حتى لا تفهموني خطأ . وحتى لا تذهبوا بعيد
فانا لا اقصد الحب الذي اشتهر على ألسنة وأفكار الكثير من الناس من التبذل والهوى والغرام، غير المباح، والذي تولى كبره الشيطان الرجيم ، وأعوانه من دعاة الرذيلة وسوء الأخلاق.
أنا اقصد الحب المشروع ، إكسير الحياة وبلسم جراحها، وسر حلاوتها وغلاها ، ذلك المعنى السامي الشريف الذي لا تقوم الحياة السعيدة إلا بمقومات مهمة، ذلك الحب احدها.
الفكرة :
ربط مفهوم الإدارة بمفهوم الحب وبيان كيف أن الحب (أصل غير منصوص عليه من أصول الإدارة)
ابسط مفهوم للإدارة :
هناك مفهومان مبسطان لمعنى الإدارة ، وهما :
• تنفيذ الأعمال من خلال الآخرين
• تحقيق الأهداف بأعلى كفاءة واقل كلفة وأسرع وقت
والسؤال الذي يناسب الموضوع :
هل للحب دور في جعل الآخرين ينجزون أعمالهم بأعلى كفاءة واقل كلفة وأسرع وقت ؟
بمعنى آخر:
هل نستطيع أن نجعل الآخرين يقومون بتنفيذ التكاليف التي عليهم بكل تفاني وإخلاص، من خلال عنصر المحبة ؟
دعوني أبحر معكم في هذا المعنى وننظر هل فعلا هذه قاعدة مطردة ؟
وهل هذا يصلح أن يكون منهجا في إدارة الآخرين لتنفيذ الأعمال؟
أم أن كل ذلك ترف فكري وإثارة للجدل ليس إلا ؟
فأقول مستعينا بالله :
بادئ ذي بدء
الحب ، والمحبة معنى نفسي روحي مغروس في أعماق النفس البشرية مخلوق معها ، وجزء من تركيبتها الوجدانية العاطفية، لا يستغني الإنسان عنه ، ولابد من ممارسته تماما كما يمارس عملية التنفس والأكل والشرب ، فلابد للإنسان أن يحب ولابد أن يكره طالما هو إنسان وليس آلة أو حيوان.
مع اعتقادي أن الحيوانات لديها قدر من المحبة لبني جنسها ولا ادري هل الحيوانات لديها (حب ) أم (رحمة )
وطبيعي أن كل إنسان يمارس هذا الشعور بطريقته الخاصة وبمفهومه الخاص، وقد يصيب في ذلك وقد يخطئ لكنه في الأخير يعتقد انه يحب ويكره ، ولا يستطيع ممارسة الحياة الطبيعية بغير ذاك.
ولا أظن أن بشرا سويا يستطيع أن يعيش من غير أن يحب ويحب (بكسر الحاء في الأولى وفتحها في الثانية )
كيف ستكون حياته من غير حب ؛ قهر وقسوة وظلم وبطش وغضب ومشقة وشقاء وضنك، وهلم جرا من سيل المعاني التي خلاصتها غاية البؤس والنكد
إنها معاني قد يصاحبها الهوس والجنون والكدر والهلوسة
بينما الإنسان السوي ، بنور الحب تشرق الحياة في عينية ، وتضيء الآمال سواد لياليه
فهو يتقلب بين نعيمين ؛ نعيم الحب للآخرين، من الأهل والأحباب والأصحاب والخلان والأولاد والزوجات والأقارب والأرحام وسائر الناس الذين هم عباد الرحمن
ونعيم تبادل الحب وجني ثمرات من كل هؤلاء ، الذين أغدق عليهم من فيض محبته ومشاعره الحانية الممتلئة بالرحمة والمودة والحنان ، فهو سعيد في نفسه، سعيد مع غيره ، فيصبح آمن في سربه، معافى في نفسه، ومستريح البال بين أهله وعشيرته وسائر أبناء مجتمعه، فيأمن مكرهم ويغلق أبوابا مؤكدة وشديدة من مكرهم وشرورهم.
فيورثه هذا سعادة في نفسه وراحة في حياته تشرق معها ابتسامته العريضة الجميلة ليضيء بها جوفه ووجدانه وينير بها وجهه وكيانه ، ويشع بها سعادة لجلسائه وأعوانه واقرأنه ، وخلطائه وشركائه.
ومع ذلك ( عداد الحسنات) يجري بلا توقف من كثرة التبسم في وجوه الآخرين، فما الذي يوقفه، وصاحبه لا تخمد جذوة السعادة في أعماقه، نتيجة لوقود المحبة الذي يحمله في كل لحظات عمره وحياته.
انه يحقق بهذا المعنى مقصدا شرعيا تساهل به الناس في هذا الزمان، وشأنه والله عظيم
فهل يستطيع إنسان (سوي) أن يعيش حياة سعيدة من غير هذا المعنى الكبير، أنا اشك (والله )
حب من نوع آخر:
إن اكبر من ذلك إن يعيش الإنسان متقلبا في حب من نوع أخر له دلالات اكبر مما ذكرت وله مقامات غير التي شرحت، وله اثر محقق ومؤكد في حياة الإنسان وواقعه، وفي دنياه وأخراه
انه الحب لله ، والحب في الله
الهي:
فليتك تحلو والحياة مريرة ...... و ليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... و بيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... و كل الذي فوق التراب تراب
لقد تحقق لدى القائل مقام الحب لله حتى تضائل معه حب من سواه، وتمنى حب الله ولو غضب الآخرون ، ونحن نستطيع أن نحقق مع حب الله ، الحب في الله ، وهو حب من يحبه الله
وأعلى واجل ما يحبه الله ، من الناس؛ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا
ومن الأشياء ، هذا الدين العزيز والهدي القويم والصراط المستقيم ، والذي حمله القرآن الكريم ، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم ) ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين ، تنزيل من رب العالمين.
فما علاقة مصطلح الإدارة بالحب :
طالما عرفنا الإدارة بأنها: تنفيذ الأعمال من خلال الآخرين ، أو تحقيق الأهداف بأعلى كفاءة واقل تكلفة وأسرع وقت، فلننظر في بعض التطبيقات العملية التي تجلي الأمر وتوضح المقصود.
أولا : الحب وإدارة شئون الأسر والبيوت :
هل يستطيع الرجل في بيته أن يدير أسرته بغير الحب؟
إذا قرر باني البيت ورب الأسرة أن يمارس منهج الحب في إدارة شئون البيت، فستحل مشاعر الرحمة والكرم والتربية الحميدة الفاضلة الناشئة عن قلب رحيم يملؤه الحب والوفاء وحب الخير والسعادة لأفراد أسرته الغالية، حينها ستتزاحم مشاعر الرضا في نفوس أفراد الأسرة، فتراهم يسارعون ويتسابقون في (مبادلة الحب بالحب ) ردا للجميل ، انطلاقا من القاعدة القرآنية، والحقيقة الشرعية : (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)
وحينها يأمرهم فيستجيبون وينهاهم فيطيعون، بكل إخلاص ومحبة وتفان.
لقد قضت المحبة على كثير من أسباب الشقاق والنزاع والانحراف بين أفراد العائلة
و ساد عنصر التوجيه والترغيب بدلا عن القسوة والترهيب في امتثال الأوامر واجتناب النواهي
والعكس صحيح:
إذا انعدم عنصر الحب في البيت ، فستحل الغلظة والخشونة والقسوة، محل اللين والمودة والرحمة ،
وحتى تسير أمور البيت ولا تتعطل شئون البيت ، لابد من استخدام أساليب غير محببة تجاه الأفراد ، وسيضطر الوالد معها - آسفا - لاستخدام، القسوة والشدة والحرمان، وقد تتطور الأمور إلى استخدام وسائل (غير أخلاقية ) من الشتم والسب والتجريح ، وربما ساءت الأحوال وتدهورت الأوضاع إلى أحوال لا يعلم عواقبها إلا الله.
إذا لعلنا اتفقنا ، أن البيوت حين تدار بالحب أفضل من إدارتها بغير الحب
إشكال : لكن سيرد علينا هذا الإشكال :
هل يعني أن الرجل لا يستخدم القسوة والشدة في بيته ، لتقويم السلوك ومعالجة الانحراف؟
الجواب نعم ، يمكنه ذلك ولكن بشروط ، منها :
- أن لا يكون هذا الأسلوب هو الأصل ، وإنما يستخدم وقت الضرورة فقط ، ثم يعود إلى الأصل ، وهو استخدام عنصر الحب في أسلوب الإدارة، إذا زالت الحاجة.
- أن لا يكون القصد الانتقام والانتصار للنفس أو للرأي وان خالف الحق والشرع والواقع
- أن لا يحمل نكهة الاستعلاء واستخدام النفوذ واستضعاف أفراد الأسرة التي ولاه الله إياهم، لا لمقصد تعليمي تربوي وإنما فرض وجود وإذلال وقهر
فإذا كان الأمر كذلك حينها سيتحقق ما يلي:
- لن يستنكر أفراد العائلة تغير الأسلوب حال إرادة ولي الأسرة اللوم أو العقاب، لأنهم على يقين انه خلاف الأصل في التعامل ، وإنما دفعه إلى ذلك شدة الحرص، والرغبة في المزيد من المصلحة لأفراد العائلة والخوف عليهم من الضياع أو الانحراف أو من الوقوع في خطر أو محذور.
- عند شعورهم بهذه المعاني سيرتفع رصيد الحب ، ويذعنون للتوجيهات (القاسية ) النابعة من العوامل المذكورة، بنفوس راضية مطمئنة، وان خالف ذلك هواهم.
- عند شعورهم بذلك سيشعرون أنهم في أمان وسيتحقق قدر كبير من الرضا يجوب أعماق النفوس يثمر عن استسلام تام لكل رغبات الوالد، لأنهم على يقين أن كل فعل لابد أن يكون نابع عن حب ومصلحة للجميع.
و سبحان الله الذي احكم كل شيء :
إن هذا السر في مشروعية القصاص من قتل النفس بالنفس وجلد أو رجم الزاني وقطع يد السارق، وسائر الحدود الشرعية، إن الغاية من ذلك المصلحة التامة للناس وان كان على حساب أفرادا معدودين ، بل انه يصب في كمال محبة ومصلحة الأفراد الذين طبقت عليهم تلك الحدود، لأنه سيكون تطهير ووقاية لهم من كرب أعظم وغم اكبر ، انه العذاب الأبدي السرمدي في نار جهنم والعياذ بالله، فاي الغمين والكربين يفضل هؤلاء لو كانوا يعلمون.
من اجل ذلك كان المذنبون يتسابقون إلى رسول الله (صلى الله وعليه وسلم ) ليطهرهم من ذنوبهم بإقامة الحدود الشرعية مهما بلغت قسوتها، لأنهم علموا أنها نابعة من كمال المحبة وتمام مصلحتهم الدنيوية والأخروية، فتأمل هذا الأمر ستتفتح لك آفاق رحبة من معاني المحبة.
وفي ذلك يقول الله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) أنها حياة حقيقية للمجتمعات لأنها نابعة من كمال الحب والمصلحة للناس ولوكره المجرمون والمذنبون والمفرطون
إذن لعلنا اتفقنا أن الحب أصل عجيب في إدارة شئون الأسر والبيوت
ثانيا: الحب وإدارة المنظمات والمؤسسات والشركات :
تأملت كثيرا خلال رحلتي مع علم الإدارة في عنصر مهم يجب على المدراء والمشرفين والمنفذين وسائر المتعاملين مع العنصر البشري مراعاته وتفهمه لأنه سر من أسرار نجاح المدير والقائد في إدارة أفرادهم.
وهذا العنصر مصب وخلاصة لكل تصرف أو فعل مقصود أو غير مقصود من المدراء والمشرفين
وهو أحيانا لا يحتاج إلى أموال طائلة من اجل تحقيقه ، فقد يتحقق بمجرد كلمات حانية أو لفتة مودة وحنان من المشرف
هذا العنصر أصل حماس العاملين لتحقيق الانجاز المطلوب ، وانعدامه أو ضعفه سيؤثر بطريقة مخيفة للغاية على إنتاجية العاملين
ذلك العنصر العجيب هو الذي يسمى في علم الإدارة (بالرضا الوظيفي )
انه الرضا عن المدير والإدارة والمشرفين والمؤسسة
هذا الرضا هو الذي يجب أن يسعى المدراء لتغذيته باستمرار والحذر من التلاعب به، لأنه سيسبب العنصر السلبي المقابل وهو (الإحباط)
إن الإحباط عكس الحماس الذي هو نتاج كثرة الر ضا، و هو نتيجة من نتائج عدم الرضا، وإذا تمكن الإحباط من النفوس فلن تتحمس للقيام بأداء الإعمال بكفاءة أعلى وتكلفة اقل ووقت أسرع.
وقد تنجز الأعمال ولكن لا نضمن الكفاءة العالية والتكلفة القليلة والوقت الأقل.
إن المدير الموفق هو الذي يفقه هذه المسألة من خصوصيات السلوك الإنساني، فيتعامل بمسئولية عالية مع ذلك الرضا فينميه ويرعاه ، فإذا به يجد فريقا متآلفا ، وأعمالا منجزة، وحينها يستطيع أن يراهن على الجودة العالية والإنتاجية المرتفعة والتكلفة المنخفضة والوقت الأسرع .
وبغير ذلك سيكون أصعب شيء عليه الوصول حتى إلى اقل النتائج المرضية
معادلة مهمة :
رضا مع المزيد والمزيد من الرضا سيؤدي إلى الحماس ثم الولاء الوظيفي (ويعني شدة الحب مع تعصب أحيانا للمحبوب) وذلك يؤدي إلى التعاون والذي يؤدي بدوره إلى التضحية والتفاني من اجل المؤسسة
فإذا بلغ العامل هذه المرحلة حينها يصير العمل بالنسبة له متعة وراحة وتسلية،وأولوية لا يفضل عليها شيء، ويقدمها على كل أحد ، فيؤدي عمله كمهمة ورسالة، وليس مجرد وظيفة، وحينها ينسى وقته ويضحي بجزء من ماله ووقته من اجل المؤسسة التي رضي عنها وتولاها.
لعلكم اقتنعتم معي بأهمية الرضا الوظيفي في العملية الإدارية وانه أصل وأساس انجاز الأعمال ومنشأ الرهان على الجودة والتكلفة المنخفضة والسرعة والإنتاجية العالية.
هل تعلمون أن الرضا هو ثمرة من ثمرات الحب
إن الحب الحقيقي هو وحده الذي يحقق ذلك الرضا
ليس الحب المزيف ولا الأنظمة الجامدة والهياكل الجوفاء، ولا الإجراءات الإدارية ولا لوائح العقوبات الصارمة، هي التي تصنع ذلك الرضا
إن الرضا إحساس (حساس) ، يصنعه الشعور العميق بالمحبة والحرص على مصلحة العامل الذي يفني عمره وشبابه في هذه المؤسسة
إن الرضا ثمرة من ثمرات تقدير الذات للعامل وإشعاره بأهميته وإنسانيته، وانه صاحب قيمة ووزن لدى المتنفذين في مؤسسته
إن الرضا ثمرة من ثمرات الشعور بالعدل التام البعيد عن الميل إلى المجاملة والمحسوبية
كل هذه المعاني تولد صورا عديدة من صور محبة العاملين وإرادة سعادتهم ومصلحتهم، فإذا تيقنوا من ذلك حينها يتحقق رضاهم ، وحينئذ ينجح المدير وتنجح المؤسسة في إدارة إفرادها لتحقيق أهداف المؤسسة
ثالثا: لولا محبة الله ما طابت الحياة ولا استرخص المؤمن كل نفيس في سبيل الله:
محبة الله تعالى من اجل المعاني في هذه الحياة، فلولاها ما تعبد المتعبدون ولا زهد في الدنيا الزاهدون ولا جاهد المجاهدون وسفكوا دمائهم وتركوا ديارهم وأوطانهم ورضوا باليسير من الحياة الذي يسد رمق العيش
إن محبة الله أمل الآملين وسعادة المؤمنين وقرة عيون الموحدين ،إنهم يسعون ليوم ينظرون فيه إلى وجه خالقهم العظيم، وان يسمعوا ندائه الكريم ، يا عبادي بقي عندي لكم موعدا أريد أن أنجزكموه ، وهو أن احل عليكم رضواني فلا اسخط عنكم أبدا.
إنها لحظة الولادة الحقيقية للمؤمنين ، لقد ضحوا بالكثير من اجلها، فمنهم من فارق الأهل والعشيرة ومنم من ترك المال والعيال، ومنهم من قتل ومنهم من شرد، وكل ذلك هين من اجل محبة الله ورضوان الله الحكيم الحميد
السؤال ، ما علاقة هذا الأمر الشرعي الديني بالموضوع المطروح
إن العلاقة تأتي من صدق المحبة بين العبد وربه، فكلما تغلغل هذا الحب وبلغ مداه وغايته، في قلب العبد لمولاه، استسهل في سبيله كل المشاق وتضاءل معه كل كبير، وهان معه كل عسير، لم يبق إلا شيء واحد يملأ حياته ووجدانه هو حب الله والرضا عنه وقبول أعماله.
لذلك فهو في اشد الخوف ألا يتقبل الله منه، فتجده يضحي أكثر ويعمل اكبر ويخلص اشد، أملا أن يتقبل الله منه
أما إذا أساء فلا تسل عن بليته ومصيبته ولا تفتش عن حرقته وعظيم حزنه وألمه، انه خائف أن يطرده مولاه ويسخط عليه ولا يبالي به ،ولا يقبل توبته
أما إذا أعطاه شيئا من أمور الدنيا ومناصبها فتراه يتقلب بين الشكر الجزيل والدعاء العريض، بان يرزقه شكرها وان لا (يخصمها) عليه من النعيم المقيم في الجنة دار الخلود
هكذا يفعل الحب بالعباد العاملين ، وتلك طريقة الزهاد الراكعين الساجدين ، لأنهم علموا سر التعامل مع العليم الخبير، وعلموا حبه لهم ومنته عليهم ورزقه غير المنقطع عنهم، فهو يكلؤهم بنعمه وفضله، لا يصعد منهم نفس إلا بأذنه ولا يعود إلا بفضله، ولا تطرف عين إلا بإرادته
إنهم مهما بذلوا من عمل صالح لن يستطيعوا أن يوفوا ربهم حقه من الشكر والعبادة
فعوضوا ذلك، بحبه وحب كل من يحبه، وبذلوا ما يستطيعون من العمل الخالص (جدا ) لعله ينميه ويتقبله بفضله وكرمه
إذن :
هل يصلح أن يكون الحب الذي استعرضنا بعضه، منهجا للإداريين والقادة أن يقودوا بذالك عمالهم وموظفيهم
تأملوا هذا ستجدون الجواب ظاهر كالشمس في رابعة النهار
انه منهج وطريقة تصلح لان تنجز فيها الأعمال بكفاءة عالية وتكلفة اقل ووقت أسرع، والذي سبق أن اتفقنا معكم أنها هي تعريف الإدارة
رابعا : الحب أعظم منهج مارسه النبي (صلى الله عليه وسلم) مع أصحابه وإتباعه:
كل المؤمنين يعرفون أن الله وصف نبيه في كتابه الكريم بصفتين من صفاته، وهما صفتي الرأفة والرحمة، قال تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم )
وأدبه ربه بآداب مهمة هي الوسيلة المثلى في قيادة البشر ، وهي قوله تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)
وكل مؤمن يعلم شدة محبة النبي (صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه ، وشدة حرصه على هدايتهم طمعا منه في أن يرضى الله عنهم فيدخلهم الجنة
الأعجب انه (صلى الله عليه وسلم ) حريص ومحب حتى للمشركين وحتى على أهل الكتاب ، كما ثبت في سيرته العطرة من علاقته وحرصه على هداية عمه أبي طالب ، وشدة فرحه حينما اسلم ذلك الشاب اليهودي قبل موته، فخرج من عنده فرحا مسرورا وهو يقول : ( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)
الهي:
ألهذا الحد، يصنع الحب بأصحابه؟
ألهذا لحد، يكون الحب بدون حدود إلا حد واحد ، أن يبذل للجميع يما يحقق مصلحتهم وسعادتهم وبما يحقق رضا مولاهم وخالقهم عنهم.
كيف كانت الثمرة من ممارسة منهج الحب في حياة النبي (صلى الله غليه وسلم ):
هل كان لدى النبي (صلى الله عليه وسلم ) لوائح ونظم اخضع الناس بها من اجل طاعته؟
أم كان لديه حرسا خاصا وأعوان أقوياء يأطرون الناس على تلبية أوامره ونواهيه؟
كلا ، لم يوجد هناك إلا أمران اثنان :
الأول : قيم حميدة سامية حملها القرآن الكريم فتشربها قلب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ،حتى فاضت على لسانه وجوارحه.
والثاني: قلب مملوء بحب الخير (كل الخير) حتى للمخالفين ، حب حقيقي بلا تصنع ولا مجاملة ولا تزلف، وإنما منهج حياة يمارس على ارض الواقع، ويبذل للجميع بلا حدود إلا ما يغضب الله تعالى.
الثمرة :
أحبه الأعداء قبل الأصدقاء، كل من سمع به ورآه يحبه حبا عظيما ، كلام آسر، قلب بالحب نابض ، وجه مشرق محب دائم التبسم، رحيم ، ودود.
إلى درجة انه لم يقل لخادمه طيلة عشر سنوات عن شيء فعله لم فعلته وعن شيء لم يفعله، لم لم تفعله
هذا شأنه مع خادمه (انس) فما الظن بأدبه مع سائر الناس.
لقد جرب احد الصحابة حظه مع النبي (صلى الله عليه وسلم ) حينما لاحظ انه كان يحبه حبا عظيما ، حتى ظن انه لا يحب أحدا من الصحابة أكثر منه ، فتجرأ ذات يوم فسأله، من أحب الناس إليك يا رسول الله ، فقال بتلقائية عجيبة ، وبصدق وثقة ، تنم عن شخصية فذة ، قال : ( عائشة ) ، قال: ومن الرجال ، كان ينتظر أن يجد جوابا يؤكد له الخواطر التي تجوب في جوفه، لكنه فوجئ بجواب أكثر صراحة وبساطة : (أبو بكر) قال ثم من قال (فلان ) غيره، فتوقف عن السؤال معلقا (خشيت أن لا يذكر اسمي أبدا ) طبعا لكثرة من يحبهم النبي بصدق، أكثر من هذا الصحابي ، وهو يشعر انه أحب الناس إليه.
هذا الصحابي هو عمرو بن العاص (رضي الله عنه)
لقد اكتشف أن أحباب النبي غيره كثير جدا، لكنه اكتشف أيضا انه يحب الجميع حبا كبيرا حتى يظن الظان انه ما يحب أحدا سواه
انه منهج حياة
لذلك كان إذا أمرهم أطاعوه وإذا نهاهم عن شيء اجتنبوه
لقد بلغهم أمرا ربانيا بكلمات يسيرات ، كان هذا المر يتعلق بخصلة متأصلة في حياة الناس في ذلك الزمان ، إنها خصلة وآفة شرب الخمر
قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) المائدة 91
قال الإمام ابن كثير في تفسيره:
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيي بن سعيد، عن حميد، عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح، وأبي بن كَعْب، وسُهَيْل بن بيضاء، ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم، حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آت من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فما قالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس اكف ما بقي في إنائك، فو الله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذ.أخرجاه في الصحيحين -من غير وجه- عن أنس
وفي رواية حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ، فإذا مناد ينادي، قال: اخرج فانظر. فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حُرّمت، فَجرت في سِكَكِ المدينة، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فَأهْرقها. فهرقتها،
وقال أيضا :
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دُجَانة، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر. فسمعت مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حُرّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أمّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }
وما قصة تحول الكعبة عنكم ببعيد :
قال ابن كثير في تفسيره :
حدثنا زهير، عن أبي إسحاق، عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صَلّى صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان يصلي معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صَلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكَّة، فداروا كما هم قبل البيت
انظر العجب لم يتوقفوا حتى يتأكدوا من الخبر ولم يتوقفوا حتى تتم صلاتهم ، لقد داروا وهم في الصلاة جميعا الإمام والمأموم ، فريق واحد (إن صح التعبير)
أي شيء هذا إنها الطاعة العظيمة لله ولرسوله ، انه الإخبات والإذعان ،
ترى كيف تولدت هذه المعاني،
لقد تولدت نتيجة لتربية النبي الخاتم، التي كان أبرز صفاته، الحب العظيم والحرص على مصلحة الناس ، حتى عرف هذا عنه وعلم صدقه في ذلك،حينها انقادت له الناس ودخلوا في دين الله أفواجا.
خاتمة:
أيها المدراء أيها المربون أيها الآباء أيتها الأمهات أيها الزعماء والقادة والوزراء والأمراء،
هذا هو شأن الحب، وهذا شانه العظيم في كيف يجعل الناس ينفذون كل ما تريدون بمحبة وطواعية بل بشغف ورضا
نحن لا نمانع من استخدام الأنظمة واللوائح، لا ضير في ذلك بل إنها من ضرورات العمل المؤسسي
ولا نمانع من استخدام الآلات والتقنيات الحديثة، بل هي بدهية من بديهيات المؤسسة العصرية
إن كل هذه تساهم في انجاز الأعمال بوتيرة عالية
لكنها لا تمنح الحب والوفاء واحترام المشاعر والنفوس
إن الذي يمنح كل ذلك هو انتم
أنت أيها الإنسان بما حباك الله من قدرة لا توجد لدى الأجهزة والمعدات والأنظمة والقوانين
إنها بيدك أنت وستكون رهن إشارتك وطوع بنانك
لكنها فقط ستنفعك متى ما قررت أن تمارس الحب في طريقة إدارتك للناس
حينها سيتحقق لك من انقياد الناس لك فوق ماكنت تتصور وتريد.
جربوا هذه الوصفة العجيبة، تنجحوا بإذن الله تعالى.
ودمتم سالمين ///