المفهوم السائد للتنمية هو التنمية الاقتصادية الاجتماعية، أي التنمية الاقتصادية ذات البعد الاجتماعي. أما المفهوم الآخر للتنمية والذي بدأ يفرض نفسه والموازي للمفهوم السابق فهو التنمية الاقتصادية - البيئية، أي التنمية الاقتصادية ذات البعد البيئي والتي تستند إلى مفهوم التنمية المتجددة أو ما يسمى بالتنمية المستديمة التي تعني (التنمية التي تلبي حاجات الحاضر دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة على تلبية حاجاتهم، والتي تحقق التوازن بين النظام البيئي والاقتصادي والاجتماعي وتساهم في تحقيق أكبر قدر ممكن من الارتقاء في هذه الأنظمة الثلاث).

 منذ أن أدرك الإنسان مدى إساءته لاستخدام عناصر الكون المختلفة حوله، كانت الدعوة إلى يوم الأرض في عام 1970. ومنذ ذلك الحين تعالت صيحات المدافعين عن البيئة، وظهرت أحزاب الخضر في الكثير من البلاد، وتشكل عند الكثيرين وعي بيئي ورغبة حقيقية في وقف نزيف الموارد، وظهر جيل يعرف مفردات جديدة مثل: النظام البيئي Ecological System)) والاحتباس الحراري، وتأثير الصوبة (Effect Green House) وثقب الأوزون، وإعادة تدوير المخلفات ((Recycling، وتعلق الكثيرون بهذا التعبير الأخير رغبة في التكفير عن الذنب في حق كوكبنا المسكين.

 

هل تعرف القاعدة الذهبية 4R؟

يعتبر إعادة تدوير المخلفات أحد الأركان الأربعة التي تقوم عليها عملية إدارة المخلفات أو ما يعرف بالقاعدة الذهبية 4R والتي يجب زيادة الوعي بها وهي:

 

1- التقليل :(Reduction) والمقصود هنا هو تقليل المواد الخام المستخدمة، وبالتالي تقليل المخلفات، ويتم ذلك:

  1. إما باستخدام مواد خام أقل.

  2. أو باستخدام مواد خام تنتج مخلفات أقل.

  3. أو عن طريق الحدّ من المواد المستخدمة في عمليات التعبئة والتغليف، مثل: البلاستيك والورق والمعادن، وهذا يستدعي وعيًا بيئيًّا من كل من المستثمر والمنتج؛ فمثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية التزم الكثير من منتجي الصابون السائل بتركيزه؛ حتى يتم تعبئته في عبوّات أصغر، أو إنتاج معجون أسنان بدون عبوته الكرتونية الخارجية، وهذا ما يطلق عليه .(Wast minimization)

2- إعادة استخدام المخلفات :(Reuse) وهذا يعني - مثلاً - إعادة استخدام الزجاجات البلاستيكية للمياه المعدنية مثلاً بعد تعقيمها، وإعادة ملء الزجاجات والبرطمانات بعد استخدامها، هذا الأسلوب يؤدي إلى تقليل حجم المخلفات، ولكنه يستدعي وعيًا بيئيًّا لدى عامة الناس في كيفية التخلص من مخلفاتهم، والقيام بعملية فرز بسيطة لكل من المخلفات البلاستيكية والورقية والزجاجية والمعدنية قبل التخلص منها، فنجد في كل من اليابان والولايات المتحدة الأمريكية صناديق قمامة ملونة في كل منطقة وشارع؛ بحيث يتم إلقاء المخلفات الورقية في الصناديق الخضراء، والمخلفات البلاستيكية والزجاجية والمعدنية في الصناديق الزرقاء، ومخلفات الأطعمة أو ما يطلق عليه المخلفات الحيوية في الصناديق السوداء.

 

3- إعادة التدوير (:(Recycling والمقصود بإعادة التدوير هو إعادة استخدام المخلفات؛ لإنتاج منتجات أخرى أقل جودة من المنتج الأصلي.

 

4- الاسترجاع الحراري (:(Recovery وتستخدم تكنولوجيا الاسترجاع الحراري في الكثير من الدول، خاصة اليابان؛ للتخلص الآمن من المخلفات الصلبة، والمخلفات الخطرة صلبة وسائلة، ومخلفات المستشفيات، والحمأة الناتجة من الصرف الصحي والصناعي، وذلك عن طريق حرق هذه المخلفات تحت ظروف تشغيل معينة مثل درجة الحرارة ومدة الاحتراق، وذلك للتحكم في الانبعاثات ومدى مطابقتها لقوانين البيئة. وتتميز هذه الطريقة بالتخلص من 90% من المواد الصلبة، وتحويلها إلى طاقة حرارية يمكن استغلالها في العمليات الصناعية أو توليد البخار أو الطاقة الكهربية.

 

إعادة التدوير.. التقاء البيئة مع الاقتصاد:

 

إعادة تدوير الورق: تعتبر عملية اقتصادية من الدرجة الأولى؛ وذلك لأنه طبقًا لإحصائية وكالة حماية البيئة بالولايات المتحدة الأمريكية فإن إنتاج طن واحد من الورق 100% من مخلفات ورقية سوف يوفر (4100 كيلو وات/ ساعة) طاقة، وكذلك سيوفر 28 مترًا مكعبًا من المياه، بالإضافة إلى نقص في التلوث الهوائي الناتج بمقدار 24 كجم من الملوثات الهوائية. وبالرغم من ذلك، فإنه يتم في الولايات المتحدة الأمريكية إعادة تدوير 20.9 طنًّا ورقيًّا سنويًّا فقط مقابل 52.4 طنًّا من الورق يتم التخلص منها دون إعادة تدوير. أما الورق المعاد تدويره فإنه يستخدم في طباعة الجرائد اليومية.

 

إعادة تدوير البلاستيك: ينقسم البلاستيك إلى أنواع عديدة يمكن اختصارها في نوعينرئيسين هما البلاستيك الناشف Hard Plastic وأكياس البلاستيك Thin Film Plastic، ويتم قبل إعادة التدوير غسل البلاستيك بمادة الصودا الكاوية المضاف إليها الماء الساخن. وبعد ذلك يتم تكسير البلاستيك الناشف وإعادة استخدامه في صنع مشابك الغسيل، والشماعات، وخراطيم الكهرباء البلاستيكية، ولا ينصح باستخدام مخلفات البلاستيك في إنتاج منتجات تتفاعل مع المواد الغذائية. أما بلاستيك الأكياس فيتم إعادة بلورته في ماكينات البلورة.

 

إعادة تدوير المخلفات المعدنية: وهي تتمثل أساسًا في الألومنيوم والصلب؛ حيث يمكن إعادة صهرها في مسابك الحديد ومسابك الألومنيوم، ويعتبر الصلب من المخلفات التي يمكن إعادة تدويرها بنسبة 100%، ولعدد لا نهائي من المرات، وتحتاج عملية إعادة تدوير الصلب لطاقة أقل من الطاقة اللازمة لاستخراجه من السبائك، أما تكاليف إعادة تدوير الألومنيوم فإنها تمثل 20% فقط من تكاليف تصنيعه، وتحتاج عملية إعادة تدوير الألومنيوم إلى 5% فقط من الطاقة اللازمة.

 

إعادة تدوير الزجاج: صناعة الزجاج من الرمال تعتبر من الصناعات المستهلكة للطاقة بشكل كبير؛ حيث تحتاج عملية التصنيع إلى درجات حرارة تصل إلى 1600ْ درجة مئوية، أما إعادة تدوير الزجاج فتحتاج إلى طاقة أقل بكثير.

 

إعادة تدوير المخلفات الحيوية: وتتمثل المخلفات الحيوية في بقايا الأطعمة ونواتج تقليم الأشجار والحقول، ويُعاد تدوير هذه المخلفات في وحدات تصنيع السماد العضوي لإنتاج مواد ذات قيمة سمادية عالية، ويتم ذلك بعدة طرق:

  1. المعالجة بالتخمر الهوائي (طريقة الكمر) :erobic Fermentation وتعتمد هذه الطريقة على عوامل كثيرة، منها: الرطوبة، ونسبة الكربون إلى النيتروجين، وطريقة تكسير المخلفات، ومنها أساليب كثيرة مثل الكمر بتيّارات الهواء الطبيعي Passive Composting، وطريقة الكمر بالهواء القصري Forced Aeration ، وطريقة الكمر الطبيعي  .Natural Composting

  2. عملية التخمر اللاهوائي (البيوجاز)  :Anaerobic Fermentation وتتميز هذه الطريقة بإنتاج غاز البيوجاز (الغاز الحيوي) في أثناء عملية التحلل اللاهوائي، بالإضافة إلى الماء الناتج. ولقد تطورت وحدات البيوجاز في العشرين سنة الماضية بدرجة كبيرة؛ فوصل عدد وحداتها في الصين إلى 7 ملايين وحدة، وفي الهند 120 ألف وحدة، وفي كوريا الجنوبية 50 ألف وحدة، وتعتبر تكنولوجيا البيوجاز من التكنولوجيات الاقتصادية؛ حيث يولد المتر المكعب الواحد من غاز البيوجاز 1.25 كيلو وات/ساعة، وهي طاقة كافية لتشغيل موتور قوته حصان واحد لمدة ساعتين، هذا فضلاً عن الآثار البيئية الإيجابية؛ حيث يتم إبادة قدر كبير من الطفيليات والميكروبات المرضية في أثناء عملية التخمر اللاهوائي.

  3. عملية التخمر بالديدان Vermi composting : في هذه الطريقة تقوم الديدان بدور هام في تحويل المخلفات العضوية إلى سماد عضوي بجودة عالية تحت ظروف ملائمة من الرطوبة والحرارة والتهوية، ووجد أن سماد الديدان ذو كفاءة عالية وخالٍ من بذور الحشائش، ومفكك وخفيف الوزن، ويمكن استخدامه كتربة صناعية في المشاتل، كما أن العملية ذاتها غير ملوثة للبيئة واقتصادية وغير مستهلكة للطاقة.

إن التنمية لا تتطابق مع النمو بأي شكل من الأشكال، فالتنمية عبارة عن عملية اقتصادية اجتماعية سياسية ثقافية بيئية شاملة، ولا يمكن للتنمية أن تنحصر في النمو المادي فقط. وهناك فرق بين النمو المتمثل في زيادة الإنتاج الاجتماعي الإجمالي أو متوسط دخل الفرد وبين التنمية بمفهومها الشامل التي تكون مترافقة بتغيرات هيكلية في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية خلال حقبة طويلة من الزمن، ولا يمكن أن يكون مستوى دخل الفرد أو معدل نمو دخل الفرد المؤشر الرئيسي على مدى تقدم المجتمعات باتجاه التنمية.

 

إن مفهوم التنمية الاقتصادية مرتبط بالرفاه الاجتماعي وبرفع مستوى المعيشة وذلك من خلال رفع مستوى ونوعية حاجات الإنسان الأساسية والثانوية في المدى البعيد. ولتحقيق التنمية الاقتصادية بمفهومها الحديث لابد من التغلب على عقبات وتحديات كثيرة من أهمها مشكلة البيئة. لا شك أن هناك اتفاقاً عاماً على المستوى النظري وفي مختلف دول العالم حول الحاجة إلى ضرورة الربط بين السياسات التنموية والبيئية، إلا أنه لا تزال هناك فجوة كبيرة بين بلاغة الكلام وبين الممارسة العملية على أرض الواقع؛ ربما كانت الاهتمامات تنصب سابقاً على آثار التنمية في البيئة. واليوم؛ الحاجة ماسة لفهم الطرائق التي يمكن للتدهور البيئي أن يقود إلى وقف التنمية بل ربما تغيير اتجاهها.

 

إن الهاجس الذي يلاحق كل شعوب الأرض هو كيفية تحقيق تنمية اقتصادية بأقل قدر من التلوث والأضرار البيئية وبالحد الأدنى من استهلاك الموارد الطبيعية، وهذا يتطلب دمج الاعتبارات البيئية وإدارة الموارد الطبيعية في سياسات وخطط التنمية، بحيث يكون التخطيط للتنمية والتخطيط البيئي عملية واحدة وبحيث يكون الاهتمام منصبا على نوعية الحياة ونوعية الرفاه أكثر منه على إنتاج السلع والخدمات في الأمد القصير، إن المشاكل البيئية المتعلقة بالماء والتربة والهواء تؤثر تأثيراً كبيراً على الإنتاجية وعلى الكفاءة الاقتصادية، وهذا يستدعي إدخال المعايير البيئية عند إقامة المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية، أي القيام بدراسات للجدوى البيئية للمشاريع المقامة والتي ستقام، وإلزام المستثمرين بهذه الدراسات التي تبين تأثير المشروعات على البيئة وإمكانية وكيفية معالجة الآثار البيئية الناجمة عن إقامة كل مشروع.

 

مؤكد أنه لا يمكن إيقاف التنمية من أجل المحافظة على سلامة البيئة، ولا يمكن الاستمرار بالتنمية بالشكل السائد حيث لا تؤخذ الاعتبارات البيئية بالحسبان.. وبالتالي لابد من التوفيق بين التنمية والبيئة، وعملية التوفيق هذه يمكن أن تتم عن طريق حساب العائدات والتكاليف البيئية للتنمية، أي من خلال تحليل العائدات والتكاليف، الذي يأخذ بالاعتبار العائدات الاجتماعية والتكاليف الاجتماعية. وباستخدام طريقة تحليل العائدات والتكاليف يمكن ترتيب المشروعات حسب درجة تأثيرها سلباً وإيجاباً على البيئة، حيث تعد الأضرار البيئية تكاليف اجتماعية تحسب في دراسة الجدوى البيئية من ضمن تكاليف المشروع وتعد الآثار البيئية الإيجابية للمشروع عائدات اجتماعية تحسب ضمن عائدات المشروع.. وبعد أن يتم حساب كل العائدات والتكاليف يمكن الحصول على القيمة الحالية الاجتماعية، ويكون المشروع الذي تكون صافي قيمته الحالية بعد حساب كل التكاليف الاجتماعية (بما في ذلك تقدير الأضرار البيئية) والعائدات الاجتماعية (بما في ذلك العائدات البيئية) أكبر من صافي القيمة الحالية للمشروعات البديلة، يكون هو المشروع الأفضل من الناحية البيئية، ثم الذي يليه في القيمة الحالية.. وهكذا. وتكون المشروعات المختارة للتنفيذ، أي التي تكون قيمتها الحالية أعلى، هي المشروعات التي تساهم في تحقيق التنمية المتجددة باعتبارها تؤدي إلى أضرار بيئية أقل، وتكون المشروعات التي قيمتها الحالية أقل هي الأكثر ضرراً للبيئة.

 

ونظراً للتطورات المستمرة فإنه يجب أن يكون هناك تقويم بيئي ميداني بعد تنفيذ المشروعات للتعرف على الآثار الفعلية السلبية والإيجابية للمشروعات على البيئة. وعند القيام بتحليل العائدات والتكاليف لابد من حل معضلتين أساسيتين: الأولى تتعلق بحصر وتقويم الأضرار البيئية نقدياً، والثانية تتعلق بتحديد سعر الفائدة الاجتماعية الذي يجب أن يتم الحساب على أساسه والذي يعكس التفضيل الزمني للمجتمع. وعند اتباع طريقة تحليل العائدات والتكاليف يجب أولاً تحديد الوضع البيئي الحالي، أي قبل البدء بتنفيذ المشروع للتمكن من معرفة التغيرات البيئية التي قد تحصل، وثانياً يجب تقدير كل العائدات بما في ذلك العائدات البيئية وكذلك تقدير كل التكاليف بما في ذلك التكاليف البيئية الناجمة عن قيام المشروع ويجب أن يكون هناك تصور للتغيرات البيئية المرغوبة التي قد تنجم عن تنفيذ المشروع.

وقد زادت الآثار السلبية على البيئة بعد استخدام الإنسان للصناعات الكيماوية بكل أشكالها فرغم أن هذه الصناعات استحدثت عددًا من العقاقير والمركبات الكيماوية التي كان يراها الإنسان في البداية ذات فائدة اقتصادية عظيمة في حياته إلا أنه بعد فترة اكتشف أنها من أخطر مصادر التلوث فمثلاً مادة " دي .دي . تي " عندما استحدثها الإنسان كان يعتبرها الوسيلة المثلى للقضاء على الأوبئة والملوثات؛ ولكن بعد فترة اكتشف أن أضرارها تفوق فوائدها لدرجة أن الحكومات قامت بتجريم استخدامها، ومع التطور الصناعي والتكنولوجي أصبحت البيئة أكثر تأثرًا بالنشاط الاقتصادي للإنسان لدرجة امتداد هذا التأثير السلبي إلى الفضاء الخارجي بعد استخدام الإنسان للطيران والصواريخ وغزو الفضاء الخارجي وحرب النجوم واستخدام الطاقة النووية في الصناعة.

 

تعظيم الاستهلاك وعولمة التلوث: لقد زاد حجم استهلاك الفرد زيادة كبيرة في السنوات الأخيرة وتحسنت درجة الرفاهية في مختلف دول العالم سواء المتقدمة أو النامية لدرجة أنه أطلق على هذا العصر "عصر الاستهلاك " وكان أخطر ما نجم عن ذلك زيادة حجم النفايات المتخلفة عن هذا الاستهلاك وعن استخدام الوسائل الجديدة للرفاهية، وأصبحت هذه النفايات تمثل خطورة على البيئة وعلى تواصل عملية التنمية، وذلك لأن زيادة الاستهلاك في العالم ارتبطت بتراكم مخلفات من مواد مصنعة غير قابلة للتحلل في التربة وملوثة للتربة والمياه مثل: البلاستيك واللدائن ومواد التغليف وغيرها من المواد المركبة التي يصعب التخلص منها، وعلى سبيل المثال يوجد بالهند -رغم أنها دولة نامية- حوالي 60 ألف طن من النفايات يوميًا، وهذه الكمية تتضاعف مرات ومرات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لأن المستهلك في هذه الدول يستهلك أضعاف ما يستهلكه غيره في الدول النامية بسبب اختلاف أنماط المعيشة ومعدلات الرفاهية.


لقد ظلت العلاقة بين البيئة والتنمية الاقتصادية علاقة متوازنة طوال الفترة التي كان الاستهلاك يتوازن مع الإنتاج الذي يفي بحاجات السكان ومتطلباتهم، ولكن عندما تجاوزت العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك هذا التوازن وصلت البيئة إلى الخط الحرج الذي يمثل الخط الفاصل بين الاستخدام الرشيد للمواد والاستغلال الجائر لها حيث بدأت المشاكل التي تتعرض لها البيئة تأخذ صفة التدمير الكلي لجميع مظاهر التنمية الاقتصادية والاجتماعية في معظم أرجاء العالم، وأصبح التصرف المخالف للبيئة التي ترتكبه أي دولة ينتقل إلى الدول الأخرى من خلال الهواء أو المياه أو المنتجات التي تصدرها، ومن هنا كان لا بد من تحرك العالم على المستوى الإقليمي والدولي لضبط استخدام البشرية للموارد الاقتصادية، وذلك للحفاظ على تواصل عملية التنمية، وكان المؤتمر الأول للأمم المتحدة حول البيئة والتنمية في السبعينيات يسعى إلى تحقيق الانسجام والتكامل بين البيئة والتنمية من منظور اقتصادي وقانوني وإعلامي.


وعلى مدى السنوات الماضية تم عقد العديد من المؤتمرات الدولية لهذا الغرض كان أشهرها "قمة الأرض" التي عقدت عام 1992 في "ريو دي جانيرو"، كما وقعت معظم دول العالم على العديد من الاتفاقيات والتي بلغت أكثر من 140 اتفاقية من أجل الحفاظ على البيئة، وحُدد يوم 5 يونيو من كل عام كيوم عالمي للبيئة، وظهرت جماعات مدنية رسمية وأهلية تدافع عن البيئة؛ وكان أشهرها الجماعة التي لونت نفسها باللون الجديد وهي "جماعة الخضر".

 

الاقتصاد الأخضر يغير مفهوم الأمن القومي: لقد ارتبط مفهوم الأمن القومي للدولة في الماضي بالأمن العسكري، ولذلك كان التركيز على بناء قوة قادرة على التعامل مع الأخطار الخارجية باستخدام الأعمال العسكرية، ولكن التفسير الشامل للأمن القومي في الوقت الراهن هو قدرة الدولة على تأمين استمرار مصادر قوتها في كل المجالات بما فيها المجال الاقتصادي لمواجهة المخاطر التي تهددها وتأمين متطلبات الحياة الأساسية لأبنائها في الحاضر والمستقبل، ويرتبط هذا التأمين بتلوث البيئة أو الاستخدام الجائر للموارد الذي قد يؤدي إلى خلل داخلي وانهيار عناصر قوة الدولة، ولذلك أصبح التحدي الذي يواجه العالم على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي يتعلق بالتوفيق بين النمو الاقتصادي والسكاني من ناحية، وبين الحفاظ على العناصر الأساسية للحياة من خلال الحفاظ على البيئة من ناحية أخرى. ومن هنا أصبحت المشاكل البيئية من الممكن أن تهدد الأمن القومي من خلال التأثير على الانتعاش الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، بل إن تأثير مشاكل البيئة امتد إلى تغيير مفهوم الأمن العالمي الذي انتقل من "توازن القوى والردع والتعايش السلمي والأمن الجماعي" إلى مفهوم آخر هو "الأمن المشترك" والذي يقوم على أن الأمن الحقيقي لا يمكن توافره إلا من خلال التعاون والتنسيق بين جميع الدول حتى الأعداء، وذلك لأن تدمير البيئة من خلال النشاط الاقتصادي يؤدي إلى الضعف الاقتصادي والاجتماعي وتهديد نوعية الحياة للإنسان على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، ومن ثم يصبح التنافس بين الدول أكثر ضراوة، ويؤدي إلى نشوب توترات سياسية، ولذلك أصبح هناك تداخل بين المشاكل الاقتصادية والسياسية من جانب، وبين المشاكل البيئية من جانب آخر. ولم يعد من الصواب أن نقول إن التنمية التي تتعدى الحدود الطبيعية تعتبر تلوثًا، وإنما الصحيح أن نقول إن تلوث البيئة يمنع التنمية أصلاً، فتلوث المياه يفسد الزراعة. كما لم يعد من الصواب أن نقول فقط إن النزاعات الداخلية أو فيما بين الدول تؤثر على البيئة، بل الصحيح أن نقول إن تدهور البيئة يؤدي إلى اشتعال الصراعات بين الدول.

 

التنمية السوداء: لقد أدى إدخال البعد البيئي في مجال الاقتصاد إلى تغير مفهوم التنمية الاقتصادية من مجرد زيادة استغلال الموارد الاقتصادية النادرة لإشباع الحاجات الإنسانية المتعددة والمتجددة إلى مفهوم "التنمية المتواصلة أو التنمية المستدامة " حيث تعرف التنمية المستدامة أو المتواصلة بأنها: نوع من أنواع التنمية تفي باحتياجات الحاضر دون الجور على قدرة الأجيال القادمة في تحقيق متطلباتهم، فالتنمية المتواصلة لا تمنع استغلال الموارد الاقتصادية مثل: المياه والنفط والغابات، ولكنها تمنع الاستغلال الجائر لهذه الموارد بالدرجة التي تؤثر على نصيب الأجيال القادمة من هذه الموارد، وخاصة إذا كانت موارد قابلة للنضوب أو غير متجددة كالنفط مثلاً.


في نفس الوقت تمنع التنمية المتواصلة تحميل الأجيال القادمة أعباء إصلاح البيئة التي تلوثها الأجيال الحالية. وأصبح هناك تفرقة في نظريات التنمية الاقتصادية بين التنمية التي تراعي الجوانب البيئية وتعرف بالتنمية الخضراء أو المتواصلة أو المستدامة وبين التنمية الاقتصادية البحتة التي لا تراعي البعد البيئي والتي أصبحت محل انتقاد من كافة الأوساط والمؤسسات الاقتصادية العالمية؛ لدرجة أن البعض يطلق عليها "تنمية سوداء"، وقد أصبحت المؤسسات الاقتصادية العالمية تهتم بإعداد حسابات قومية على أساس مراعاة البعد البيئي، وتعرف باسم "الحسابات القومية الخضراء" وهي حسابات تقوم على أساس اعتبار أن أي تحسن في ظروف البيئة وفي الموارد الاقتصادية هي زيادة في أصول الدولة، وأن أي تناقص في الموارد الاقتصادية أو إضرار بالبيئة هو زيادة في التزامات الدولة ونقص في أصولها.

 

الاقتصاد الأخضر من مطالب النظام العالمي الجديد: لقد تم إدخال مفهوم الاقتصاد الأخضر والتنمية الخضراء في قواعد النظام العالمي الجديد، فأصبحت المعايير البيئية من أهم الشروط التي يجب توافرها في السلعة حتى تدخل إلى الأسواق العالمية، وأصبح من حق بلدان العالم منع دخول سلعة معينة إلى أسواقها لأن الدولة المنتجة لها لا تراعي البعد البيئي عند إنتاج هذه السلعة مثل: السلع الملوثة للبيئة، أو السلع التي يقوم إنتاجها على أساس الاستغلال الجائر للموارد، أو تؤثر على التوازن البيئي؛ مثل: تجارة العاج المأخوذ من الأفيال، أو الفرو المأخوذ من الحيوانات النادرة، أو السلع التي يمكن أن تضر بالصحة الإنسانية مثل: السلع الزراعية أو الفواكه التي يستخدم في إنتاجها أسمدة كيماوية معينة مثل: اليوريا أو ترش بمواد كيماوية أو تستخدم طرق الهندسة الوراثية أو التعديلات الجينية في إنتاجها، ولذلك أصبحت المصانع والمزارع في أغلب بلدان العالم حريصة على وضع علامة على منتجاتها توضح أن هذه المنتجات خضراء أو أنتجت بطريقة آمنة بيئيًا. كما ظهرت مؤسسات دولية لمنح شهادات دولية للمصانع والمزارع التي تراعي الجوانب البيئية مثل شهادة الأيزو 14000.


وعلى مستوى المنشآت أصبحت هناك مراكز تجارية عالمية متخصصة في بيع السلع الخضراء التي تنتج بطريقة آمنة بيئيًا، وأطلق على هذه المتاجر "المتاجر الخضراء" وأصبحت تلقى إقبالاً كبيرًا من المستهلكين، وفي السنتين الماضيتين أصبحت بعض مؤسسات التمويل الدولية والقومية في بعض الدول تمتنع عن تقديم تمويل أو دعم للمشروعات التي لا تراعي الجوانب البيئية. وظهرت بنوك لا تمول أو تساهم في مشروعات تلوث البيئة؛ وعرفت هذه البنوك بأنها " بنوك خضراء" وظهر التمويل الأخضر؛ والذي أصبح مجالاً جديدًا للتنافس بين البنوك لجذب عملاء جدد.


ورغم الاهتمام العالمي والإقليمي والقومي بالبعد البيئي للتنمية إلا أنه يبقى عنصر هام جدا لتفعيل عملية الحفاظ على البيئة وضمان تواصل عملية التنمية؛ هذا العنصر هو: الوعي البيئي للفرد نفسه والذي إذا توفر فإنه يكون أكثر فاعلية من سن القوانين والتشريعات، ويوفر كثيرًا من الجهد والمال، ومن ذلك إشاعة التعاليم الإسلامية التي تحث على الحفاظ على البيئة بسلوكيات محددة تجلب له كرامة واحترامًا في الحياة وأجرًا في وثوابًا في الآخرة.

 

المصدر: موقع الإقتصاد والبيئة .
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 135/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
45 تصويتات / 7000 مشاهدة
نشرت فى 5 أغسطس 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,877,743

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters