جاءت النصوص الإلهيّة تحثّ على إصلاح العلاقات الإجتماعية بين البشر عموماً، إذ إنّ (... الصّلح خير)(النِّساء/ 128)، وكان الأمر الإلهي للمؤمنين (فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)(الأنفال/ 1)، (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(المائدة/ 2).
ويُراد بإصلاح ذات البين إزالة ما بين المتخاصمين من عداوةٍ وشقاقٍ، وهو من عمل الشيطان، قال تعالى: (إنّما يُريدُ الشيطانُ أن يُوقِعَ بينكم العداوة والبغضاء...) (المائدة/ 91).
والإصلاح هنا يبدأ بدائرة الإنسان الأولى: أُسرته ومسكنه، حيث يجب أن تعم فيه المودّة والرّحمة، لينطلق الإنسان منه آمناً مطمئناً لإصلاح المجتمع، ومن ثمّ يمتدّ الإصلاح لعلاقة الفرد مع الآخرين من حوله، إلى الإصلاح بين طوائف المؤمنين، حتى يعم سائر المجتمع، فالأصل الذي يجب أن لا يترك ويلتزم دوماً في القول والعمل وفي جميع الحالات، هو: البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس، قال تعالى: (ولا تجعلوا الله عُرضةً لأَيمانكم أن تَبَرُّوا وتتّقوا وتُصلحوا بين الناس والله سميعٌ عليم) (البقرة/ 224).
ولإصلاح ذات البين – كما سلف – مواضع كثيرة، وأهمّها:
أوّلاً: إصلاح الإنسان مع أهل بيته، لأنّه المحطة الأولى التي يجب أن تظهر فيها عدالة الإنسان وسماحته وأخلاقه وديانته، وهي الحكومة المصغّرة التي ينتظر أن يعمّها السلام والوئام، لذا قال الله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تَعدِلوا بين النِّساء ولو حرصتم فلا تَميلوا كلَّ المَيلِ فتذروها كالمُعلّقة وإن تُصلحوا وتتّقوا فإنّ الله كان غفوراً رحيماً) (النِّساء/ 129)، أي أن تُصلحوا سيرتكم وطريقة تعاملكم وتتّقوا الله تعالى وتتمسّكوا بالعدل، فلا تجوروا ولا تظلموا.
ثانياً: وقد تظهر المشاكل بين الزوجين، لسبب وآخر، وتبدو الكراهية بينهما بعد أن قضيا وقتاً في الزواج وكانا على ود ووئام، ولكن ربما أثّرت حوادث الدَّهر في أحدهما أو كليهما، أو تغيّرت النفوس لسبب وآخر، خصوصاً إذا كبرت المرأة وذهب عنها شبابها وقلَّ ألَقُ جمالها، فأصبح الرجل يتذمّر ويُفكِّر في غيرها، ومن ثمّ لعب الشيطان بينهما ليُفرِّق بينهما بالطلاق.. فهنا يأتي الوحي الكريم ليُوجِّه الإثنين إلى طريق الصُّلح والإصلاح، ولو ببعض التنازل والتضحية من جانب المرأة – ربّما لغرض إشباع غرور الرجل وكسب ودّه – وقد يتطلّب الموقف تنازلاً من الرجل بحسب وضع المشكلة، ويتطلّب ذلك منهما السماحة وسعة الصدر والإبتعاد عن الطمع والبخل والتعامل بالإحسان وتقوى الله، فلا يجور ولا يبخس أحدهما الآخر أو يستغل وضعه وضعفه ليطمع في ماله ويأكل حقّه، قال تعالى: (وإنِ امرأةٌ خافت مِن بَعلِها نُشُوزاً أو إعراضاً فلا جُناحَ عليهما أن يُصلحا بينهما صُلحاً والصُّلحُ خيرٌ وأحضِرَتِ الأنفس الشُّحَّ وإنْ تُحسنوا وتتّقوا فإنّ الله كان بما تعملون خبيراً) (النِّساء/ 128).
ثالثاً: وقد تتّسع هوة الشِّقاق بين الزوجين ويتباعدان عن بعضهما البعض فيفترقان دون أن يجدا سبيلاً للتفاهم وعودة المياه إلى مجاريها، ووصلت الأمور من العداء إلى الشقاق بينهما – وربما الفراق ولم يذكره الله تعالى لأنّه مكروه عنده لما فيه من هدم لبنيان الأسرة – فلابدّ هنا من أن يتدخل المحبّون، والأقربون على الخصوص، للإصلاح وحلّ النزاع، وإذا كانت النيّة الإصلاح وفّقهما الله لذلك لأنّ تلك النيّة شرط في نجاح عمل المصلحين، فيختار المُصلحون حكماً عدلاً من أهل الزوج وآخر من أهل الزوجة، لغرض دراسة الأمور عن قُرب والتفاهم والتعاون لحلّ النزاع، قال تعالى: (وإن خِفتُم شِقاقَ بينهما فابعثوا حَكماً من أهله وحَكماً من أهلها إنْ يُريدَا إصلاحاً يُوفِّقِ اللهُ بينهما إنّ الله كان عليماً خبيراً) (النِّساء/ 35).
رابعاً: أكّد الإسلام على العدل ورعاية حقوق الزوجة والأولاد وسائر الورثة في الوصيّة حقاً واجباً على من آثر التقوى، فلا يجب أن يميل الموصي إلى طرف، أو يظلم الورثة ويسلبهم حقوقهم.. حتى لو كانت الوصية لأعمال الخير، فلا يجب أن تزيد عن الثلث، لأنّ في ذلك إضراراً بحقوق الورثة، لئلاّ يُتركوا ضعفاء يستكدون الناس، فيكون تذكير الموصى له – أو مَن حضر الوصية – للموصي برعاية الحقوق والإنصاف في الوصية: عملاً إصلاحياً لأنّه دفع لمفسدة وظلم يخلف عداوة وبُغضاً ومشاكل إجتماعية تُفرِّق بين الأهل والأحبّة، يقول تعالى: (فمن خافَ من مُوصٍ جَنَفاً أو إثماً فأصلحَ بينهم فلا إثمَ عليه إنّ الله غفورٌ رحيم) (البقرة/ 182).
وفي الحديث الذي يرويه الترمذي: (إنّ الرجل والمرأة ليعملان بطاعة الله ستّين سنة ثمّ يحضرهما الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار) رواه الترمذي.
خامساً: وقد يظهر الإختلاف بين جماعة المسلمين – أو المواطنين – بسبب توزيع الثروات المالية وطريقة تقسيمها، فيجد بعضهم نفسه أولى ببعض، فلابدّ لهم أن يتّقوا الله ويصلحوا ذات بينهم ويرجعوا في ذلك إلى أُولي الأمر، والذين عليهم أن يراعوا بطريق أولى العدالة في القسمة والعطاء، لأنّ المال مال الله، ومال المسلمين، وبذلك يزيلون البغضاء من الصدور ويصلحون ذات بين المسلمين، وهكذا كان الأمر على عهد الرسول(ص)، إذ يقول تعالى: (يَسألونكَ عن الأنفالِ قُل الأنفالُ لله والرسولِ فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (الأنفال/ 1).
سادساً: وقد يفلح الشيطان في إيقاع الفتنة بين طائفتين، أو عشيرتين، من المسلمين، ويصل بهم الأمر إلى التقاطع والقتال، فيجب مبادرة الآخرين إلى الصلح بينهما وحلّ النزاع، فإذا لم ترضخ إحداهما للحق وتجاوزت حدّها بالظلم والعدوان فلابدّ من إيقافها عند حدّها والتصدِّي لها حتى ترجع إلى رشدها وترضى لحكم الله.. فإن رجعت، فالإصلاح بينهما بالعدل.
يقول تعالى: (وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتَتَلوا فأصلحوا بينهما فإنْ بَغَتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تَفيء إلى أمر الله فإن فاءَت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ الله يُحبُّ المقسطين * إنّما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا الله لعلّكم تُرحمون) (الحُجرات/ 9-10).
والأمر بالإصلاح دائم وفي جميع الأحوال، لأنّ المؤمنين أخوة، ولابدّ من تقوى الله وعدم التباغض والعدوان والإصلاح بينهم حتى يصلح بذلك المجتمع ويهنأ بعيشه وينال رحمة الله الواسعة.
سابعاً: لا يقتصر تأكيد القرآن على الإصلاح بين المؤمنين، بل يمتد بتوصياته للإصلاح بين عموم الناس وكل أفراد المجتمع، ولجليل أهميّة هذا الإصلاح وعظيم مكانته، فقد عدّه القرآن في مصاف الأمر بالمعروف، والأمر بالتصدُّق، وذلك لأنّه يشترك معهما في دوره في إزالة الفساد واستقامة المجتمع وصفاء ودّه وتماسكه وتلاحمه، قال تعالى: (لا خَيرَ في كثيرٍ من نجواهم إلاّ مَن أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس ومَن يفعل ذلك ابتغاء مَرضاةِ اللهِ فسوفَ نُؤتيهِ أجراً عظيماً) (النِّساء/ 114).