممارسات في فنون الإدارة والاتصالات والتأثير وعلوم النفس والاجتماع, مع صياغة كل ذلك صياغة عملية مبسطة قابلة للفهم السريع والتطبيق المباشر من قبل دعاة الإسلام.
ولقد آثرنا أن تكون بداية المجموعة الأولى من هذه السلسلة مخصصة لفقه الدعوة الفردية, وستتلوها إن شاء الله بعد ذلك مجموعات أخرى من الحلقات في فنون التربية والصياغة, ثم ثالثة في فنون الحركة وكيفية السير بالكيان الدعوي عبر درب التمكين.
ولنبدأ الآن هذه المجموعة المباركة في فقه الدعوة الفردية, فنقول وبالله التوفيق:
لابد أولاً أن نعرف ما المقصود بالدعوة الفردية؟
ويمكننا تعريفها بشكل مبسط مختصر فنقول:
'هي اتصال الداعية بالمدعو اتصالاً شخصيًا مباشرًا بهدف إحداث نقلة في مقدار تمسكه والتزامه بالإسلام, بحيث تتحقق فيه سمات المسلم الصالح ويتوفر لديه الاستعداد للقيام بواجب الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله من خلال الانتظام في صفوف الدعاة المجاهدين'.
وإنما يتم للداعية ذلك عبر اختلاطه بعموم المسلمين ثم انتقاء من يتوسم فيه إمكانية الاستجابة, فيصاحبه ويؤاخيه, موجهًا إليه الدعوة بصورة فردية مباشرة, آخذًا بيديه عبر مراحل خمسة, لكل مرحلة منها أهدافها المحددة ووسائلها التنفيذية الموصلة إلى تحقيقها, ومعايير إنجاز يُقاس من خلالها مدى تفاعل المدعو في كل مرحلة, واستجابته لما يُمارس معه من برامج, ثم ضوابط ومحاذير وسياسات تكفل سلامة سير المدعو عبر كل مرحلة, مع معرفة دقيقة للمشاكل المتوقعة والتي قد تعوق المدعو من الاستجابة المطلوبة, وكيفية التغلب على تلك المعوقات, فهذا كله هو ما نعنيه تحديدًا بفن الدعوة الفردية والذي سنلتقي معه عبر حلقات هذه السلسلة بإذن الله تعالى.
وقبل ذلك أيها الهمام فاسمح لنا أن نأخذ بيديك في جولة سريعة هذه المرة لنتعرف فيها على الأصول الشرعية والمبررات الواقعية والحركية التي تدعونا إلى الإلحاح على ضرورة إتقان الدعاة لأسلوب الدعوة الفردية كأسلوب فريد لا يسد غيره مسده في دعوة الإسلام.
فبهداهم اقتده
وتسترعي انتباه الداعية تلك الجمهرة الحاشدة من آيات الذكر الحكيم التي تصور له مواقف الأنبياء والمرسلين في دعوة أقوامهم إلى طريق رب العالمين, حتى ليكاد يجزم بعد تأملها بأن الدعوة الفردية كانت هي الأسلوب الأساسي الذي انتهجه المرسلون في بدء وتأسيس دعواتهم, فاسمع على سبيل المثال إلى أطول الأنبياء عمرًا, وهو يحكي عن دعوته لقومه:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً. ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح: 5 ـ 9].
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: نوّع عليهم الدعوة لتكون أنجح.
ويعلق القرطبي على قوله تعالى: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} فيقول:
'أي أتيتهم في منازلهم' أي أنه عليه الصلاة والسلام اتصل بهم فرادى, وعقد معهم صلة مباشرة تتضمن الزيارة في المنازل والتعرف على الأحوال, والحديث الخاص المنفرد وغير ذلك من فنون الدعوة الفردية.
ويحكي لنا القرآن أيضًا ذلك الحوار الرائع الذي دار بين الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم وبين صاحبيه أثناء سجنه, والذي يُعدّ نموذجًا مثاليًا لحكمة الداعية, وإتقانه لفن الدعوة [سورة يوسف, الآيات 36 ـ 41].
أما سيد أولي العزم من الرسل فقد كانت له اليد الطولى في ذلك, ونظرة سريعة إلى سيرته العطرة ترينا كيف كان صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة المباركة يتفرس فيمن حوله, ويختار منهم من يتوسم فيه قابلة تحمل الهدى, فيخصه بالدعوة الفردية, ليشهد شهادة الصدق, وينضم بعدها إلى مدرسة دار الأرقم بن أبي الأرقم التربوية, من ذلك ما روته لنا السيدة عائشة رضي الله عنها إذ تقول:
'خرج أبو بكر يريد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان صديقًا له في الجاهلية, فلقيه فقال يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك, واتهموك بالعيب لآبائهم وأمهاتهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله أدعوك إلى الله, فلمّا فرغ من كلامه أسلم أبو بكر, فانطلق عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورًا منه بإسلام أبي بكر'.
وإن شئت المزيد فطالع أخباره صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي, وعدي بن حاتم, وعداس الغلام النصراني, وغير ذلك مما هو معلوم لكل من كان له أدنى اطلاع على سيرته صلى الله عليه وسلم.
السابقون المقربون على الدرب
وإذا تفيأ داعية الإسلام ظلال سير الصحابة الأوائل لأدرك كيف أتقنوا فن الدعوة الفردية بعد أن استقوه من الداعية الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم, وهاهو الراشد الأول الصديق رضي الله عنه ما أن يشهد شهادة الحق بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينطلق إلى رجال قومه فينتقي منهم من يصلح لحمل أمانة الدعوة, ويخصه باتصال فردي يبثه من خلاله أنوار الهداية, فكان الرجال يأتونه ويألفونه لعلمه وتجارته وحسن خلقه, ولم يلبث إلا قليلاً حتى أينعت جهوده المباركة في الدعوة الفردية, وأثمرت إسلام أكثر أفذاذ هذه الأمة من العشرة المبشرين بالجنة, منهم عثمان بن عفان, والزبير بن العوام, وعبد الرحمن بن عوف, وسعد بن أبي وقاص, وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم أجمعين.
ثم انظر إلى ذلك الماهر الموهوب مصعب بن عمير رضي الله عنه, ذلك الداعية الخبير الذي أوفده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد بيعة العقبة الأولى ليكون بذلك أول سفير عرفه الإسلام, كيف استطاع هذا الهمام بما معه من إيمان ويقين ثم بإتقان فنون الدعوة الفردية أن يفتح الله به قلوب أهل المدينة قبل مقدم نبي الهدى إليها, حتى أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير وهم سادة الأوس والخزرج, قد أسلموا على يديه ـ رضي الله عنه وعنهم أجمعين ـ في موقف واحد.
ولمن تبعهم بإحسان نصيب
وينتصب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ أمام ناظري الداعية مثالاً على حسن الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه على درب ممارسة فن الدعوة الفردية, يحدثنا عن ذلك الأستاذ الراشد فيقول في منطلقه:
'وانظر من تطبيق الإمام أحمد لحرصه هذا مثالاً يذكرونه في معرض التعريف بشيخ البخاري والترمذي موسى بن حزام, قالوا: إنه كان ثقة صالحًا لكنه كان في أول أمره ينتحل الإرجاء, ثم أعانه الله تعالى بأحمد بن حنبل فانتحل السنة, وذبّ عنها, وقمع من خالفها, مع لزوم الدين حتى مات'.
وإنها لكلمات تحوي من معاني الدعوة شيئًا كثيرًا, إن هذا التغيير لم يتم بالأماني المجردة, ألا ترى أن الإمام أحمد لزمه أن يجلس معه المجالس الطوال مناقشًا له برفق وسكينة, وحكمة وموعظة حسنة حتى استطاع أن يصرفه عن بدعة الإرجاء التي توهمه أن العمل ليس شرطًا في الإيمان, وإنما هو تصديق القلب فقط, ثم مجالس أخرى علمه فيها السنن ثم مجالس أخرى بعث فيه همة عالية استمر معها حتى موته بالدفاع عن السنة وقمع مخالفيها من أهل البدع والشهوات.
الحسابات الحركية تبرر الدعوة الفردية
والمتفرس في واقع الحركة الإسلامية من بعد تفرسه في واقع الأمة ليجد مبررات كثيرة تغدو معها الدعوة الفردية ضرورة حتمية لا يمكن الاستغناء عنها في واقع الصحوة, فمن ذلك:
1ـ الغثائية المسيطرة على عامة المسلمين, والتي أفرزتها الأنظمة العلمانية في مجتمعاتنا عبر استخدامها لبرامج تربية العبيد, وتلقين الذل والاستخذاء لشباب المسلمين حتى صارت العناصر الجيدة التي تصلح لحمل الأمانة أندر من الكبريت الأحمر, وبإزاء هذه الغثائية توجد حاجة ملحة في الحركة الإسلامية إلى نوعيات خاصة وممتازة من الرجال يمثلون بالنسبة لها القاعدة الصلبة التي يعتمد عليها في ميدان البذل والدعوة والتضحية, وهذه النوعيات لا يكفي أبدًا لإعدادها وسائل الدعوة العامة والكلمات العابرة, فلابد من اتصال وثيق فردي بهم, وتركيز خاص عليهم لنقلهم هذه النقلة البعيدة ما بين الواقع الغثائي والمثال المنشود.
2ـ قلة عدد الدعاة إلى الله في مقابل الكثرة الكاثرة من المدعوين في عامة المسلمين مما يوجب على الدعوة إعداد مزيد من الفرسان الذين يشاركون في حمل أعباء الدعوة, ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال الدعوة الفردية.
3ـ التضييق والاضطهاد والمحاربة التي يتعرض لها الدعاة في معظم أرجاء المعمورة, من قبل أولياء الشيطان, الذين يريدون إطفاء نور الله عبر منع دعاة الإسلام من ارتقاء المنابر العامة من خطب ومحاضرات وصحف ونشرات, وإذاعات وفضائيات مما يستلزم معه تفعيل دور الدعوة الفردية لتعويض الفارق في التأثير الحادث من جراء هذا المنع من وسائل الدعوة العامة.
وبعد أيها الداعية الهمام فلئن كنا بسطنا لك القول في هذه الحلقة في سوق الأصول الشرعية والمبررات الحركية لإتقان فن الدعوة الفردية, بغية إقناعك بضرورة ممارستها, وتحفيزك على شدة إتقانها, فإن هذا التحفيز وذاك الإقناع لا يكتملان حتى تتعرف أيضًا على ثمرات الدعوة الفردية ثم خصائصها ومميزاتها, وهذا ما نعدك به في الحلقة القادمة إن أحيانا الله وأحياك, وسلام الله عليك ورحمته وبركاته.