يتعذب مريض الوسواس كثيرا بسبب أعراض مرضه ربما أكثر من أى اضطراب نفسى آخر خاصة حين تكون وساوسه أو أفعاله القهرية متصلة بموضوعات دينية ذات حساسية خاصة , فمثلا تأتيه الوساوس فى صورة شكوك فى العقيدة أو فى الرسالة أو الرسول , أو تأتيه فى صورة اندفاع نحو سب الذات الإلهية أو إنكار وجودها أو تخيلها فى صور لا تليق بها , وكثيرا ما تأتى هذه الأفكار أو التخيلات فى أوقات شديدة الأهمية من الناحية الدينية كوقت أداء الصلاة أو الصيام أو أعمال الحج , فتفسد على المريض إحساسه بالعبادات وخشوعه فيها , وتجعله يشعر أنه لم يؤدها بشكل سليم فيعاود أداءها مرات ومرات لعله يحسنها , ولكن دون جدوى فيدخل فى دائرة مفرغة بلا نهاية . 

 

والسؤال المهم هنا والذى يسأله المريض لنفسه ولشيخه ولطبيبه : هل أنا مسئول عن كل هذا , وهل ما زلت مؤمنا بعد كل هذا الذى حدث ؟ .. وإذا كنت مسئولا فكيف أتغلب على ما يحدث وقد حاولت مرارا وفشلت ؟ .. والمريض الوسواسى غالبا يميل إلى أن يلقى بالتبعة على نفسه لأنه يملك ضميرا شديد القسوة يحمله تبعات كل شئ , وهنا يصل إلى نتيجة وهى أنه أصبح خارج دائرة الإيمان , أو خارج دائرة الحلال , أو خارج دائرة الرحمة لأنه لا يستحقها , وكل هذه المشاعر تزيد من حدة أعراض الوسواس القهرى , وكثيرا ما تؤدى إلى إصابة المريض بحالة من الإكتئاب تضاف إلى الوسواس القهرى . ومما يزيد الأمر تعقيدا أن بعض علماء الدين الذين يستشيرهم الوسواسى يجيبونه بما يفيد مسئوليته عما يحدث ويطالبونه بتصحيح عقيدته ودوام التوبة والإستغفار مما يفكر فيه أو يهم به أو يفعله , فيتوجه المريض نحو نفسه بجرعات أكبر من اللوم , وتتعاظم لديه مشاعر الذنب فيزداد وسواسا ويزداد اكتئابا , وهذا يعكس أهمية أن يعرف علماء الدين طبيعة مرض الوسواس القهرى , وكيفية التفرقة بينه وبين وسوسة الشيطان , وهذا ما سيأتى ذكره لاحقا .

 

  من هنا تبدو أهمية العودة إلى النصوص الدينية الصحيحة التى تعاملت مع الظاهرة الوسواسية لكى يعرف المريض مدى مسئوليته أو عدم مسئوليته عما ألم به , ومن الضرورى أن يلم الطبيب النفسى بهذه النصوص ويذكرها لمريضه كجزء من العلاج , وأن لا يكتفى فقط بالعلاج الدوائى . سئل الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- السؤال التالى : يخطر ببال الإنسان وساوس وخواطر وخصوصا فى مجال التوحيد والإيمان , فهل المسلم يؤاخذ بهذا الأمر ؟ .. فأجاب فضيلته : ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصحيحين أنه قال : "إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم" (متفق عليه) , وثبت أن الصحابة رضى الله عنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عما يخطر لهم من هذه الوساوس والمشار إليها فى السؤال فأجابهم صلى الله عليه وسلم بقوله :"ذاك صريح الإيمان" (رواه مسلم) , وقال عليه الصلاة والسلام : "لايزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخالق فمن خلق الله ؟ , فمن وجد من ذلك شئ فليقل آمنت بالله ورسله " (متفق عليه) , وفى رواية أخرى "فليستعذ بالله ولينته" (رواه مسلم) . يقول النووى : وظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها من غير استدلال ولا نظر فى إبطالها , فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر فى دليل إذ لا أصل له ينظر فيه , وأما قوله : فليستعذ بالله ولينته , فمعناه : إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى فى دفع شره عنه وليعرض عن الفكر فى ذلك , وليبادر إلى قطعه بالإشتغال بغيره (انتهى كلام النووى) .

  

وهنا ينبغى التنويه إلى أن دور الشيطان فى الوسواس يقتصر على إلقاء الفكرة إلى الموسوس له كما فى قوله تعالى : " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم" (الأنفال 48) , فلو صادفت الفكرة إنسانا سليم الفكر فسوف يتجاهل عقله الفكرة ويطردها بعد الإستعاذة بالله والإستغفار والإنتهاء , أما إذا صادفت إنسانا مريضا فسوف تتضخم وتتكرر وتتسلط وتستحوذ على العقل ( محمد شريف سالم : الوسواس القهرى , فولكانو للطباعة , الإسكندرية) .  

 

 وروى مسلم عن عبد الله قال : سئل رسول الله عن الوسوسة قال : "تلك صريح الإيمان" (أى كراهية الأفكار الوسواسية والشعور بالألم بسببها دليل على الإيمان بالله تعالى , فالملحد لا يتألم لإنكار الله أو سبه بل يستمتع بذلك ويتباهى به ) .

 

  وروى الإمام أحمد بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما قال : "جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنى لأحدث نفسى بالشئ لإن أخر من السماء أحب إلى من أن أتكلم به . قال : الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة " ( ورواه أيضا أبو داوود والنسائى , والحديث صحيح) . وفى صحيح مسلم بشرح النووى باب : "بيان الوسوسة فى الإيمان وما يقوله من وجدها فيه" , عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : جاء ناس من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فسألوه : إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : وقد وجدتموه ؟ قالوا : نعم , قال : "ذاك صريح الإيمان " , وفى الرواية الأخرى :  سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال : "تلك محض الإيمان " . فقوله صلى الله عليه وسلم : ذاك صريح الإيمان , ومحض الإيمان معناه استعظامهم الكلام به هو صريح الإيمان , فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك . وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن يئس من إغوائه , فينكد عليه بالوسوسة .    

 

 وتأتى مسألة أخرى يعانى منها نسبة من الموسوسين , وهى الخوف الشديد من التلفظ بالطلاق بشكل صريح أو بالتلميح , والرعب الهائل من أن يكون الطلاق قد حدث بسبب ذلك , وهنا لا يكف الوسواسى عن سؤال من حوله : هل وقع منى الطلاق أم لا ؟ وتفشل كل المحاولات لإقناعه بأن الطلاق لم يقع , ويظل يتنقل من شخص إلى شخص فى أسرته يسأله ثم ينتقل إلى علماء الدين يلح عليهم فى السؤال حتى يضيقوا به وبإلحاحه فينهروه أو ينصحوه بالذهاب لطبيب نفسى . عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : "إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها مالم تعمل به أو تكلم " . وهذا الحديث رواه البخارى (5269) فى كتاب الطلاق , باب الطلاق فى الإغلاق , ومسلم (127) فى كتاب الإيمان , باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر , وأبو داوود (2209) فى كتاب الطلاق (باب فى الوسوسة بالطلاق) , والترمذى( 01183) فى كتاب الطلاق (باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته ) , وابن ماجه (2044) فى كتاب الطلاق (باب طلاق المكره والناسى) . وقال الصنعانى فى كتابه "سبل السلام فى شرح بلوغ المرام" : والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق بحديث النفس , وهو قول الجمهور , وأن الله تعالى لا يؤاخذ الأمة بحديث نفسها وأنه "لايكلف الله نفسا إلا وسعها" , وحديث النفس يخرج عن الوسع , والحديث دليل على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأمة المحمدية إذا صدرت عن خطأ أو  نسيان أو إكراه , وطلاق المكره لا يقع عند الجمهور , وقد استدلوا بقوله تعالى "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" , وقال عطاء : الشرك أعظم من الطلاق , وقرر الشافعى الإستدلال بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه وأسقط عنه أحكام الكفر , كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر , لأن الأعظم إذا سقط سقط ماهو دونه بطريق الأولى . وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الوسوسة فى موضوع الطلاق فقال –رحمه الله- : المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه حتى لو تلفظ به بلسانه إذا لم يكن عن قصد , لأن هذا اللفظ باللسان يقع من الموسوس من غير قصد ولا إرادة , بل هو مغلق عليه وكره عليه لقوة الدافعة وقلة المانع . وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : "لا طلاق فى إغلاق" , فلا يقع منه طلاق إذا لم يرده إرادة حقيقية بطمأنينة , فهذا الشئ الذى يكون مرغما عليه بغير قصد ولا اختيار فإنه لا يقع به طلاق (نقلا عن فتاوى إسلامية 3/277) . وقد كان فريق من العلماء يفسرون الإغلاق على أنه الجنون أو أى حالة تفقد الشخص القدرة على التمييز أو حرية الإرادة , والوسواس القهرى على الرغم من أنه ليس جنونا بالمعنى الدارج إلا أنه مرض يتميز باقتحام أفكار معينة لوعى الإنسان دون إرادة أو اختيار منه , وهو يدرك عدم منطقيتها وعدم صحتها ويحاول مقاومتها دون جدوى , وقد يدفعه المرض لتكرار أفعال بعينها بشكل قهرى , ولهذا يدخل فى نطاق الإغلاق المذكور فيما يخص موضوع الوسوسة . وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تعالى وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . حديث حسن رواه ابن ماجه (20459 ) فى كتاب الطلاق (باب طلاق المكره والناسى) . وواضح من تكرار رواية هذه الأحاديث بواسطة الكثيرين من الفقهاء أن الموضوع كان محل تساؤلات ملحة من الوسواسيين , وهذا ما نراه حتى الآن من عذابات الموسوسين الذين يسألون من حولهم عما إذا كانوا قد تلفظوا بكلمة الطلاق أو أى كلمة تشبهها أو قريبة الدلالة منها أو حتى أى فعل أو إشارة ذات علاقة بالطلاق , ويحاول المريض استفتاء علماء الدين وينتقل من عالم إلى آخر ولا يصل لقناعة أبدا , وإذا وجد أى اختلافات بين العلماء جرى وراءها ووسع نطاقها لكى تظل شكوكه حول موضوع الطلاق بلا إجابة , ومنطقه فى هذا الأمر أنه يخشى أن تكون حياته مع زوجته قائمة على الحرام , وهذا أمر شديد الخطورة بالنسبة له .  

 

 وقد يتساءل مريض الوسواس : كيف أفرق بين وساوس الشيطان وبين الوسواس القهرى , والإجابة على ذلك هى أن وسوسة الشيطان تكون فى أشياء محببة إلى النفس خاصة تلك المتصلة بالغرائز والشهوات , فى حين أن الوسواس القهرى يكون فى أشياء ترفضها النفس وتتألم بسببها ومع هذا لا تستطيع دفعها , وفى حين أن وسوسة الشيطان يمكن دفعها بالإستعاذة فإن الوسواس القهرى يعاود الإلحاح حتى مع الإستعاذة . والوسواس القهرى مرض يسببه خلل كيميائى فى المخ , ويحتاج إلى علاج دوائى وعلاج سلوكى . وبما أن الوسواس القهرى مرض فإن المصاب به يثاب على معاناته فى المرض حتى فى حالة وجود الأفكار الوسواسية المتصلة بالعقيدة فهو يتألم منها ويحاول الخلاص ولكنه لا يستطيع دون وجود مساعدة متخصصة , وهذا فرق جوهرى كبير بين أن يشعر الوسواسى المريض أنه خرج من دائرة الإيمان وبين أن يعرف  أنه فى حالة احتسابه لآلام المرض يثاب عليها من رب رحيم  يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ولا يكلف نفسا إلا وسعها.

 

المصدر: دكتور / محمد المهدى
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 163/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
54 تصويتات / 2411 مشاهدة
نشرت فى 28 أغسطس 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,879,049

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters