يعايش عالمنا المعاصر عديداً من المشكلات الاقتصادية، فيما يخص استخدام الموارد، أو التوظيفات المالية، أو العائد من العمليات الاقتصادية والمالية على الانسان الذي من الواجب ان يكون محل اهتمام هذه النظم، ولكن الواقع هو شقاء الانسان هنا وهناك، فانتشر الفقر والجوع والبطالة والحروب والصراعات من أجل مقدرات وموارد اقتصادية، وأصبحنا نعيش حالة من الصراع مع البيئة التي يفترض ان نكون في حالة صداقة معها.
ومع انزواء النظام والمنهج الاشتراكي، وسيطرة النظام الرأسمالي الذي يعتبر دستور العولمة وأيدلوجيتها حدث نوع من التكريس للمشكلات الاقتصادية، وتداخلت مع بعضها لتصل الى مرحلة أو حالة مركبة، لتنصب الجهود الى مجرد معالجة هذه المشكلات، ولا يكون هناك مجال للارتقاء بالمستوى المعيشي اللائق بالإنسان.
النموذج المقبول
ومن هنا وجدت دعوة تبني نموذج التنمية المستدامة، بمعنى (استمرار التنمية بجوانبها المختلفة) على اعتبار أنها هي النموذج المقبول، حيث إنها تراعي الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والمالية والبيئية طوال ممارسة الحياة الاقتصادية.
وتبقى المرجعية التي تقوم عليها فكرة التنمية المستدامة مهمة، خاصة في ظل التحديات التي أشرنا إليها مع تبني نموذج التنمية الرأسمالية أو تنمية العولمة، ومن أجل ذلك عُقد بالقاهرة مؤتمر دولي بعنوان «التنمية المستدامة في العالم الإسلامي في مواجهة تحديات العولمة» قام على أمر تنظيمه ثلاث منظمات إسلامية هي البنك الإسلامي للتنمية بجدة، ورابطة الجامعات الإسلامية، ومركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، الذي شهدت قاعته الرئيسية وقائع أعمال المؤتمر على مدار ثلاثة أيام خلال الفترة من (17 ـ 19 مايو 2008).
البعد المقاصدي
هناك تعاريف متعددة للتنمية المستدامة، إلا أن ورقة الدكتورة نهى الخطيب رئيس قسم الادارة العامة بأكاديمية السادات، والتي قُدمت للمؤتمر بعنوان «ادارة التنمية المستدامة في الفكر الإسلامي» عرفت التنمية المستدامة بأنها: «تلك التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجاتهم» والتنمية المستدامة كما تراها نهى الخطيب ذات مضمون أخلاقي ينطوي على مسؤولية الجيل الحالي تجاه الأجيال القادمة، وهذا المضمون الأخلاقي أسس له الفكر الإسلامي قبل كل النظم الادارية الحديثة.
وقد شملت أعمال المؤتمر محاور ستة من خلال اثنتين وأربعين ورقة بحثية، ركزت على تحقيق أهداف خمسة هي: تشخيص الواقع التنموي في الامة الإسلامية في ظل المتغيرات العالمية المعاصرة، وابراز دور القيم الإسلامية في رقي وتقدم الأمة الإسلامية، وتبيان دور المؤسسات في التنمية المستدامة في الأمة الإسلامية، والتعرف على التجارب التنموية المعاصرة في الأمة الإسلامية، واقتراح استراتيجيات تنموية لإنقاذ الأمة من واقعها الراهن.
وجاءت الورقة التعريفية بالمؤتمر والتي تناولت فكرته وأهمية انعقاده لتشير الى ان تحقيق أهداف التنمية المستدامة من منظور الاقتصاد الإسلامي يستند الى تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية في حياة البشرية جمعاء، والأهداف التنموية النابعة من تلك المقاصد تنادي بتطبيق مفهوم الفلاح الانساني والسعادة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
وقد ركز الدكتور جعفر عبدالسلام الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية على أهمية منظومة القيم الإسلامية في تحقيق التنمية المستدامة، مجملاً اياها في خمس قيم رئيسية: الاستخلاف والعدل والعمل والقناعة والايثار.
عقبات
جاءت مجموعة من الأوراق البحثية المقدمة كاشفة عديداً من العقبات التي تعوق قيام تنمية مستدامة في البلدان الإسلامية، وكان من بينها ورقتا كل من الدكتور سلطان أبو علي وزير الاقتصاد المصري الأسبق، والدكتور ابراهيم يوسف استاذ اقتصاديات التنمية بجامعة الأزهر، وقد تمثلت هذه العقبات في الآتي:
ـ تم الاشارة الى مجموعة من العقبات تتعلق بالجانب القيمي، حيث أهملت قيمة العمل، وتم الركون الى الاستيراد والاعتماد على الغير، وكان المثال الأبرز في هذا المجال، والذي فرض نفسه بحكم المشكلة العالمية التي نمر بها في ارتفاع أسعار ونقص كميات الغذاء هو اعتماد العالم الإسلامي على استيراد غذائه، حيث تراوحت الأرقام المقدرة في هذا المجال ما بين نسبة 60 في المائة 80 في المائة، وهى نسبة مرتفعة اذا ما تم الاشارة الى موارد العالم الإسلامي من مياه وأراض صالحة للزراعة ووفرة اليد العاملة، ولم تخلُ الأوراق أو المناقشة من بكائية امكانيات السودان في هذا الشأن، وأيضاً تفشت بعض الأخلاق غير الإسلامية في مجتمعاتنا. كل هذا أعطى المبرر للمغرضين لمحاولة وإيجاد علاقة بين التخلف الذي نحياه وبين اعتناقنا للإسلام الحنيف.
ـ هدر الإمكانات المالية الذي تمثل في اتجاه الأموال العربية والإسلامية الى البلدان الغربية، في الوقت الذي ترتفع فيه معدلات المديونية لعديد من البلدان الإسلامية، وقيام معظم مشروعات الاستثمار في البلدان الإسلامية على آلية سعر الفائدة الربوية والبعد عن المنهج الإسلامي في المشاركات، وسيادة مبدأ الغنم بالغرم الذي يضبط الكثير من المقدرات الاقتصادية الأخرى.
وقد ترددت تلك الأرقام الخاصة بالاستثمارات الإسلامية في الخارج التي تمثل فيها الأموال العربية الرقم الفاعل، حيث قدرت بنحو 1.5 تريليون دولار، فضلاً عن استثمارات بعض البلدان الآسيوية مثل ماليزيا واندونسيا في سندات الخزانة الأمريكية.
ـ عدم الاستفادة من الامكانيات البشرية على صعيد البطالة والتعليم وتدني مستويات التكنولوجيا، وقد دعا البعض الى تبني ترك التكنولوجيا الغربية نظراً للقيود المفروضة على عمليات نقل التكنولوجيا والاتجاه لبناء تكنولوجيا ذاتية، الا ان هذا الرأى واجه اعتراض معظم الحاضرين، نظراً لطبيعة الظرف الزمني الذي نعيشه والذي يجعل من الصعوبة بمكان الانعزال عن العالم، وان الانعزال سوف يؤدي الى مزيد من التخلف، فضلاً عن ان الإسلام يدعو الى التواصل الحضاري، والاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين.
ولم يفت المتحدثين في هذا المجال الاشارة الى معدلات البطالة المرتفعة وكذلك الفقر، أو فقدان الرابط بين مؤسسات التعليم واحتياجات سوق العمل، وأشارت المناقشات الى تدني نصيب البلدان الإسلامية من الصادرات عالية التكنولوجيا والتي تراوحت بين نسبتي 1 في المائة 15في المائة.
ـ عدم وجود نظم وثقافة المساءلة سواء في الشأن العام أو الشأن الخاص، وكذلك شيوع الفساد كنتيجة لغياب المساءلة، مما أوجد نظماً سياسية غير ديموقراطية غابت فيها مشاركة الأفراد وعدم احساسهم بالمسؤولية تجاه قضايا التنمية.
ـ انسياق غالبية الأفراد في المجتمع الإسلامي في تيار العولمة وادمان العادات الاستهلاكية الضارة، وعدم وجود قدوة على الصعيد العام لتبني المنتجات الوطنية، والابتعاد عن الاستهلاك الريائي أو المظهري، كما كان تبني نظم تنموية تتعارض مع قيم وعقيدة الشعوب الإسلامية عاملاً مهماً في تكريس التخلف، وأيضاً تلك الحقبة الاستعمارية من قبل الدول الغربية لكل البلدان الإسلامية لفترات طويلة، حتى تحررت.
حلول وفوائد
من قبيل ان الأشياء تعرف بأضدادها فقد اشتملت معظم الأوراق والمناقشات داخل المؤتمر على طرق العلاج والخروج من هذا الواقع المتخلف تنموياً في بلداننا الإسلامية، من خلال تلافي السلبيات السابقة، وضرورة شيوع الثقافة الإسلامية وأدبيات المنهج الإسلامي القائم على عبودية الله عز وجل، ونظرة الإسلام للمال ووظيفيته، والواجبات الاجتماعية التي قدمها الإسلام من زكاة ووقف وصدقات جارية، حق الانسان في المجتمع المسلم في حد الكفاية.
ومن الفوائد الملموسة لهذا المؤتمر أنه ركز على معان ايجابية مثل: عدم جلد الذات أو تبني نظرية المؤامرة، وان الحل ممكن على ان نبدأ منطلقين من قيمة التعاون التي حثنا عليها الإسلام، فالحق تبارك وتعالى قال: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}(سورة المائدة اية 2).
وان المسؤولية مشتركة بين الحكومات والشعوب، وان كانت المسؤولية عن التخلف تبقى قائمة أمام التاريخ، فإن الحساب عليها يوم القيامة أعم وأشمل.
التوصيات
توصل المؤتمر في ختام أعماله الى مجموعة من التوصيات التي يمكن إنزالها الى أرض الواقع ان وجدت الارادة لتفعيل الرؤية الإسلامية للتنمية المستدامة، ومن أبرز هذه التوصيات الآتي:
1 ـ ان تتضافر الجهود كافة في بلدان العالم الإسلامي وتتوحد الرؤى للقضاء على معوقات التنمية المستدامة، وذلك من خلال زيادة صور ودرجات التعاون بين بلدان العالم الإسلامي في القضاء على ظاهرة البطالة والفقر من خلال الآليات المتاحة على الصعيد السياسي والاقتصادي.
2 ـ ضرورة توفير بيئة أعمال مناسبة لتحقيق التنمية المستدامة في العالم الإسلامي، تقوم على مبادئ إسلامية خالصة، تعمل على توفير البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني والقيمي والأمني وما يتعلق بالموارد البشرية والموارد المالية والتقنية الملائمة وأيضاً البنية التحتية.
3 ـ ان تتجه المصرفية الإسلامية للدور المنوط بها بشكل أكبر وأعمق مما هى عليه، وتتبنى تمويل مشروعات تنموية، والبعد عن التمويل الكبير للتجزئة المصرفية، والتي تعظم الممارسات الاستهلاكية الضارة.
4ـ ضرورة ان تتبنى وسائل الاعلام المختلفة (الاذاعة، التلفزيون، الصحافة، الفضائيات، مواقع الانترنت) قضايا التنمية المستدامة وربطها بالاطار المرجعي المنسجم مع الثقافة الإسلامية، وتخصص البرامج القادرة على توعية الجمهور بتلك القضايا.
5 ـ استحداث هيئة إسلامية عالمية لشؤون رعاية وتشغيل الفقراء، يكون من شأنها أن تنسق بين هيئات مناظرة مقترحة على المستويات القُطرية، تجمع شتات الجهود والأموال الإسلامية الموجهة للنهوض بالفقراء.