المصلحة في اللغة: اختلفوا في أصلها الاشتقاقي هل هي مصدر بمعنى الصلاح أو هي اسم مكان على سبيل المجاز بمعنى المكان الذي يكثر فيه الصلاح.. أما عن المعنى الاصطلاحي فهي "المحافظة على مقصود الشارع بجلب المنافع ودفع المفاسد" وهذا أقرب التعريفات وإن تحدث العلماء طويلاٌ واختلفوا حوله.<!-- edit note -->
وعليه فإنه يلزم مراعاتها من جهة الفعل "وهو الموافقة الشكلية" ومن جهة المقصد "وهو الموافقة الباطنية" لذا ذهب كثير من العلماء إلى تحريم معاملات وافقت الشرع من جهة الشكل وإن خالفته باطنا مثل بيع العينة ومثل الحيل وزواج المحلل وما شابه ذلك.. إذ أن الفاعل قصد إلى فعل المحرم وإن وافق شكل عملية الشرعي.. يقول الشاطبي "مقاصد الشارع في وضع الشريعة إبتداءا هي أنها وضعت لمصالح العباد في الدارين.. من ثم كان كل حكم من أحكامها الكلية أو الجزئية يمثل المصلحة ويعمل في نطاق تحقيقها وتوكيدها"..
والحقيقة فالمصلحة الخالصة التي لا مفسدة فيها وكذا المفسدة الخالصة التي لا مصلحة فيها تعز وتندر ولكن عادة ما تشوب كل منها شائبة من الأخرى ولذا فقد قسم الطاهر بن عاشور صور المصالح والمفاسد إلى أربعة...
1.أن يكون النفع أو الضرر محققا مطردا كالنفع المحقق في استنشاق الهواء والتبرد بالماء في شدة الحر.
2.أن يكون النفع أو الضرر غالباً واضحاً تنساق إليه عقول العقلاء كإنقاذ الغريق مما فيه من تعب المنقذ أو شدة البرد لكنه لا يعد شيئا إلي جانب المصلحة في الإنقاذ.
3.أن يكون أحد الأمرين من النفع أو الضرر مع كونه مساويا لضده معضودا بمرجح من جنسه مثل تغريم من أتلف مال أخيه فرغم تساويهما في حصول الضرر بعد وقوع الأمرين إلا أن النفع رجح بما عضده من العدل والإنصاف.
4.أن يكون أحدهما منضبطا محققاً والأخر مضطرباً مثل الضرر الذي يحدث عن خطبة المسلم على خطبة أخيه فإن ما يحدث من ذلك عند مجرد الخطبة قبل المراكنة والتقارب ضرر مضطرب بينما الضرر اللاحق بالمرأة والراغبين في خطبتها محقق إذ قد يفوت عليها الأكفاء لمجرد أن أحداً خطبها دون حصول أي ركون.
·والآن ما هي أنواع هذه المصالح؟
للعلماء في تقسيم المصالح صور مختلفة نختار منها نوعية التقسيم بحسب أهمية هذه المصلحة.
1.المصالح الضرورية..
وهي أعلى هذه المصالح مرتبة ويعرفها العلماء بأنها المصلحة التي لا بد منها لقيام مصالح الدارين بحيث إذا فقدت أختل النظام واضطربت أمور الناس.
2.المصالح الحاجية..
وهى المصلحة التي يفتقد إليها للتوسعة ورفع الحرج الذي يلحق ألوان المشاق بالجمهور ويتسبب في تفويت مطالبهم .
3.المصالح التحسنية..
وهو ما كان من كمال حال الأمة ورفاهيتها بحيث إذا فقد لم يخلف أثراً للحرج والمشقة وإنما غايته تحسين الحال وتحسين مظاهر الأمة.
ثم أن العلماء أضافوا لهذه المصالح الرئيسية الأصلية مصالح أخرى تكميلية تنضم إلى كل نوع مما سبق كالتكملة لها وهى ليست من جوهرها المكون لها وإنما متممة لحكمتها ووسيلة إلى إقامتها وحفظها .
هذه هي الصورة الأولى في التقسيم من حيث أهمية تلك المصالح أما الصورة الثانية من حيث اعتبارها فقد اعتبر الشارع مصالح نص عليها سماها العلماء "المصالح المعتبرة" وألغى أخرى رفضها صراحة ونصا سموها "المصالح الملغاة" ثم سكت عن ثالثة لم يصرح باعتبارها أو إلغائها فسماها العلماء "المصالح المرسلة" وقد أفاض العلماء في الحديث حول النوع الأخير لضبطه وحمايته من الأهواء في دراسات كثيرة يرجع إليها في مظانها.
ونعود إلى المرجع في تحديد المصالح والمفاسد فقد انقسم العلماء في الحديث عن هذه المرجعية إلى ثلاث مدارس رئيسية نوجزها فيما يلي .
·مدرسة المعتزلة..
وقد أرجعت تحديد تلك المصالح إلي العقل السوي حتى قال القاضي عبد الجبار لما تحدث عن الأدلة الواجب إتباعها معللاً تقديمه العقل عليها جميعاً "لأن به يميز الحسن والقبيح ولأن به يعرف أن الكتاب حجة وكذلك السنة والإجماع وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم فيظن أن الأدلة التي هي الكتاب والسنة والإجماع فقط أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر وليس الأمر كذلك"..
·مدرسة الأشعرية..
وقد غالت في مواجهة المعتزلة حتى قالوا لا مكان للعقل في معرفة حسن الأشياء وقبحها أو هذه مصلحة أو مفسدة إذ المرجع في ذلك الوحيد للنص ومن ذلك قول الجويني "العقل لا يدل على حسن الشيء ولا قبحه في حكم التكليف وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع وأصل القول في ذلك أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له وكذلك القول فيما يقبح وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله أو المساوي له".
والحقيقة أن كلا الفريقين غالى في هذه المسألة ولعل حيرة الخصومة بينهما وكثرة المناظرة كان مؤثراً في رأيهم.. وقد نحا أبو منصور الماقريدى إلى طريقة وسط بين الفريقين ونحا نحوه كثير من علماء السلف فذكروا أن المصالح والمفاسد تعرف بالعقل السوي وان التكليف منوط بالشرع يقول العز بن عبد السلام "معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل وكذلك معظم الشرائع إذ لا يخفي على عاقل قبل ورود الشرع.. أن تحصيل المصالح المحصنة ودرأ المفاسد المحصنة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن".
"لذلك فإن مالكا كان يشترط فيمن يتعرض إلى النظر في المصلحة أهلية الاجتهاد ليكون الناظر متميزا بأخلاق الشريعة فينبو عقله وطبعه عما يخالفها" ذكر ذلك عنه القرانى في نفائسه.
بقي أن نتحدث عن تعارض المصالح في عجالة كيف نختار بينهما.. ويتصور ذلك التعارض في صورتين..
·الأولي..
التعارض بين المصالح من حيث العموم والخصوص ويشمل أحوالاً ثلاثة...
1.التعارض بين مصلحة عامة وأخرى خاصة فكلا المصلحتين معتبر شرعا وإلغاء المصالح العامة لصالح الخاصة كما هو الشأن في النظم الليبرالية مذموم وإلغاء المصلحة الخاصة لصالح العامة كما هو الحال في النظم الشيوعية أيضا مذموم وإنما نسعى للتوفيق بينهما وتحقيقهما سويا فإن لم يكن فالمصلحة العامة مقدمة على ألا تلغى الخاصة تمامًا وإنما نسعى لتعويض المضرور ومن نماذج تقديم المصلحة العامة على الخاصة مسائل مثل تلقي الركبان وتضمين الصناع وإجبار المحتكر على بيع سلعته ومثل ذلك.
2.التعارض بين المصالح العامة ذاتها ويتصور ذلك في أن تكون المصلحتان متعلقتان بعامة المجتمع أو تكون كل منها متعلقة بشطر من المجتمع... ففي هذه الحالة يتم الترجيح بحسب القانون العام لمقاصد الشريعة الذي يرجح المصالح الضرورية على الحاجية والحاجية على التحسينية أو الترجيح بين الضروريات نفسها.
3.أما إن كانت كل من المصلحتين متعلقة بشطر من المجتمع فيرجح بينهما بجامع التساوي بينهما على حسب أثر وأهمية كل منها.
4.فلو تصورنا مثلاً أن البلاد في حاجة إلى القمح لقوت الشعب وكذا إلى القطار لسفرهم وركوبهم ولا يوجد إلا ما يكفى احدهما فتقديم القوت هو الواجب إذ أن حفظ النفس من الضروريات أما السفر والركوب فمن التحسينات.
5.التعارض بين المصالح الخاصة إن كانت المصلحتان متعلقتان بمحل واحد فالترجيح يكون بقوة الأثر فلو تعارض في حق الطبيب إنقاذ مريض يحتاج لعملية جراحية عاجلة والصلاة في وقتها فإنقاذ المريض أولى إذ الصلاة يمكن أن ننتقل فيها إلى بدل من جمع أو قضاء أما المريض وحياته فلا بدل لها ويشهد لذلك فعل الخضر في السفينة.
6.أما إن كانت المصلحتان في محلين مختلفين بان تكون الأولى لشخص والثانية لشخص أخر فنرجح أيضا بقوة الأثر فلو تعارضت مصلحة شخص في تعلية جدار بيته مع مصلحة جاره في عدم انكشاف عوراته عند التعلية عدنا إلى استصحاب الأصل في عدم التعلية لما في إحداثه من إفساد العلاقة مع الجار.
·الثانية..
والصورة الثانية هي حالة التعارض بين المصالح من حيث الرتب ولها صور ثلاثة..
1.تعارض المصالح الضرورية فيما بينها تقدم على حسب ترتيب أولويتها (الدين – النفس – العقل – النسل - المال).. فلو أحتل الكفار بلداً مسلماً وتعرض الناس بسبب الاحتلال للفتنة في الدين جاز بذل المال لإخراجهم واستنقاذ الأسرى منهم.
2.تعارض المصالح من الرتب المختلفة يقدم فيه الأعلى رتبة إذ أن الحاجيات والتحسينات كالسياج للضروريات فالضروري أصل لما سواه واختلاله يلزم منه اختلال الباقين بينما لو أختل الباقون لم يختل الضروري واختلال الحاجى أو التحسيني بإطلاق قد يؤثر على الضروري بوجه ما ولذا يلزم الحفاظ عليها ولكن بما لا يتعارض مع الحفاظ على الضروري هذا موجز ما ذكره الشاطبي من قواعد لضبط هذا الترجيح.
3.في التعارض بين المصالح الأصلية والمكملة فإنه تلغى التكميلية لصالح الأصلية إذ أن إبطال الأصل يعود على التكميلية بالإبطال لأنها تبع له وحتى إن لم تبطل فإن الأصلية تكون أولى بالاعتبار لما بينهما من تفاوت فاشتراط القرشية في الإمام مصلحة تكميلية لمصلحة وجود الإمام فلا ينبغي إن غاب قرشي أهل للإمامة أن تعطل مصالح الأمة في تنصيب الإمام من أجلها بل يسقط بالقطع هذا الشرط .
أما إن تعارض مصلحة أصلية من نوع ما مع تكميلية من نوع أخر فتكميلية الضرورية مقدمة على أصلية الحاجية والتحسينية وكذا تكميلية الحاجية مقدمة على أصلية التحسينية إذ أن التكميلية فرع عن أصلها.
هذه قطرات بسيطة تلفت إلى عظمة مرونة تشريعات المصلحة ومقاصدها والموضوع أفاض العلماء في دراسته وبحثه وقد يكون لنا عودة في بعض نقاط بتفصيل أوفى.
المصدر: منتدى كلية الحقوق
نشرت فى 22 أغسطس 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,778,236