تقريب عقيدة القضاء والقدر للأطفال
من أعظم الخُلُق مع الله، والتأدب معه سبحانه وتعالى، الإيمان والتصديق بقضائه وقدره، والرضا بما كتبه على العبد في الأزل، دون اعتراض و تسخط. والناس في موضوع القضاء والقدر بين مكذب ومصدق، جاحد ومؤمن، يحاول البعض أن يدركوا بعقولهم القاصرة، وأفهامهم المحدودة كنهه وأبعاده، وهذا لا يمكن، فإن "القدر سر من أسرار الله لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل"، وقد كان الرسول r ينهى عن الخوض فيه، فقد روى أنه خرج على أصحابه ذات مرة وهم يختصمون في القضاء والقدر، فغضب غضباً شديداً، وقال لهم: "بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم"، فالخوض في هذا الموضوع بأسلوب التنازع، والتعارض أمر مذموم منهي عنه.
أما البحث فيه بالمنهج العلمي الصحيح المبني على توجيهات القرآن والسنة، من باب البيان والتوضيح، وكشف الشبهات، وإظهار الحقائق، فهو غير مذموم، بل يندب إليه ويستحب.
وقد تضمن القرآن الكريم آيات كثيرة توضح وتبين هذا الركن العظيم، مشيرة إلى أن ما يحدث في الكون عموماً من حركات، وإرادات، وأعمال، وخلق، وموت، وغيرها كل ذلك يحدث بمشيئة الله U، وعلمه السابق، وتقديره لهذه الحوادث قبل وقوعها. قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38]، وقال عز من قائل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، " أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له، وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض، فهو كما كتب كمية وصورة وزماناً ومكاناً لا يتخلف في شيء من ذلك "، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ((كتب الله مقاديرالخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))، فكل صغيرة وكبيرة قد دونت، وسجلت، ومحال منع حدوث ما قدر، أو إحداث ما لم يقدر ويكتب، فقد فُرِغ من ذلك.
ولا يفهم من سابق التقدير والكتابة أن العباد مجبرون على أعمالهم وأفعالهم، وليس لهم خيار في ذلك، فلو صح هذا - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - لكان عذاب الله للعصاة ظلماً بغير حق، وبغير جرم اقترفوه، فهم قد سيروا إلى معاصيهم دون إرادة أو قصد، كما أن هذا التصور يستلزم الاعتقاد بأن إرسال الرسل، وإنزال الكتب من العبث، كما أن الوعظ، والتذكير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك من العبث والباطل الذي لا حاجة ولا نفع من ورائه، ولا يمكن أن يقول بهذا عاقل.
والصحيح الذي يجب اعتقاده، والإيمان به: "أن الإسلام يثبت قضاء الله وقدره، وسيطرة الله مع علمه السابق على كل شيء، خلقاً وتدبيراً وتنظيماً، مع إثباته حرية الإنسان، ومسؤوليته التامة عن أفعاله الاختيارية واستحقاقه للثواب"، وغير هذا الاعتقاد ضلال وزيغ فإما الجبرية، وإما القدرية.
يقول الله سبحانه وتعالى مثبتاً مشيئة الإنسان ومسؤوليته عن أعماله وأفعاله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الاسراء:13-14]، ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر من كتابه العزيز: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يّـس:54]، ويقول أيضاً: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فالإنسان مخير بين الخير والشر، وبين ما يأتي وما يذر، ولكن اختياره هذا لا يتم فرضاً على الله، أو بعيداً عن إرادته سبحانه وتعالى ومشيئته النافذة في خلقه، بل يفعل الإنسان الخير أو الشر، بعلم الله السابق للحوادث، وتقديره وقضائه في الأزل، يقول الإمام البغوي رحمه الله موضحاً هذه المسألة من جانب آخر ليكمل بيانها: "الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خلق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم … فالإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب".
فإذا فهم هذا الركن من أركان الإيمان على هذا النحو الصحيح، فإن مسؤولية الإنسان فيه زيادة الجهد، والعمل على التزام الطاعة، وحسن التوكل على الله، ودوام التضرع إليه والطلب منه، والرجاء منه أن يوفقه إلى مرضاته، وأن يجعله من السعداء، فيكون الإيمان بالقدر حافزاً لمزيد من الجهد والعبادة، والإستقامة، لا مثبطاً عن الخدمة في الطاعة والتزام الصراط المستقيم.
هذا الاعتقاد بهذا المفهوم والتصور هو الذي يجب أن يعتقده الأب المسلم في نفسه، ويبثه في روع أولاده الكبار في مرحلة الطفولة المتأخرة الذين تشغلهم هذه المفاهيم، فيبسطها لهم، ويقرِّبها إلى أفهامهم ومداركهم.
ويوضح الشيخ محمد الغزالي قضية القضاء والقدر، ويقربها إلى الأذهان بضرب مثل المرآة التي تصف ما يقف أمامها من الأشكال والمناظر دون أن يكون لها دخل في ذلك، فالحسن تظهره حسناً، والقبيح تظهره قبيحاً، ثم يقول: "كذلك صفحات العلم الإلهي ومرائيه لا تتصل بالأعمال اتصال تصريف وتحريك، ولكنه اتصال انكشاف ووضوح، فهي تتبع العمل ولا يتبعها العمل".
ويتجنب الأب خوض هذه المفاهيم مع صغار الأولاد، أو مع الأولاد الذين لم تشغلهم هذه القضايا، ولم يسألوا عنها ؛ لأن هذه المسألة من المسائل الشائكة، التي حارت فيها عقول الجهابذة من بعض متقدمي العلماء، وحاروا في فهمها وإدراكها.
فإن شغلت هذه المسألة أحد الأولاد، واشتبهت عليه مفاهيمها وسأل عنها، وجب على الأب أن يوضحها حسب المفاهيم المتقدمة، وعلى قدر ما يستوعبه الولد ويدركه.
ولعل أكثر الأسئلة في هذا الجانب تكون حول مسألة " الجبر" طالما أن الرب سبحانه وتعالى قد كتب في الأزل أن شخصاً ما يخطئ ويضل - وهذا لا بد واقع - فإنه لا ذنب لهذا الشخص فقد كتب عليه الضلال والضياع، فلماذا يعاقب على ذنب قد أجبر عليه ؟.
ورد هذه الشبهة عن ذهن الولد تحصل بطريقة علمية، كأن يضع الأب بين يدي الولد كأساً زجاجياً، ويقول له: هل تستطيع أن تلقي بهذا الكأس على الأرض فتكسره؟، فيجيب الولد بنعم، فيقول الأب: وما الذي يمنعك من ذلك ؟، فيرد عليه بأن هذا خطأ لا ينبغي فعله، فيعلق الأب على هذا الموقف: "إن الله علم في الأزل البعيد أنك لن تكسر هذا الكأس، وعلم أيضاً أن الولد الشقي سوف يكسر الكأس، فكتب سبحانه وتعالى كل هذا عنده ؛ فهل منعك أحد يا بني عن إلقائك للكأس على الأرض؟، وهل أجبر أحد ذلك الولد الشقي على أن يكسر الكأس"، وقطعاً سوف يكون جواب الولد "بلا"، فيعقب الأب بقوله: "وكذلك يا ولدي الهداية والضلال، والخير والشر، كل إنسان يختار لنفسه أحد الطريقين، والله سبحانه وتعالى يعلم بالتفصيل كل شخص ماذا يختار، وأي طريق يسلك، فييسر لكل طريقه وما خلق له".
ثم يبين له أن الله خلق الناس ليبتليهم، ويختبرهم، فليس من الحكمة أن يهديهم جميعاً، كما أنه ليس من الحكمة أن يضلهم جميعاً، لأن ذلك يبطل الاختبار، وكذلك الأستاذ مع تلاميذه فلو أراد أن لا يرسب أحد، فعليه أن يلغي الاختبار بالكلية. ولكن لا بد من التمحيص والابتلاء ؛ ليعلم الصالح من غير الصالح، والمجتهد من الكسول، والمجاهد من القاعد.
ومسؤولية الأب هي تركيز هذا المفهوم الصحيح حول القضاء والقدر في نفس الولد ؛ ليشعر بالاطمئنان إلى قضاء الله وقدره، فترتاح نفسه ولا ينشغل باله بالمخاوف والوساوس حول المستقبل ؛ لعلمه بأن الله حكيم عليم، لا يصدر عنه شيء إلا على مقتضى الحكمة والعلم، فتبعد عن الولد المخاوف، والقلق والرعب، ويكون صبره على الحوادث والمصائب التي تصيب الأسرة أكبر وأقوى.
ولقد أشار بعض علماء النفس من الغربيين إلى أن الإيمان يزيد من صبر الإنسان على المصائب والنوازل، وأن معظم حالات المرض النفسي ترجع إلى فقدان الثقة بالله، "وأن الدين الحق يمنح الإنسان الشعور بالأمن، ويحول ضعفه إلى قوة، وخوفه إلى ثقة ويقين". فإذا كان هذا الكلام عن الدين يقوله أصحاب الدين الباطل، فكيف بأصحاب الدين الحق؟
ولا بد أن يدرك الولد أن الناس خلقوا في هذه الدنيا للابتلاء، فقد قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، فالغاية من وجود الناس هي ابتلاؤهم واختبارهم في هذه الحياة الدنيا ؛ لهذا "فإن حياة الإنسان ليست سوى سلسلة من التجارب الابتلائية لا يكاد يفرغ من واحدة حتى تتبعها أخرى، وهكذا حتى نهاية عمره". فإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن ما يحدث للولد وأسرته من المصائب والنكبات المتنوعة من فقر، أو مرض، أو موت، أو ما يحدث في الكون من الحوادث والكوارث الطبيعية، أو غيرها فإنما يحدث كل ذلك بقضاء من الله وقدر سابق وحكمة وتدبير.
فالأسرة التي تعيش في فقر، ويظهر على الولد فيها علامات اليأس، والملل والضيق، لقلة ذات اليد، فإن الأب يستغل مفهوم القضاء والقدر؛ ليدخل الرضا والطمأنينة على نفس الولد ؛ ليحفظه من الانحراف، فيذكره بقول الله تعالى، حاكياً عن لقمان وهو ينصح ولده: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17]، وقوله عليه الصلاة والسلام مبشراً الفقراء من أصحابه، فيقول لهم: ((ليبشر فقراء المهاجرين بما يسر وجوههم فإنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاماً))، فيطمئن الولد لقضاء الله فيهم بأن يكونوا من الفقراء، فلا يتطلع إلى غيره من أبناء الأغنياء، ولا تنقبض نفسه، بل يكون إيجابياً مقبلاً راضياً بما قسم الله.
ولا يعني هذا سلبية الأب، وتركه الأخذ بأسباب الغنى، بل عليه السعي ليحمي نفسه وأسرته من الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، ويحمي أولاده من أسباب الانحراف، فإن انخفاض مستوى المعيشة يهيئ الجو لانحراف الأولاد، ووقوعهم تحت طائلة العقاب.
ومن القضايا التي تؤثر على الولد أيضاً، ولها علاقة بالقضاء والقدر: مسألة الموت الذي تحار فيه العقول: ولا يصل إلى كنهه أحد. والولد في العادة يخاف من الموت، لما يراه على أهله من الوحشة والكآبة عند وفاة أحد الأقارب، أو الجيران.
ويمكن تطمين الولد في هذا الجانب بإشعاره أن الموت خير له، وأنه إذا مات كان في الجنة مع أبيه إبراهيم عليه السلام، فقد قال رسول الله r: ((إن ذراري المؤمنين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام)).
ونقرب له فكرة الموت بالنوم، فقد قرب لقمان لابنه مفهوم الموت بالنوم، فقال: "يا بني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام كذلك تموت"، فيدرك الولد بذلك بعض القضايا المتعلقة بالموت، ولا ينبغي الكذب عليه في مسائل الموت، ولا إغفال أسئلته، بل يجاب عنها بما يمكنه أن يدركه بعقله الصغير.
ويُستغل مفهوم القضاء والقدر أيضاً في تخفيف حدة الشعور بالنقص عند الولد المصاب بعاهة جسدية تعيقه، كالشلل، أو الكسر، أو التشوه، أو غيرها،، فيُبين له أن ذلك بقضاء وقدر من الله ليجزيه على صبره أجراً، ويدخله الجنة، ويُبين له ما فيه من المميزات الأخرى كالذكاء، وسرعة الفهم، والقدرة على الحفظ، وغيرها، ويُحفظ من إخوته، وأقاربه، وجيرانه، الذين يمكن أن يسخروا منه، فيزيدوه هماًّ وغمـًّا، ويكلؤه الأب بالحنان، والرعاية، ومزيد من العطف والشفقة.
ومسألة أخرى متعلقة بالقضاء والقدر، وهي الكوارث والحوادث الطبيعية، والحروب وغيرها. حيث لا بد أن يدرك الولد أنها تحدث بقضاء وقدر من الله U، وتقدير سابق لوقوعها، وأنها بعيدة كل البعد عن مجال الصدفة والحظ، وإنما أنزلها الله وقدرها عقاباً وجزاء لعباده بسبب ما اقترفته أيديهم.
ولا بد أن يشار للولد دائماً إلى تقدير الله U خلف هذه الحوادث كالزلازل، والبراكين، والحرائق، والحروب، وغيرها، فهي تحدث إما عقاباً للعصاة المفرطين، أو ابتلاء للمؤمنين الصادقين لرفع درجاتهم وحط خطاياهم، فليس كل ما يحدث من الكوارث والنكبات ضاراً بالناس، بل ربما ضرَّ بعضهم ونفع آخرين، ولله في كل ذلك الحكمة البالغة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.