الإحساس بالجمال ، والميل نحوه مسألة فطريّة تعيش في أعماق النفس البشرية . فالنفس الانسانية تميل إلى الجمال ، وتشتاق إليه ، وتنفر من القبيح ، وتبتعد عنه .
والإحساس بالجمال والعناية به ، واقتناء الأشياء الجميلة يهذِّب المشاعر والسلوك الانساني ، ويسمو بالذوق البشري .. وكلّما تسامى الاحساس بالجمال لدى الانسان ، ووعى القيمة الجمالية بدلالاتها الحسِّيّة والمعنوية ، تعالت إنسانيّته ، واستقام سلوكه .
ويشكِّل الموقف من القيم الجمالية ، والإبداع الجمالي ، والتعامل مع الجمال ، بُعداً أساسيّاً في الحضارة الانسانية . فالحضارة التي تخلو من الجمال ووسائل التعبير عنه ، وصناعة موضوعه ، لهي حضارة متخلِّفة، لا تتجاوَب مع مشاعر الانسان ، ولا تلبِّي أشواقه النفسـية ، ولا تعـبِّر عن إنسانيّته .
ونشاهد موضوعات الجمال في عالَم الطبيعة ، جذّابة أخّاذة ..
نشاهد الجمال في عالَم الأزهار والطّيور وسفوح الجبال وجداول الأنهار وشلّالات المياه ، وفي شكل الانسان ونغمات صوته ، وفي سماء اللّيل الصّافية ، وفي النجوم والقمر .. في الغيم وقوس قزح ، ونزول المطر.. في عيون الضِّباء، وابتسامات الأطفال، في ألوان الأسماك وأمواج البحار ، في حقول الزّروع وتدلِّي الِّثمار بألوانها ونسّق تدلِّيها ، كالرّمّان والتّفّاح وعذوق النّخيل .. كلّ تلك موضوعات تجسِّد الجمال ..
بل الطّبيعة بأسرها لوحة فنِّيّة تفيض بالحُسْن والجمال .. فتـثير الإعجاب ، وتتفاعل مع الروح ، فتتحوّل شعراً واُنشودة وعبادة وإجلالاً ..
وكما نشاهد الجمال في عالَم الطبيعة ، نشاهده في الإبداع الفنِّي الذي يصنعه الانسان .. العمارة ، كورنيش الشاطئ يطوِّقه وشاح الورد ، اللّوحة الفنِّيّة ، الملابس الزاهية ، غرفة النوم ، زخرف الكتاب ، الخط ، الترتيل والإيقاع الصوتي والوزن الشعري ، الزّخارف والنقوش في الأواني والأبنية والفرش والسجّاد ... إلخ ..
إنّ الانسان يتذوّق الجمال في عالَم الطبيعة وينفعل به ، ويعبِّر عن إحساسه الفطري هذا ، فيُحاكي الطبيعة ، كما يبدع ويبتكر موضوعات جديدة . إنّ الاستمتاع بالجمال حاجة نفسيّة ..
إنّ الفن والأدب والإيقاع الصوتي والعمل المعماري والحرفي،كالنجارة وصناعة الأواني والخياطة ... إلخ،كلّها أدوات للتعبير عن الاحساس بالجمال .. للتعبير عن إحساس فطري ..
لذا كان موقف الاسلام من الفنّ والجمال موقفاً إيجابيّاً .. بل خاطب الانسان كمخلوق ذوّاق للجمال، ووعده بالجمال جزاء في عالم الآخرة..
فصورة الجنّات وما فيها من حور وولدان وقصور وحدائق وعيون نضّاحة وأرائك وأنهار ... إلخ .. آية في الجمال ، ولوحة فنِّيّة أخّاذة .
لقد نما الفن التعبيري في ظلّ الاسلام بموضوعاته الجمالية المختلفة . صناعة الكلمة والصوت والشكل المادِّي من الرّسم والزخرفة والبناء والتطريز ... إلخ ..
فقد رأى المسلمون أرقى صور الجمال اللّفظي في البلاغة والفن القرآنيّ .. فهو في جماله معجزة لا تُبارى ..
وهو بعد ذلك يدعو القارئ المسلم إلى أن يوشِّح جمال اللّفظ القرآني بجمال الأداء. فيدعو إلى قراءة القرآن وترتيله بالصوت الجميل. ووضع المسلمون قواعد التجويد لتحسين القراءة والأداء على الاُصول الجمالية في النطق العربي . فأصبحت قراءة القرآن وتجويده وترتيله فنّاً من الفنون الجميلة التي تستولي على النفس، وتوصل إليها المعنى سائغاً محبّباً ..
قال تعالى حاثّاً على الأداء الجميل : (وَرَتِّل القُرْآنَ ترتيلا ).
وروى حذيفة (رضي الله عنه) ، قال : "أتيتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات ليلة لاُصلِّي بصـلاته ، فافتتح ، فقرأ قراءة ليست بالخـفيفة ولا بالرفيعـة ، قراءة سنّة ، يرتِّل فيها ...".
ولننتقل من جمالية اللّفظ والنّغم الصّوتي إلى إبداع الشكل الجمالي عند المسلمين .
ففي حضـارة المسـلمين الفنِّيّة نجد تراثاً ضخماً من الأشكال والموضوعات الجمالية . فالمسـاجد ومآذنها وجدرانها وما فيها من زخارف وخط ونحت ، لوحات فنِّيّة تصوِّر الرّوح الجمالي الذي أطلقه الاسلام ، كما تصوِّر قدرة الفنّان المسلم وحرِّيّته الفنِّيّة .
والزخارف المعماريّة والأواني والمصوغات والأزياء والخط والرّسم الذي وصل إلينا ، كلّها تعابير جمالية تعكس طبيعة الرّوح الحضاري لدى المسلمين ..
وهذا النمط من الفنّ المعبِّر عن الجمال ، له اُصوله وقواعده الفكريّة والفقهيّة .. ففي القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نجد الحثّ على حبّ الجمال واقتناء الأشياء الجميلة ، وتذوّق معانيها ..
تحدّث القرآن الكريم عن الزِّينة والجمال، واستنكر المواقف الرّافضة للتمتّع بما أبدعه الخالق في عالَم الطبيعة ووهبه لعباده ..
قال تعالى :
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ التي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قُلْ هيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحياةِ الدُّنيا خالِصَةً يومَ القيامة ).
( الأعراف / 32 )
(يا بَني آدَم خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد ). ( الأعراف / 31 )
وقال واصفاً الزِّينة والجمال الذي متّع به الانسان في الأرض :
(إنّا جَعَلْنا ما عَلَى الأَرْضِ زينةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَ يُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ).( الكهف / 7 )
وفي الحديث النبويّ الشريف ، تجد الدعوة إلى الجمال بأعلى صورة، حيث نجده في قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : "إنّ الله جميل يحبّ الجمال" .
وجاء ذلك في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : "ما من رجل يموت حين يموت ، وفي قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر يحلّ له الجنّة ، أن يريح ريحها ، ولا يراها .
فقال رجل من قريش يُقال له أبو ريحانة : والله يا رسول الله إنِّي لأحبّ الجمال وأشتهيه ، حتّى إنِّي لأحبُّهُ في علاقة سوطي ، وفي شِراك نعلي .
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليس ذاك الكبر . إنّ الله ، عزّ وجلّ ، جميل يحبّ الجمال . ولكن الكبر من سفه الحق ، وغمص الناس بعينه".
ويتعالى موضوع الجمال في الوعي الاسلامي ، ويتّسع فيشمل العقل والسـلوك ، والمعنى الذي يحمله اللّفظ ، وليس الشـكل الفنِّي للأداء اللّفظي فحسب . فصُنِّفت الأفعال الانسانية إلى حسن وقبيح ، وبحث علماء العقيدة (علماء الكلام) ثمّ علماء اُصول الفقه ، أفعال الله تعالى ، وأفعال الخلق تحت عنوان الحُسن والقُبح .
وقال المعتزلة وعلماء الشيعة الإماميّة أنّ الحُسن والقُبح عقليّان ، وليسا شرعيّان ، أي أنّ الفعل الانساني حسن بذاته أو قبيح بذاته ، وجاء التشريع الاسلامي ليشخِّص الوصف الذاتي للفعل.فحكم المشرِّع بحُرمة شيء يكشف عن قُبحه،وحكمـه بوجوب شيء يكشف عن حُسنه،وحكمه بإباحة شيءيكشف عن نفي القُبح عنه.
إنّ مثل هذه الدراسات والمفاهيم، مفاهيم الحُسن والقُبح التي عمّمها الفكر الاسلامي ، تكشف عن الفهم الحضاري المتسامي في الاسلام ، ومدى تقديره لهذه المفاهيم .
نشرت فى 6 أغسطس 2010
بواسطة ahmedkordy
أحمد السيد كردي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
30,761,034