الإحسان بكل بساطة هو الإتقان. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 90). أخبرنا الله تعالى أنّه يأمرنا بالإحسان. فالإحسانُ خلقٌ كريمٌ وعمل من أفضل الأعمال، بل مرتبة الإحسان في الدِّين هي أعلى المراتب. فللإسلام مراتبُه الثلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، فالإحسان أعلى مراتب الإيمان.
إنّ دين الإسلام جاء ليُنظِّم حياة المسلم حتى تكون حياته حياة خير، وحياة يَنعَم بها في دنياه ويَسعَد بها يوم لقاء الله. دينُ الإسلام جاء ليرشِدَ المسلم أن يكون مسلماً حقاً، باعتقاده وقوله وعمله، ليكون عضواً نافعاً في أُمّته، وليسعد في نفسه، وليسعد به مجتمعه المؤمن، بل تسعد به الخليقة كلها.


- نماذج الإحسان:
1- الإحسان في العبادة:

 أسمَعُك تقول: وما علاقة الإحسان بالعبادة؟ وأقول لك: الصلاة مثلاً عبادة، ولكن أن تُحسن الصلاة، هذا هو الخُلق. أن تؤدِّي الصلاة كأفضل ما يكون، هذا هو الإحسان. فالأخلاق مرتبطة بالعبادات ارتباطاً وثيقاً.
والآن، كيف أُحسن في العبادة؟
في الحديث الشهير، حينما جاء جبريل (ع)، إلى سيّدنا محمّد (ص)، يسأله ليُعلِّمنا أمور ديننا، فحينما سأل النبي (ص): فأخبرني على الإحسان. قال: "أن تَعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". هل تستطيع فعل ذلك وأنت تُصلِّي؟ تستشعر أنّ الله يراك؟ فكيف تكون هذه الصلاة؟ ستُحسِنها بالتأكيد.
فكرة جميلة جدّاً، هيّا نتفق الآن عليها: أن نعبُد الله هكذا يوماً كاملاً، تَعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك. تستشعر بمراقبة الله الشديدة لك في كل خطوة، في العبادة وفي كل شيء.


2- الإحسان إلى الوالدين:

 يقول الله سبحانه وتعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (البقرة/ 83). جاء رجل إلى النبي (ص)، قال: "يا رسول الله، أبايعك على الهجرة والجهاد". فقال له النبي (ص): "وهل من والديك أحد حي؟". قال: "نعم، بل كلاهما". قال النبي (ص): "أتبتغي الأجر؟". قال: "نعم يا رسول الله". فقال النبي (ص): "ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما".
وكأنّك تقرأ هذا الكلام لأوّل مرّة، وخاصة "فأحسن صحبتهما". فكنت تقرأ ولا تُدرك أهميتها: أن تُحسن إلى والديك تأخذ الأجر الذي كنت ستأخذه في الهجرة والجهاد.
إنّك تريد أن تسأل سؤالاً، أليس كذلك؟ تقول: وكيف أُحسن إلى والديّ؟ وأقول لك: يقول الله تبارك وتعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). تعجّبت أكثر.. أليس كذلك؟ كلمتان فقط. وكأنّ الكلمتين تقولان لك: أرِنا جهدك في الإحسان إليهما: في نظرة العينين (إيّاك أن تنظر بحدَّة). وفي نبرة الصوت (إيّاك أن ترفع صوتك، إيّاك أن تسخر وتتهكم)، في ابتسام الوجه.
فكلّما ازددت إحساناً ازددت قرباً من الله.. إنني أشعر الآن بأنّك ستبتكر وتجتهد لتُحسن إلى والديك، من تقبيل اليد، ومن الردّ الجميل، ومن المشاركة اللطيفة، ومن الحُب الصادق، ومن عرض لوجهة نظرك في المواقف المختلفة بكل أدب وطيب كلام.


3- الإحسان إلى البنات:

 يقول النبي (ص): "ما من رجل تُدرك له بنتان أو أختان، فيُحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما، إلّا أدخلتاه الجنّة". منكم الآن مَن يقول: كنت أتمنّى أن يكون لي أخوات بنات ولكن.. ادع الله عسى أن يرزقك ذرية تكون فيها بنات.. لكن إيّاك أن تُغيِّر رأيك في ما بعد.
لكن، ألم تُلاحظ معي هذه الكلمة.. "فيُحسن إليهما"؟
ولكن، كيف أحسن إلى البنات؟ تَعلّم من النبي (ص)، انظُر كيف كان إحسان النبي (ص)، إلى فاطمة (س).
كانت فاطمة لا تدخل على النبي (ص)، إلا ويقوم لها ويُقبِّلها في رأسها. كم من الآباء اليوم يفعل ذلك؟
وحينما تزوجها سيدنا علي (ع)، سكناً بعيداً عن بيت النبي (ص)، فذهب النبي (ص) إلى أحد الصحابة، وكان يمتلك بيتاً إلى جوار المسجد النبوي، وقال له النبي (ص): "إني لا أطيق فراق فاطمة، فهل اشتريت منك البيت؟". فقال الرجل: يا رسول الله أنا وبيتي في سبيل الله.
يا الله.. أي رقّة.. أي إحسان هذا للبنات (لا أطيق فراق فاطمة).
بالله عليك، اقْتَدِ برسول الله، وادع الله أن يفوقك للاقتداء به. أحسنوا إلى بناتكم.. يُحسن إليكم.
إنّ أعظم إحسان تستطيع أن تقدِّمه لبنتك أو لأُختك في القرن العشرين، أن تُصاحبها.. وتسمع منها.. وتكسب ثقتها.


4- الإحسان في التحيّة:

 ومن نماذج الإحسان، الإحسان في التحيّة. يقول الله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء/ 86).
حتى عند التحيّة مطلوب مني أن أحسن فيها.
لا تتعجّب.. واعلم أنّ هذا الخُلق مُتوغّل في حياتنا إلى أقصى حد.


5- الإحسان في الجدال:

ومن نماذج الإحسان أيضاً، الإحسان في الجدال.. الإحسان حتى لو هناك مُشادّة كلامية، والإحسان عند الاختلاف في وجهات النظر.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
لقد فاجأتك هذه الآية. إنّك ظننت أنني أبالغ. فهل من المعقول في المشادّة الكلامية أن أحسن؟ وجاءت الآية فغيّرت تفكيرك، أليس كذلك؟ ولكن كيف أحسن؟
فمثلاً: أحدهم قال رأياً لم يُعجبك، فتقول له: ما هذا الكلام السخيف؟ ولو كنت مؤدّباً ستقول: أنا أعترض على كلامك. ولكن أين الإحسان؟ ما رأيك في أن تقول له: "في إمكانك أن تسمع وجهة نظري"؟ ما رأيك؟
هيّا نتعلّم من النبي (ص)، أدب الحوار. لقد جاءه عتبة بن ربيعة، وهو في مكة، في فترة الإيذاء الشديد للمسلمين. ويقول عتبة للنبي كلاماً سخيفاً.. يعرض عليه مالاً ليترك دعوته، ويعرض عليه الزواج، ويعرض عليه الرئاسة، ويعرض عليه طبيباً إن كان قد أصابه الجنون، كل ذلك ليترك دعوته. ومع ذلك، فكيف جادله النبي (ص)؟ كيف حاوره النبي؟
قال له: "قل يا أبا الوليد أسمع". فلمّا انتهى قال له النبي (ص): "أفرغت يا أبا الوليد"؟.
يا مَن أردتم أن تتعلّموا أدب الحوار في القرن العشرين، تعلّموه من رسول الله (ص).


6- الإحسان في الكلام:

 يقول الله سبحانه وتعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء/ 53). سبحان الله. تختار أرق وأحلى وأحسن الكلمات.
أشعر الآن بأنّك أصبحت خفيف الروح عالي الهمّة، تتفاعل مع الآيات بكل سهولة ويُسر. لقد كنت تقول لوالدتك وأنت تخرج من البيت: ماذا تريدين؟ ولكل الآن سنبحث عن أحلى وأرق الكلمات التي هي "أحسن".
الذي اختلف هو نبرة الصوت والكلمة الحلوة، الذي اختلف أنّك أحسنت.
كان هناك صحابي من البادية اسمه زاهر، وكان دميم الخلقة، وكان غليظاً في المعاملة. ولذلك كان الصحابة يجدون صعوبة في التعامل معه، فكانوا ينفرون منه، إلّا النبي (ص)، فكان يتودّد إليه ويعامله برقة وحنان.
فبينما كان النبي (ص)، يمرُّ في الأسواق رأى زاهراً، فأتاه النبي (ص)، من ظهره واحتضنه. ولكن زاهراً شخصية شديدة. فقال: "مَن هذا؟ أرسلني"، ففتح النبي ذراعيه، فاستدار زاهر، فإذا النبي (ص). فيقول زاهر: "فما فرحت بشيء كمُلاصقة جسدي لجسد النبي (ص)". ثمّ أخذ النبي بيد زاهر ووقف في السوق يقول ضاحكاً: "مَن يشتري هذا العبد؟ مَن يشتري هذا العبد؟". فقال زاهر: "إذن تجدني كاسداً يا رسول الله؟". فقال له النبي (ص): "ولكنك عند الله غالٍ".
ما هذا؟ إنّك والله لا تستطيع وصف هذا. فكيف تصف مشاعر وأحاسيس مُرهفة كتلك؟
لا نستطيع إلّا أن نقول: "إنّه الإحسان".


7- الإحسان في الزواج:

يقول الله تبارك وتعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء/ 19). يقول العلماء في تفسيرها: ليس معناها أنّه حينما تُحسن زوجتك إليك تُعاملها بإحسان، ولكن معناها أنّها حين تسيء إليك تُحسن أنت إليها. تلك هي العشرة بالمعروف. لماذا؟ لأنّه يكون أحياناً في طباع المرأة الإساءة، ويكون هذا جزءاً من طبعها.
أحسن إلى زوجتك في كل شيء. وبدايةً أحسن في اختيارك للزوجة. إيّاك أن تختار العينين والشعر والشكل الجميل فقط. وإيّاك أن تبحث عن المستوى العلمي فقط.
وأقول لكم أيّها الشباب كلاماً نابعاً من قلبي: انظر إلى أهلها.. انظر إلى أُمّها وأبيها.. انظر إلى دينها.. انظر إلى أخلاقها.. ثمّ انظر إلى الأشياء الأخرى. إنّك تتزوج العائلة.. تتزوّج أخلاقاً.. هذا هو الإحسان في اختيار الزوجة.


8- الإحسان في الطلاق:

يقول الله سبحانه وتعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة/ 229). تخيّل إلى أين وصل الإحسان. الإحسان حتى عند الطلاق.
هل يحدث هذا الآن؟ حدِّث ولا حَرَج.
9- الإحسان في الاستماع: يقول الله تعالى: (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/ 18). اختر لأذنك ما تسمعه. إيّاك أن تسمع كلاماً هابطاً، كلاماً لا فائدة منه.


10- الإحسان في المُذاكرة:

 وإيّاك أن تقول النجاح مضمون. أتريد أن يكون مقامك عند الله مُحسناً؟ أم تريد أن يكون مقامك عند الناس ناجحاً؟ راجع نفسك، وأحسن في المذاكرة حتى تتفوق. وينبغي على المسلم أن يتفوق، ولن تتفوق إلّا إذا أحسنت المذاكرة. واعلم أنّك تتعامل مع الله في خُلق الإحسان لا مع الناس.


11- إحسان الزوجة في بيتها:

 ومن نماذج الإحسان أيضاً، إحسان الزوجة في بيتها، من نظافة البيت وتهيئته، ومن إعداد الطعام وتربية الأولاد. الإحسان في اهتمامك بالبيت.


12- الإحسان إلى الحيوان:

رأى النبي (ص) رجلاً أضجَع شاته، ثمّ أخذ يحدّ شفرته، فقال له النبي (ص): "أتريد أن تُميتها مرّتين؟". فقال: "وماذا أفعل يا رسول الله؟". قال: "هلّا أحددت شفرتك ثمّ أضجعتها".
فلتأت اليوم جمعيات الرفق بالحيوان، وتتعلّم من حديث النبي (ص)، وتَعلّقه في مكاتبها بدلاً من الكلام الفضفاض.


13- الإحسان في مهنتك؛

 وهذا النموذج مطلوب، خاصة هذه الأيام، نتمنّى أن نجد مُنتجَاً مكتوباً عليه: "صناعة محليّة، قد أنتج بإحسان". إذن مَنتُوج مضمون.
إنّ الإحسان في مهنتك اليوم واجب على كل إنسان، فإذا أردت أن تتقدّم بلادك وتنهض وترتقي، عليك بالإحسان.
أشعر بأنّ هذا الإحسان قد وصل إليك الآن.. ألستَ معي في ذلك؟
يقول ابن القيِّم عن خُلق الإحسان: "هو لبّ الإيمان وروح الإيمان وكمال الإيمان، ولو جمعنا فضائل الأعمال كلّها من صلاة وذِكر وصيام.. لدخلت تحت الإحسان".
أمّا قلتُ لكم إنّه خلق يشمل الدِّين كلّه.. يشمل الإسلام كلّه؟
لا تكن إمّعة.. يقول النبي (ص): "لا تكونوا إمّعة تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنَّا وإنْ ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، فإنْ أحسن الناس أن تُحسنوا وإنْ أساءوا فلا تظلموا" (الترمذي). ووالله إنّ هذا الحديث لردٌّ عظيم على مَن يقول: كيف أُحسن وكل الناس لا يُحسنون؟ كيف تُريدني ألّا ألقي بورقة في الطريق والطريق كلّه ورق؟ فتذكّر أنك مسلم، لو لم يحسن العالم فأحسن أنت، ولا تستقلّ نفسك وتقول: "أحسن وحدي والدنيا كلّها..".


- لا إفراط ولا تفريط:
وهناك أمرٌ يستحق الإشارة إليه. فبعد القراءة سيقول البعض: من الآن نَويت الإحسان، فترى العجب.. فيصبح موسوساً في كل دقيقة، يُسلِّم على والدته ويخرج من الباب، ثمّ يعود مرّة أخرى سريعاً ويُسلِّم على والدته مرّة أخرى ويقول: أخاف ألّا أكون مُحسناً، إيّاك والوسوسة والمغالاة في خُلق الإحسان. أي خُلق في الإسلام له طرفان، والمطلوب أن تضع نفسك في الوسط بين الطرفين.
فسدِّدوا وقارِبوا في هذا الخلق بقدر ما تستطيعون، واصبروا وارتقوا. وإيّاك من الإفراط والتفريط، وأحسن بقدر ما تستطيع، وسيوفقك الله.

المصدر: أ/ عمرو خالد .
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
35 تصويتات / 2543 مشاهدة
نشرت فى 6 أغسطس 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,778,173

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters