الاتجاهات النظرية في دراسة التنمية الاجتماعية
المقدمة
أولاً:-اتجاه التحديث Modernization -
ثانيا:-اتجاه التبعية –Dependency
ثالثا:-اتجاه التنمية المستقلة (الذاتية).
المقـدمـة
قامت الثورة الصناعية في اوربا وتحديدا في بريطانيا واقطار اوربا الغربية من بعدها، وانتشرت هذه الثورة في اقطار العالم إلاخرى مثل اليابان وإلاتحاد السوفيتي (سابقا) اللذين حققا نجاحات كبيرة في النمو والتقدم في مختلف إلاصعدة والمجإلات. وفي منتصف القرن العشرين استطاعت الكثير من اقطار اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية الحصول على استقلالها وبدات هذه الأقطار التفكير جديا بمحاولة تخطي مرحلة التخلف وإلأنتقال بمجتمعاتها إلى مرحلة جديدة لبناء اقتصادها والقضاء على الجهل والمرض والفقر.
ولكن هذه الأقطار لم تتخذ نفس التوجهات او السياسات الاقتصادية لبعضها بعضا والذي يرجع إلى عوامل واسباب كثيرة ومتعددة ، ابرزها امكانات وموارد كل دولة والتوجهات إلايديولوجية والسياسية المؤثرة في نموذج للتنمية من دون آخر ، فضلا عن العوامل الخارجية التي تؤثر بدرجة او بأخرى في هذه الدول ، وقد اختلفت نسبة ما تحقق من انجازات في هذه الأقطار فبعضها قد حقق نجاحات كبيرة في اهدافه وبعضها إلاخر اصابه إلاخفاق والتعثر، وقد اجتهد الباحثين والمتخصصين في دراسة بعض هذه التجارب لوضع الفرضيات والنظريات التي تفسر كيفية انتقال هذه الأقطار من حالة التخلف التي تقبع فيها إلى حالة التقدم والتطور، وقد اختلف هؤلاء الدارسين في تقويمهم لافضل السبل الكفيلة بنقل ما يسمى بالدول النامية إلى مصاف الدول المتقدمة. وينبع هذا إلاختلاف من عوامل عديدة منها إلاختلاف في تحديد بعض المفاهيم الخاصة بالتنمية والتطور ومنها إلاختلاف في المنطلقات التي يتخذها كلا منهم قاعدة للتنمية الشاملة ومن ضمنها ايضا التوجه إلايديولوجي لهؤلاء الدارسين والباحثين وغير ذلك من العوامل التي ادت إلى اختلاف هذه الفرضيات في بعض مفاهيمها او مضمونها او سياساتها ومع ذلك يمكن وضع هذه الفرضيات في اتجاهات رئيسة أهمها اتجاه التحديث واتجاه التبعية ويمكن اضافة اتجاه ثالث هو اتجاه التنمية المستقلة الذي بدا بالتبلور مؤخرا.
أولاً:-اتجاه التحديث.
ثانيا:-اتجاه التبعية.
ثالثا:-اتجاه التنمية المستقلة (الذاتية).
سنستعرض أهم إلافكار والمضامين التي تبناها كل اتجاه وذكر أهم دعاته ومؤيديه مستشهدين بارائهم كما سنطرح أهم الأنتقادات الموجهة إلى كل اتجاه لا سيما التحديث والتبعية.
أولاً:-اتجاه التحديث
يمكن القول ان اتجاه التحديث يستند إلى التصنيفات الثنائية الكبرى والتي ظهرت في القرن الماضي لا سيما ثنائية تونيز Tonies ودور كايم Durkheim ، وبناء عليه اخذ هذا الاتجاه يصنف المجتمعات وعناصرها الأجتماعية إلى مجتمعات حديثة Modern واخرى تقليدية Traditional ، و طورت مؤشرات تنظيمية وديموغرافية واقتصادية وتكنولوجية وسياسية وموقفية لايجاد اساس لهذا التصنيف ، ويجري تطبيق هذه المؤشرات والمفاهيم على المجتمعات والمؤسسات .
لقد نشا وتطور هذا الاتجاه في الخمسينيات وبداية الستينيات من هذا القرن على ايدي عدد من علماء إلاجتماع والاقتصاديين لا سيما مجموعة من الباحثين إلامريكيين وابرزهم من المعاصرين بارسونز وقد أكد اغلبهم القيم وإلاعراف التي تؤثر في المجتمعات الحديثة والتقليدية وفي انظمتها الاقتصادية والأجتماعية ، وكما فعل دور كايم وفيبر قبلهم ، إذ يرى اكثرهم ان التحول من العلاقات الاقتصادية المحدودة للمجتمع التقليدي إلى المؤسسات الاقتصادية التجديدية المعقدة للمجتمع الحديث يعتمد على تغيير مسبق في قيم ومواقف واعراف الناس .
فعلى سبيل المثال يرى (ب-باور P.Bauer) وهو أحد المتحمسين لهذا الاتجاه ان "إلأنجاز الاقتصادي والتقدم يعتمدان كثيرا على القدرات والمواقف البشرية وعلى المؤسسات والترتيبات الأجتماعية والسياسية المستمدة منها وعلى التجربة التاريخية، وبدرجة اقل على إلاتصال بالعالم الخارجي، وفرص السوق وعلى الموارد الطبيعية" .
فلا يمكن للتنمية -حسب هذا المفهوم- أن يكتب لها النجاح إلا في حالة استبدال القيم التقليدية بقيم حديثة ، ولذلك يمكن ملاحظة ثلاث سمات اساسية في المجتمع التقليدي هي:-
1) الناس متمسكون بالماضي ويفتقدون إلى القدرة الثقافية للتكيف مع الظروف الجديدة.
2) يعد نظام القرابة هو المعول عليه بوصفه مرجعاً حاسماً للممارسات الأجتماعية كافة.
3) يتميز اعضاء المجتمع التقليدي بنظرة عاطفية خرافية وقدرية إلى العالم.
وعلى نقيض ذلك، فالمجتمع الحديث يحمل خصائص مختلفة كليا:-
1) قد يكون الناس ما زالوا يحتفظون بتقاليدهم ولكنهم ليسوا عبيدا لها ، وانهم يتحدون اي منها اذا ما بدا غير ضروري او يقف في طريق التقدم الحضاري المستمر.
2) للقرابة دور ضعيف جدا من حيث أهميته في النظم والمؤسسات الأجتماعية والاقتصادية كافة، فالفرد يحصل على مركزه من خلال العمل الشاق وحافز إلاداء العالي ولا تتحكم به القرابة.
3) افراد المجتمع الحديث ليسوا قدريين ، وانما يتطلعون إلى المستقبل ويؤمنون بالتجديد لا سيما في مجإلات العمل ويعكسون بذلك روح إلالتزام العالية والنظرة العقلأنية العلمية إلى العالم.
وإلى نفس المعنى السابق ، يشير اغلب مؤيدي هذا الاتجاه مثل بارسونز وماك كليلأند وهاغان وليرنر وان اختلفوا في بعض التفاصيل.
من جهة اخرى فان بعض اصحاب اتجاه التحديث يربطون بين التنمية والتصنيع والتحديث بعدها عمليات لا يمكن الفصل بينها ويرون ان عملية التحديث عبارة عن حالة معينة للتنمية وان التصنيع هو احد اوجه التحديث ، فقد ربط بعض الدارسين مثل كنجزلي دافير K. Davis وهولدا جولدن H. H. Golden عمليات التخلف والتنمية بعمليات التحضر التي ترتبط في نظرهما ارتباطا وثيقا بالتنمية الاقتصادية والتحول الثقافي وإلاجتماعي بوجه عام ، وهكذا فان إلاهتمام بالتنمية من هذا المنظور هو اهتمام بالتغير إلاجتماعي وبالتحضر ، ويرى ليرنز ان نمو المراكز الحضرية الجديدة في العالم الثالث هو نقلة تقدمية، تشجع الفردية وتقلل من شان عائق التقليدية ، ويدعى ان التحضر هو قوة لزيادة مستوى المشاركة في المجتمعات فالسكان يصبحون اكثر مشاركة كلما تطورت لديهم المواقف الجديدة وإلأنفتاح الجديد والمناقشة التي تشجع قابلية التحول النفسي ، فضلاً عن ذلك فان متطلبات الحياة الحضرية تشجع تطور بعض جوانب الحياة مثل القراءة والكتابة كذلك فان إلافكار الجديدة لهذه البوتقة الحضرية تتسرب إلى المناطق الريفية والتي بدورها تصبح اكثر انتاجية لأدراك الفلاح للطلب المتزايد على السلع الغذائية من سكان المدن ، ولذلك تنمو المدينة والريف معا نتيجة لتبادل السلع المادية والحضارية. وعليه فالمركز الحضري حسب نظرية التحديث مكانا لنمو السكان وانتقالهم وتكاملهم، وتؤدي المدينة دور المحفز للتنمية الأجتماعية مولدة اتجاهات حضارية جديدة بين سكانها من جهة مؤثرة في تنمية الريف من جهة اخرى عن طريق الاحتكاك والاتصال ، وهذه المسالة يركز عليها اتجاه التحديث بشكل كبير ، فالتنمية بمعنى التحديث ليست عملية تطورية، وانما هي عملية محاكاة وانتشار لأنماط ونظم جديدة سواء من الدول المتقدمة إلى الدول المتخلفة او من المراكز الحضرية إلى المناطق المحيطة او المجاورة وان اساس هذا إلأنتشار هو التحضر والتصنيع.
ومن المضامين إلاساسية لاتجاه التحديث تأكيده تشجيع التجارة الحرة على المستوى العالمي والاستثمار إلاجنبي في العالم الثالث ، ومن دعاة وجهة النظر هذه بيتر باور Peter Bauer إذ يعتقد ان النمو سواء كان في بريطانيا او في العالم الثالث يمكن ان يحدث من خلال جعل السوق حرة ورفع القيود التجارية وتشجيع راس المال ليجد اكثر المجإلات ربحا وان وجود التباين في إلاقتصاد الدولي يعكس فقط الفشل النسبي لبعض البلدان في تحقيق الظروف الصحيحة لاستثمار راس المال ، ويستبعد دعاة هذا الاتجاه المبدأ القائل ان التنمية الاقتصادية تعني مساواة اكبر مثلا من خلال إعادة توزيع الاراضي والدخل بعد ذلك شيئا تضليليا ، وان كون العالم الثالث لا يحقق الرخاء مقارنة بالبلدان الصناعية في الغرب ليس سوى انعكاس للاستخدام غير الكفؤ للموارد وقلة محفزات الاستثمار في البلدان الفقيرة.
يعيد هذا الرأي إلى الذهن آراء مشابهة أكدها كل من ادم سميث Adam smith وديفيد ريكاردو David Ricardo اللذين يريان ان نمو مؤسسة السوق الحر هي التي اوصلت الدول الغربية إلى الازدهار لأن عناصر الأنتاج (إلارض –العمل –راس المال) ستستعمل بشكل اكثر انتاجية تحت الظروف التنافسية، كذلك يريان ان الحكومة يجب ان لا تتدخل في السوق التي تنظم الاقتصاد بشكل ذاتي من خلال قوانين العرض والطلب لتضمن الاستخدام الافضل للموارد ، كما ان التجارة الحرة من دون تدخل ، مكنت رجل الاعمال الطموح من تطوير مؤسسة ناجحة سواء في داخل بلده او في خارجه.
ويكاد يتفق اغلب دعاة اتجاه التحديث على هذه المسالة مثل بارسونز ودافيد ابتر David Apter الذي قدم دراسة بعنوان "سياسات التحديث" وكنجزلي ديفز وايزنشتادت Eisenshtadt الذي قدم دراسة بعنوان "التحديث –المقاومة والتغير" .
ومن المضامين الاساسية لاتجاه التحديث ان الأنظمة الاقتصادية الغربية ستستمر في النمو والتطور وفي هذا المجال اجتهد دعاة هذا الاتجاه في وضع المراحل التي يمر بها المجتمعات الأنسانية ، فبعضهم لا يرى إلا بوجود مرحلتين تمر بها هذه المجتمعات هي مرحلة التخلف ومرحلة الحداثة مستندين بذلك إلى التصنيفات الثنائية التي قدمها كل من تونيز ودور كايم وغيرهما وعليه فقد صنفت المجتمعات إلى مجتمعات حديثة ومجتمعات متخلفة او تقليدية ، ولكن بعضهم الاخر قال بوجود اكثر من مرحلتين من مراحل النمو والتطور إذ يرى ان هناك ثلاث مراحل للتحديث تمر بها المجتمعات فضلاً عن مرحلة التخلف ومرحلة التحديث ، فهناك مرحلة ثالثة وسط يسميها مرحلة طارئة والمجتمع الذي يمر بها يطلق عليه المجتمع إلأنتقالي.
بينما يرى بلاك C-E-Black في مؤلفه "ديناميات التحديث" ان هناك اربع مراحل اساسية لعملية التحديث وهذه المراحل هي:-
المرحلة الاولى:-وهي تدور عن التحدي الذي يفرضه التحديث ، بمعنى ان المجتمع التقليدي حينما يواجه افكارا ونظما وخبرات حديثة تظهر بداخله اصوات تطالب بالتجديد وإلاصلاح وهذه هي مرحلة إلايقاظ.
المرحلة الثانية:-وهي مرحلة تكامل قيادة التحديث ، وهي تمثل مرحلة الكفاح لا سيما على المستوى السياسي اذ تشهد القيادة خلالها انتقإلا من التقليدية إلى مرحلة تتطلع فيها إلى إلاصلاح والتحديث.
المرحلة الثالثة:-وهي المرحلة التي يتحقق فيها بالفعل التحولات الاقتصادية والأجتماعية ، فينتقل المجتمع من مجتمع ريفي يعتمد على الزراعة بوصفها طريقة في الحياة إلى مجتمع صناعي حضري.
المرحلة الرابعة:-وهي مرحلة متقدمة إلى ابعد حد ، إذ لم تصل اليها إلا اربع عشرة دولة فقط في هذا القرن ، منها الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والدول الاسكندنافية ، وتتمثل هذه المرحلة في ظهور عملية إعادة تنظيم اساسي للبناء إلاجتماعي ككل نتيجة للتحولات الاقتصادية والأجتماعية التي يشهدها المجتمع.
اما الاقتصادي و. و. روستو W. W. Rostow والذي يعد من ابرز دعاة هذا الاتجاه ، فيرى في كتابه الموسوم "مراحل النمو الاقتصادي" بان المجتمعات كافة تقع ضمن احدى المراحل الخمس: المجتمع التقليدي، ومرحلة التمهيد للأنطلاق، ومرحلة إلأنطلاق، ومرحلة السير نحو النضج، واخيرا مرحلة إلاستهلاك الجماعي العالي المستوى ، وقد اشتق هذه المراحل الخمس من تحليله للثورة الصناعية في بريطانيا وهو يرى ان مرحلة إلأنطلاق هي بمثابة الحد الفاصل في حياة المجتمعات الحديثة عندما تزول العوائق من طريق النمو الاقتصادي لا سيما مع توسع القوى الفاعلة من اجل التقدم الاقتصادي التي تسيطر على المجتمع بأسره ، وفي هذه المرحلة ترتفع نسبة الاستثمار الفعال وإلادخار إلى 10% من الدخل القومي السنوي او اكثر من ذلك ، وتتوسع الصناعات الجديدة بسرعة وتدر ارباحا كبيرة ويعاد توظيف نسبة كبيرة من ارباحها في مشاريع جديدة والتي تزيد من استخدام العمال والخدمات المطلوبة لهم فتتوسع المدن وتزداد دخول إلافراد الذين يدخرون نسبة كبيرة منها ليستثمروها في مختلف إلأنشطة الحديثة وتتوسع كذلك طبقة ارباب العمل وتوجه إلاموال المتدفقة للاستثمار في القطاع الخاص وتستغل موارد طبيعية لم يسبق استغلالها وتبتكر طرائق جديدة في الأنتاج وتنتشر إلاساليب الحديثة في الزراعة كما انتشرت في الصناعة ، وكلما زادت الزراعة من اعتمادها على التجارة وكلما زاد استعداد الفلاحين لاقتباس الوسائل الجديدة وما ينتج عنها من تغيرات عميقة في طرائق حياتهم ، وتعد التغيرات الثورية في الأنتاجية الزراعية شرطا مهما للأنطلاق الناجح ، لأن اقتباس المجتمع للحياة العصرية يزيد من طلبه على المنتجات الزراعية وبعد مرور عقد او عقدان من السنين يتغير التركيب إلاساسي للحياة الاقتصادية وكذلك التركيب السياسي وإلاجتماعي ، الامر الذي يؤدي إلى استمرار النمو بمعدل منظم وثابت.
ان معظم دعاة اتجاه التحديث يركزون على الطموح العملي عند إلافراد والمقترن بتراكم واستثمار راس المال ويعدون هذين العاملين من العوامل إلاساسية للتنمية، وفي هذا المجال يرى روكسبورو Roxborough
"ان هذا التاكيد على تنظيم العمل وتراكم راس المال هو الموضوع الرئيس السائد في ادبيات النمو الاقتصادي، ويبدو دائما انه الدرس الذي لا بد من تعلمه من التجربة الغربية وتطبيقه حرفيا في بقية انحاء العالم لكي تعيد تطبيق عملية التحول" ، ويرى اغلب دعاة اتجاه التحديث ان تنمية وتطوير اقطار العالم الثالث لا يمكن ان يتم من دون اقتباس خصائص الحداثة من المجتمعات الغربية ، اي ان على الدول النامية اقتفاء خطوات الدول المتقدمة اذا ما ارادت اللحاق بها وتجاوز مرحلة التخلف، وتشير كتابات مؤيدي هذا الاتجاه إلى ان تاريخ تطور التصنيع في الغرب لم يعد شيئا فريدا من نوعه كما اعتقد فيبر ، وانما برنامج عمل للتنمية في العالم ، إذ يقول ايزنستات Eisenstadt: "ان التحديث من الناحية التاريخية هو عملية التحول نحو تلك إلأنماط من إلأنظمة الأجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تطورت في اوربا الغربية وامريكا الشمالية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر"
ويذهب بعضهم إلى ابعد من ذلك مثل توماس كوهن Kuhn إذ يقول:- "ان نماذجنا تحدد شكل العالم، فهي مصدر التساؤلات التي تثيرها والمشاهدات التي نقوم بها، وإلأهمية التي نوليها لهذه المشاهدات. ومع تغير نماذجنا يتغير العالم من حولنا"
ويمكن ايجاز ابرز إلافكار التي جاء بها اتجاه التحديث بما ياتي :-
1) اعطاء أهمية كبيرة للجوانب السوسيولوجية والسايكولوجية والاقتصادية في التنمية إذ إلاشارة المتكررة إلى انظمة القيم والدوافع الفردية وتراكم راس المال بعدها أهم شروط التغير إلاجتماعي.
2) تأكيد أهمية انتشار خصائص التحديث والتي تمتاز بها المجتمعات الغربية المتقدمة إلى البلدان النامية لتحصل على الفرصة المناسبة للتحول.
3) التحديث بواسطة إلأنتشار يشجع على وجود إلاسرة النووية، القضاء على إلامية وانتشار التعليم. تطور وسائل إلاتصال لتشجيع الوعي لا سيما الوعي السياسي، المشاركة الشعبية في الحكم واستبدال انماط السلطة التقليدية بنظام عقلأني قانوني وايجاد حكومة وطنية قائمة على إلأنتخابات البرلمانية.
4) هناك مراحل متعددة ومتباينة في خصائصها تمر بها المجتمعات التقليدية في طريق التنمية المنشودة وتباين تلك المجتمعات في تبني خصائص المجتمعات المتقدمة.
5) ستستمر الدول الغربية المتقدمة في النمو والتطور إلى ان تمتع برفاهية مرحلة إلاستهلاك الجماعي العالي المستوى كما يرى روستو وليس هناك تدهور محتمل او اضمحلال تدريجي في ثروات هذه إلأنظمة الاقتصادية.
6) تأكيد تشجيع التجارة الحرة في الاستثمار إلاجنبي وعدم التدخل الحكومي وفسح المجال امام القطاع الخاص المتمثل برجال إلاعمال لتطوير المؤسسات الناجحة.
ومع إلاقرار بما لاتجاه التحديث من تاثير ايجابي في مجال البحث والدراسات الأجتماعية، غير ان هناك عددا من المسائل والقضايا الهامة المتعلقة بالتغير إلاجتماعي والتنمية والنظم الأجتماعية الريفية قد جرى أهمالها بسبب سيطرة نموذج الحديث من ناحية، وتحويل إلاهتمام بعيدا عن هذه المسائل والقضايا من ناحية اخرى ، وبسبب ذلك ظهر العديد من الدراسات التي اهتمت بتناول هذه القضية في العالم ككل وفي مجتمعات العالم الثالث بشكل خاص، وقد وجهت هذه الدراسات العديد من الأنتقادات إلى اتجاه التحديث وعدته قاصرا عن فهم الواقع الفعلي لطبيعة المجتمعات المختلفة والظروف التاريخية التي مرت بها ، وقد شكلت هذه الدراسات ما يسمى باتجاه التبعية او اتجاه التخلف والذي سنتعرض لأهم افكاره ومنطلقاته ومؤيديه ، كذلك سنعرض أهم إلأنتقادات التي وجهها هذه الاتجاه لاتجاه التحديث.
ثانيا: اتجاه التبعية او التخلف.
ظهرت الكتابات التي تمثل اتجاه التبعية في الستينيات من هذا القرن، ويستمد هذا الاتجاه افكاره من تحليلات النظام الاقتصادي الراسمالي التي وضعها ماركس وان كان اصحاب هذا الاتجاه يرفضون فرضية الامبريالية لدى الماركسبه القديمة او الكلاسيكية التي ترى ان التوسع العالمي للرأسمالية يمكن ان يكون مدمرا للنظام قبل الرأسمالي على الرغم من انه سيساعد في ايجاد مجتمع جديد اكثر انتاجية ، وفي نفس الوقت فانهم يرفضون اراء وافكار اتجاه التحديث التي تؤكد ضرورة انتشار خصائص المجتمعات الغربية وتبنيها من قبل المجتمعات النامية او إلاقل تقدما.
ويرى اغلب دعاة هذا الاتجاه ان التنمية يمكن ان تحدث فيما اذا اتيحت الفرصة المناسبة للبلدان النامية، ولكنها مادامت تابعة فان تخلفها وفقرها سيستمران ولا يمكن ان تنمو وتتطور إلا اذا تحررت سياسيا واقتصاديا وخرجت من دائرة التبعية ، ويرون ان التنمية تعني شيئا اكثر من مجرد النمو مهما كان حجمه نسبة الى إجمالي الناتج القومي، فهي تتضمن تحسينا حقيقيا في المستوى العام للحياة عن طريق التغذية الكافية وإلاسكان والرعاية الصحية والتعليم.... الخ فيما يتعلق بجميع السكان وتقليل التفاوت الهائل في توزيع الثروة والدخل والتوسع في خلق الفرص لا سيما فيما يتعلق بمعظم اقسام السكان المحرومة، ومن وجهة النظر هذه ليس من الصعب ان نواصل إلاهتمام بصياغة سياسية اشتراكية متميزة للتنمية يكون هدفها النهائي تأسيس مساواة في الظروف الاساسية على نطاق عالمي لتقضي على التفرقة بين الغني والفقير داخل المجتمعات وبينها.
ومن بين ابرز ممثلي هذا الاتجاه فوستر كارتر Foster Carter الذي قدم دراسة بعنوان "الاتجاه الماركسي المحدث في التنمية والتخلف". وفي هذه الدراسة فانه يناقش مفهومي التنمية والتخلف في ضوء ما يراه من واقع العالم التابع، واعتمادا على إلآراء المطروحة في ذلك الاتجاه ، الذي بدأ دراسته بتحليل نقدي لكل النظريات البرجوازية التي اسهمت في تضليل الفهم عن جوهر تلك القضية وحقيقتها.
و يلخص شارل بتلهايم شروط التقدم الاقتصادي وإلاجتماعي بما ياتي:-
1) إلاستقلال السياسي وانهاء الوضع إلاستعماري واقصاء الطبقات الأجتماعية والتشكيلات السياسية المرتبطة بإلامبريالية عن السلطة.
2) إلاستقلال الاقتصادي وهذا يعني نزع ملكية راس المال الكبير إلاجنبي وتاميم المزارع والمناجم والبنوك وسائر المشروعات المملوكة لرأس المال الكبير إلاجنبي، كذلك تعديل العلاقات النقدية والجمركية والمالية والتجارية التي تربط بلد تابع بدولة او مجموعة من الدول إلامبريالية ، وهذا لا يتنافى مع اقامة علاقات تجارية مع مختلف البلدان او قبول القروض منها ولكن يجب ان تكون هذه العلاقات قائمة على المساواة والتي يمكن ان تتم بعد طرد إلامبريالية من مواقعها التي تحتلها في اقتصادها وتنمية العلاقات التجارية لا سيما مع الدول إلاشتراكية.
3) التحول إلاجتماعي العميق الذي يفضي إلى اختفاء الطبقات الطفيلية او المرتبطة بإلاستعمار وهذا الشرط يعني نجاح الثورة الوطنية الديموقراطية ، اذ من دون تلك الثورة لا يمكن الوصول بالنضال من اجل إلاستقلال إلى غايته ، ومن دونها تصطدم التنمية بعقبات اجتماعية وحضارية ، فالثورة إلاشتراكية هي وحدها القادرة على التعجيل بالتنمية الاقتصادية والأجتماعية بشكل يجعل من الممكن خلال جيل واحد تصفية حلقات التخلف الجوهرية بخاصة مستوى المعيشة الذي تعاني منه حاليا الشعوب الفقيرة والمحرومة.
ويرى اندريه جوندر فرانك A. G. Frank :-
"ان جميع الاتجاهات التي تنطلق منها اتجاه التحديث ، لا سيما ما طرحه علماء إلاجتماع إلاميركان غير صحيحة تجريبيا في تناولها لواقع الأقطار المتخلفة والأقطار المتقدمة وللعالم ككل ، والاتجاه البديل بحسب رأيه يجب ان ياخذ بنظر إلاعتبار ماضي وحاضر مفهومي التقدم والتأخر او التخلف في البلدان المعنية، كما انه يعد اتجاه التحديث ناقصا وغير دقيق نظريا لأنه لم يأخذ بالحسبان العلاقات بين الأقطار المتقدمة والأقطار النامية ، كذلك فانه أهمل العلاقة بين مختلف اجزاء العالم ، واخيرا يرى فرانك بان المنطلقات الرئيسة لنظريات التحديث تدعو إلى الحفاظ على الوضع القائم المرتبط بإلاستعمار وخاضع للسيطرة إلاجنبية وتشجع إلى حد كبير روح المحافظة وإلابتعاد عن النظم السياسية والفئات المرتبطة بالخارج ، والنظرة البديلة هي النظرة الثورية التي تؤكد ضرورة قيام تغير جذري يساعد الأقطار النامية في تحطيم البناء القديم وقيام بناء جديد على انقاضه كما ان الأقطار الفقيرة او النامية يجب أن تعتمد بدرجة اكبر على مشاركة شعوبها في عملية التنمية والتطوير.
خلاصة القول ، يؤكد فرانك رجوع تخلف اقطار العالم الثالث وفقرها الدائم إلى حد كبير إلى تبعيتها السياسية والاقتصادية ، واذا ارادت هذه الأقطار ان تنهض وتتخلص من تاخرها فينبغي عليها القيام بالثورة التي تطيح بإلاقلية المسيطرة المرتبطة بالخارج والمتمتعة بإلامتياز على حساب الاكثرية الساحقة من السكان التي يجب أن يعمل النظام الجديد لمصلحتها.
ومن انصار هذا الاتجاه ايضا جالي Jalee الذي هاجم فكرة العالم الثالث نفسها، إذ يعدها من إلافكار الخبيثة لتقسيم الدول إلى عوالم متميزة ووضع فواصل بينها، اما روديس Rodes فيتقد بشدة ثنائية التقليدي – الحديث والتي اصبحت شائعة الاستخدام من دون فهم كامل لدى من يستخدمها، وان كانت واضحة المقصد عند من اخرجها واذاعها.
اما مفهوم التنمية في نظر اصحاب هذا الاتجاه فهو التحول التقدمي والمتتابع الذي يصيب مختلف انماط الواقع إلاجتماعي والاقتصادي للمجتمع ، ويرون التخلف على النقيض من ذلك فهو الركود الذي تتعرض له كل جوانب المجتمع بشكل يؤدي إلى تعويقه عن تحقيق أهدافه .
مما تقدم نستطيع القول أن للأقطار النامية - حسب هذا الاتجاه- على الرغم من وجودهما في عالم تسيطر عليه الاقطار الصناعية، القدرة على تحديد مسار تنميتها في إطار حدود معينة لا سيما إذا ما تبنت سياسة الاكتفاء الذاتي بوصفه أحد الخيارات المطروحة أمامها وذلك من خلال تحديد الواردات والاستثمارات فظلاً عن تقليل اعتمادها على المساعدات الاجنبية بقدر الإمكان، يساعدها في ذلك تشكيل التحالفات الاقليمية أو أي اتحادات أخرى بوصفها وسيلة تدعم بواسطتها الاقطار النامية مركزها من أجل السيطرة على استثمار رأس المال الأجنبي، واستغلال مصادرها وتحسين التجارة مع الاقطار الصناعية أو التأثير بفاعلية أكثر في سياسات وكالات التنمية الدولية.
اما فيما يخص الأنتقادات الموجهة لاتجاه التحديث فقد قاد حملة النقد تلك اصحاب اتجاه التبعية او التخلف الذين وجهوا عدة انتقادات للاتجاه إلاول أهمها:
1) الغموض وإلابهام اللذين يشوبان مصطلحي "تقليدي" و"حديث" فهما يستخدمان للاشارة إلى مجتمعات تتسم ببنى اجتماعية اقتصادية وسياسية شديدة إلاختلاف فمصطلح "تقليدي" مثلا يشمل مجتمعات شديدة التباين في هذه البنى من إلاقطاعية، القبلية، إلامبراطورية، والبيروقراطية لذلك لابد من تحليل تاريخي اكثر دقة لهذه إلاشكال.
2) يدعي انصار اتجاه التحديث ان المجتمعات كلما تطورت فان التقليدية فيها تنكمش بفعل القيم والمواقف الحديثة ولكن الكثير من الدراسات لا تؤيد ذلك إذ تؤكد الكثير منها إن مجيء الحداثة والتطور لا يعني بالضرورة التخلي عن انماط السلوك والقيم والمعتقدات التقليدية، فالدين إلاسلامي كما يشير غوسفيلد Gosfield قد تعزز بانتشار التكنولوجيا الحديثة كالمواصلات التي سهلت الحج اكثر مما كان عليه في الماضي ، كذلك يمكن إلاشارة إلى تجربة اليابان التنموية التي استطاعت ان تحدث المجتمع الياباني وان تصل به إلى مصاف الدول المتقدمة في نفس الوقت الذي استمر إلاحترام لبعض التقاليد الأجتماعية الموروثة لا سيما ما يتعلق منها بتقدير الطبقات المتنفذة ، فضلاً عما يشير اليه فرانك من ان معيار النسب " الحكم على الناس من خلال انحدارهم العائلي وعمرهم وجنسهم مثلا " يلعب دورا مهما في تحديد المكافئة في الصناعة اليابانية التي هي نموذج الحداثة لو كان هناك نموذج للحداثة.
3) على الرغم من نظريات هذا الاتجاه التي يفترض ان تكون عن طريقة تطور المجتمع إلا انها لا تقدم إلا توضيحا قليلا لهذه العملية ، على الرغم من اشارتها إلى الحاجة إلى المواقف التي تتطلع إلى المستقبل وإلى حوافز إلاقتصاد السليم بنفس الوقت ، فان هذه النظريات لم تقدم اية فكرة عن كيفية حدوث عملية التباين إلاجتماعي والتي حدث مثلها الكثير.
4) يشير اصحاب هذا الاتجاه إلى انه كلما تطور التصنيع والتحضر فان نظام القرابة الواسعة سيضعف لأن الناس يصبحون مهتمين بالدرجة إلاولى بعوائلهم النووية في حين يشير لونغ Long بان العديد من الدراسات استنتجت بان بعض انظمة العائلة الممتدة لا تستمر فحسب في إلاقتصاد الحديث بل انها في الغالب تؤدي دورا ايجابيا لتمكن إلافراد من استغلال راس المال والموارد إلاخرى الضرورية للمشاريع الرأسمالية الحديثة.
5) استفاد منظري هذا الاتجاه من اراء فيبر في تحليله لحافز إلأنجاز والذي يعتقد انه يمثل مكانا مركزيا في النمو الاقتصادي إلا ان إلأنجاز الشخصي لدى هذا الاتجاه قد شوه فرضية فيبر والذي ينظر إلى النشاط المستمد من إلاهتمام بالخلاص لدى البروتستانت بكونه عاملا مهما أسهم في ظهور الرأسمالية العقلانية ، في حين يتجاهل اصحاب هذا الاتجاه ومنهم ماك كليلأند بشدة إلأهمية التي يعزيها فيبر إلى الوازع الديني فيقلل من شانها إلى حد عدها رغبة سايكولوجية كامنة بالنجاح لا توجد في اوربا الغربية وحدها ، وانما ايضا في العديد من المجتمعات التي مرت بحالة النمو الاقتصادي مؤخرا ، ويبدو ان احدى نقاط الضعف الرئيسة في اتجاه التحديث تتجلى في لجوئها المستمر إلى التعميمات دونما دراسة للشواهد التاريخية او المستجدة.
6) وربما كان أقوى الأنتقادات الموجهة إلى هذا الاتجاه، تجاهلها تماما اثر إلاستعمار والامبريالية على بلدان العالم الثالث ، وهو ما يعد فشلاً في الاعتراف بان النمو الاقتصادي انما يتعلق كثيرا بالقوة للسيطرة على الموارد بقدر تعلقه بالطموح للوصول إلى ذلك.
ثالثا:-اتجاه التنمية المستقلة (الذاتية)
استطاعت بعض المجتمعات ان تحقق التنمية الشاملة والتطور بإلاعتماد على النفس من خلال توظيف الموارد المحلية بشكل عقلاني وعلمي والاستفادة باقصى ما يمكن مما متحقق لديها من الموارد الطبيعية والبشرية ، وبذلك استطاعت قطع شوط التطور بشكل مستقل عن الخارج، ولنا في المجتمعين الياباني والسوفياتي (سابقا) مثالان لتحقيق التنمية الشاملة بشكل مستقل اعتمادا على الذات ،على الرغم من اختلاف الفلسفة الأجتماعية التي استند أليها كل منهما في تطوره ، فقد نمى الاول نمواً رأسمالياً ، في حين اتبع المجتمع الثاني الفلسفة إلاشتراكية خلال نموه.
وفي هذا الاتجاه فان الافكار تختلف بالمقارنة مع الاتجاهين السابقين في نواح عديدة ، فهم يرون مثلا ان مستقبل التصنيع والتطور الحضاري والتنمية في العالم الثالث يمكن تحقيقه بغض النظر عن إلايديولوجية التي تحكم المجتمع رأسمالية كانت أم اشتراكية ، والمهم في الامر ان تتم هذه التنمية بإلاعتماد على الموارد المحلية الذاتية وبشكل مستقل عن الدول الغنية ، لذلك فان "تيبورمند Tibormende " يرى انه اذا ما ارادت الدول النامية الخروج من دائرة التبعية للدول الغنية واستعادة الهوية المفقودة واحترام الذات ، فانها ينبغي ان تتبع الخطوات الآتية:
1) تغيير التوجيه السياسي للتنمية الاقتصادية ، فبدلا من تطلعها للخارج فانها يجب ان تتجه إلى الداخل وتهتم بالمشكلات التي توجد نتيجة الاتصال بالعالم الصناعي.
2) التخلص من علاقات المساعدة المؤدية إلى الفساد ، وان تنتهي كل الظواهر السلبية كالتبعية وإلأندماج في السوق العالمي وإلاعتماد على رأس المال إلاجنبي وكل التفكير الاقتصادي الذي يؤكد ثبات العلاقات بين الشمال والجنوب.
3) على كل قطر ان يكتشف طريقه إلى التنمية ، اذ ينبغي ان يكون هناك تجريب لاستخدام الطرائق المحلية وإلاعتماد ايضا على المصادر المحلية.
4) ان تمهد التغيرات البنائية الاساس للمشاركة الشعبية في اعمال البناء ، وجهود إلادخار الاكثر والاستثمار الرشيد في الأولويات الضرورية.
5) ان لا يكون هناك تردد في دفع ثمن هذا إلأنعزال.
يعد (بول باران) رائدا في الدعوة إلى تحقيق التنمية بمفهومها المستقل من خلال تحليل التطور الحاصل في المجتمع الهندي في كتابه "إلاقتصاد السياسي للتنمية" اذ ربطها بالسيطرة على الفائض الاقتصادي واستغلاله افضل استغلال ممكن، ولكن في البداية يجب قطع قنوات استنزافه الخارجية وصولا إلى ربطه بمصلحة الطبقات الأجتماعية المنخفضة الدخل والتي تمثل الغالبية الكبرى من افراد المجتمع ، وأكد وجوب القضاء على إلاستهلاك الترفي المقلد للاستهلاك في الدول الرأسمالية المتقدمة، والذي يعد من ابرز مظاهر التبذير للفائض الاقتصادي، ومن جهة اخرى ركز على العوامل الخارجية في احداث التبعية والتخلف، وحدد معالجاته بقطع اوتار هذه العوامل، واقترح وجوب اتخاذ الطريق والأنموذج اللارأسمالي لتحقيق الاستقلال والتنمية.
وحاول بعض الاقتصاديين العرب تطوير مفهوم التنمية المستقلة ولكنهم انقسموا على انفسهم ، فبعضهم يؤيد امكانية التطور الراسمالي في احداثها وبعضهم الآخر يرفض ذلك ويميل إلى التطور اللارأسمالي ، على الرغم من عدم تبلور مفهوم للتنمية المستقلة في كتابات هؤلاء الاقتصاديين ، إلا ان غالبيتهم يتفق على انها تتمثل في اعتماد المجتمع على نفسه وتطوير قدرات افراده الخاصة مع اعطاء إلأولوية لتعبئة الموارد المحلية وتصنيع المعدات الأنتاجية وبناء قاعدة علمية وتقنية محلية بكل مقتضياتها من نشر المعارف وتكوين المهارات، وتأهيل الكوادر البشرية اللازمة لذلك، ويفترض هنا التغير إلارادي المقصود الذي يحرر البلد من التبعية والاستغلال وما ينشا عنهما من آثار تتمثل بالفقر والجهل والمرض والتخلف ، وعليه فان هذا المفهوم يتعدى الجانب الاقتصادي إلى الجوانب الأجتماعية والسياسية ايضا مع التركيز على استقلالية القرار الخاص باستخدام الموارد المحلية وصيغ التعامل مع العالم الخارجي وأهمية المشاركة الديموقراطية في اتخاذ القرارات .
ومن الذين كتبوا في هذا المجال( بارفنكتون مور Barvington Moor ) في منتصف الستينات إذ توصف كتاباته بأنها تحديثية في الشكل وماركسية في المحتوى وتتبع هذا الكاتب الطرق المختلفة للعالم في ستة أقطار هي: بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، الصين، والهند ولديه إشارات بشأن روسيا وألمانيا، وعلى ضوء هذه الحالات الست يضع مور ثلاثة طرق للعالم المعاصر هي :-
الطريق الأول( بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا) ويطلق عليه الثورة البورجوازية الفردية إلى الديموقراطية الرأسمالية).
الطريق الثاني(ألمانيا وأيطاليا) ويطلق عليه الثورة الرأسمالية والرجعية أو الثورة التي تم إجهاضها ونتاجها الفاشية في المانيا وإيطاليا.
الطريق الثالث (روسيا) ويسميها ثورة الفلاحين ونتاجها الشيوعية، ولكن الإعتراض على هذه التسمية هو أن الاتحاد السوفيتي(سابقا) في ثورته التنموية لم يعتمد على الفلاحين بقدر اعتماده على العمال كما يرى أغلب الذين كتبوا في هذا المجال.
أما الهند فيقول بأنها عمل غير منجز، أو لم ينتهي بعد وعليه لا يمكن أن يضعها في أي من الطرق الثلاث آنفة الذكر، وهو يرى أن نموذجه أو افتراضاته تنطبق على الحالات التي درسها فقط.
وكما سبق القول أن تحقيق التنمية في العالم الثالث لا يمكن أن يتم بإتخاذ التجربة الاوربية إنموذجا على العالم الثالث تقليده، فلا يعني وجود بنية رأسمالية للاقتصاد العالمي أن لها أثر متشابه في المجتمعات كافة التي توجد فيها، كذلك فإن بعض أصحاب هذا الاتجاه لا يدعو إلى الثورة الشاملة لإزالة الرأسمالية ويقدمون بدلاً عن ذلك حلاً وسطاً يسمح بدرجة معينة من السيطرة على توجيه الانتاج الرأسمالي، فظلاً عن دعوتهم إلى تقييد النمو الصناعي، ويرون أن العديد من مشاكل التنمية في العالم الثالث يرجع إلى أدخال التكنولوجيا غير الملائمة، ولذلك فإن بعضهم يحث على تنمية المشاريع الصناعية الصغيرة الحجم والتي تمتاز بأربع سمات هي :-
1- العمل يجب أن يكون في المناطق التي يعيش فيها الناس.
2- يجب أن لا يتطلب العمل استثمار رأس مال كبير ولا واردات باهظة التكاليف لتشغيله.
3- طرق الانتاج يجب أن تكون بسيطة جداً بحيث لا تدعو الحاجة إلى مهارات عالية.
4- يجب أن يحاول الانتاج الاعتماد على الموارد المحلية وأن يكون للاستعمال المحلي.
هذه هي أهم سمات التكنولوجية البديلة كما حددها أهم دعاة هذا الاتجاه وهو( أي.إف.شوماتشر E.F.Schumacher ) في كتابه( الصغيرة أجمل-Small is Beautiful ) وقد استطاع شوماتشر من تطوير أفكاره عندما عمل على تطبيق هذه الأفكار في الهند عام 1961م، وكان يركز في ذلك على الهدف الاساس من استخدام التكنولوجيا الوسيطة في النمو الاقتصادي ولكن بشكل يرتبط بحاجات الإنسان الفعلية ولذلك كان يحث على تنمية المشاريع الصناعية الصغيرة الحجم.
وعلى هذا الأساس ينتقد هذا الاتجاه الاتجاهين السابقين الذين افترضا أن التنمية تساوي التصنيع ولم يهتما بمناقشة البدائل المبنية على الانتاج الصغير والمعتمدة على الذات والمرغوب بيئياً، والذي يمكن أن يسد الحاجات الأساسية لدى الناس، كذلك يركز أصحاب اتجاه التبعية على التنمية المادية أو الآليات الاقتصادية في تحقيق التنمية فنظرياتهم كانت اقتصادية أكثر مما ينبغي، يضاف إلى ذلك أن اتجاه التبعية الذي يدعو إلى التغيير الجذري الثوري باعتباره طريقاً وحيداً لأزالة الفقر والتخلف في العالم لم يتفق دعاته على مصدر المعارضة للرأسمالية، هل سيكون من بين الفلاحين أم الطبقات العمالية الجديدة التي تكونت في القطاعات الصناعية الجديدة.
هذه هي أهم الانتقادات التي وجهها اتجاه التنمية البديلة إلى الاتجاهين السابقين والذي يبدو أنه قد تبلور بوصفه رد فعل لأفكار اتجاه التحديث واتجاه التبعية والتي تعثرت كثيراً في التطبيق ولم تستطع أن تحقق التنمية المنشودة في الكثير من أقطار العالم الثالث، لذلك فإن شوماتشر مثلاً يأخذ مكاناً وسطاص بين الاتجاهين السابقين فهو ينتقد الرأسمالية ولكنه في نفس الوقت لا يدعو إلى الثورة الشاملة لإزالتها، ويقترح أن الشركات الصناعية يجب أن تسمع بإمتلاك الشعب (50%) من رأسمالها عن طريق ما أسماه "المجالس المحلية"، وهي مجموعات تعين محلياً وتتكون من أعضاء نقابات العمال وأرباب العمل وأفراج المجتمع الآخرين والذين سيستخدمون عائدات الأسهم ليستثمروها في الحاجات الاجتماعية الحيوية للمجتمع، وفي هذا المجال لا يمكن الاعتماد على رأس المال الخاص للقيام به، مقابل ذلك يرى شوماتشر أن الشركات لن تدفع ضرائب للدولة مستبعداً أية شكوى من أي عبئ على القطاع الخاص، لأن الأخير سيحصل على فوائد مادية كبيرة من خلال ما يحققه القطاع العام من بنى تحتية بكلفة قليلة نسبياً مثل الطرق والمواصلات وخدمات الطاقة والكادر المتعلم......وغير ذلك.
وقد تستمر الادارة الخاصة للمشروع ولكنها تسمح لأعضاء من المجلس بتفتيش السجلات ومراقبة اجتماع الهيئة، ويرى أن هذه السياسة قابلة للتطبيق في البلدان المتقدمة فضلاً عن بلدان العالم الثالث، ولقد جرت عدة محاولات لتطبيق آراء شوماتشر تلك وقدم (ماك روبي McRobie) كتابه "الصغيرة ممكنة" والذي تضمن دراسة عمل(مجموعة تنمية التكنولوجيا الوسيطة ـ ITDG) وملخصاً لنشاطاتها، ويقدم ( مركز الأنظمة الصناعية والتكنولوجية البديلة AITS)في بريطانيا شاهداً على تنمية التكنولوجيا التي تجمع بين مهارات ومعرفة العمال والمؤسسات الأكاديمية، فقد أسس هذا المركز وعمال من شركة لوكاس الجوية المهتمة بالتكنولوجيا العسكرية بشكل رئيس عام 1978م، وطور هؤلاء العمال خطة مفصلة للشركة تقوم على إنتاج العديد من السلع المفيدة اجتماعياً والمربحة تجارياً في الوقت نفسه، وكان من المؤمل إنتاج اكثر من (150) مادة من المنتجات كالوحدات الشمسية وعدد الغطس في البحار وطواحين توليد الطاقة.
وفي العالم الثالث نفذت الكثير من أشكال التكنولوجيا البديلة وكما أشار ( هاريسون Harrison) فإنه يمكن عمل الكثير في هذا المجال مثل تحسين التقنية التقليدية القائمة وتعديل الماكنة الحديثة أو اختراع ماكنة جديدة أو إيجاد حكمة محلية بارعة في منطقة صغيرة ونشرها في الخارج.
مع ذلك فإن إدخال أشكال جديدة من التكنولوجيا يجب أن يتفق مع الظروف الاجتماعية- الاقتصادية السائدة، إذ تتدخل العوامل الاجتماعية في تنفيذ ذلك لا سيما إذا كان تنفيذ أسلوب التكنولوجيا البديلة يتعارض مع مصالح الفئات أو الطبقات المتنفذة، وعلى العموم يمكن القول أن السياسات المتبعة في هذا الاتجاه تختلف عن الاتجاهين السابقين والتي يمكن إيجازها بما يأتي :-
1) أعادة ترتيب أسبقيات الانتاج لكي تضمن طبيعة وانتاج المؤسسات الهادفة إلى تحقيق مصالح المجتمع ككل والمحافظة على البيئة الطبيعية.
2) تخفيض مستوى المعيشة في البلدان المرفهة لا سيما الولايات المتحدة الامريكية من أجل التوصل إلى مصالح المجتمع ككل والمحافظة على البيئة الطبيعية.
3) تحقيق تباطؤ كبير في النمو الاقتصادي الدولي وإلا سيحدث دمار جماعي طويل المدى.
4) تحقيق الاستقلال الاقتصادي والتخلص من التبعية للنظام الرأسمالي والأسواق العالمية.
5) ضرورة المشاركة الشعبية والاستنفار الفعلي للطاقات البشرية كافة في مختلف القطاعات .
6) تحقيق توجه تنموي ذاتي بالإعتماد على الموارد المحلية ورفض أشكال المساعدة الدولية كافة سواء ما يأتي منها من الدول الغربية أو المنظمات الدولية المرتبطة بها .
7) العمل على تحقيق خطوات فاعلة بإتجاه التنمية المستقلة بغض النظر عن شكل أو توجه هذه التنمية سواء كانت رأسمالية أو إشتراكية.
ومن دعاة هذا الإتجاه البارزين، مجموعات الضغط البيئية والأحزاب السياسية التابعة للحركة الخضراء واؤلئك الذين أسسوا مراكز التكنولوجيا البديلة في كل من الشمال والجنوب، وهناك بعض منظمات المساعدة مثل منظمة الخدمات الطوعية لما وراء البحار، وهي منظمة ترسل المتطوعين للعمل في الجنوب للتشغيل والتدريب في مهن وحرف محلية في العالم الثالث.
وكما أنتقد الأتجاهين السابقين في بعض سياساتهما وأفكارهما، فقد انتقد ايضا اتجاه التنمية البديلة في عدة وجوه منها ان هذا الاتجاه لا يقدم التحليلات الكافية عن كيفية تنفيذ هذه السياسات لأن ذلك سيتطلب بعض التغييرات الأجتماعية – الاقتصادية والسياسية الكبيرة ، اذ على سبيل المثال كيف ستحصل المجالس الأجتماعية على السلطة من الدول الرأسمالية المتقدمة ، او كيف ستقوم هذه الدول باجراء اصلاح كبير كحقوق الملكية للشركات الكبيرة، كذلك فان افكار هذا الاتجاه غير قابلة للتطبيق كالدعوة إلى تخفيض مستوى المعيشة في البلدان المرفهة او الدعوة إلى تحقيق تباطؤ كبير في النمو الاقتصادي العالمي.
وبعد دراسة الاتجاهات الثلاث التي حاولت تقديم الفرضيات والنظريات الكفيلة بتحقيق التنمية الاقتصادية والأجتماعية في دول العالم الثالث ، نستطيع القول ان جميع هذه الاتجاهات استطاعت ان تعطي رؤية عن الموضوع ولكنها رؤية ناقصة وغير متكاملة ولا تستطيع ان تقدم الحلول الناجحة لتحقيق الهدف إلاسمى وهو التنمية الشاملة، بل ان بعض هذه الاتجاهات كانت حلولها المقترحة لا تزيد عن كونها علاج لما يترتب على المشكلة من نتائج ، ولكن التحليل الموضوعي والدقيق هو ذلك التحليل الذي ينفذ إلى الاسباب والعوامل الحقيقية للمشكلة في محاولة منه لمعالجة الظروف المؤدية اليها وليس ما ينتج عنها من ظواهر اجتماعية سلبية ، وبالمعنى الطبي – يجب القضاء على المرض نفسه وليس اعراض المرض.
ان امكانية تنمية وتطوير اقطار العالم الثالث يعني بالضرورة معرفة تاريخ تلك الأقطار وطبيعة الحضارة او الثقافة والبناء إلاجتماعي في الماضي والحاضر، والعلاقات بين تلك الأقطار و بقية اجزاء العالم ومن ضمنها العالم المتقدم فضلاً عن وجود بعض الخصائص التي لا بد من تحققها في الأقطار النامية اذا ارادت النمو والتقدم ، دون ان يعني ذلك تبنى سمات وقيم الأقطار المتقدمة او اقتفاء خطواتها في طريق التنمية ولكن مع ذلك توجد ضرورة في تبني وتشجيع بعض القيم والخصائص التي يمكن ان تسهم في تفعيل العملية التنموية، وفي الوقت نفسه هناك أهمية كبيرة للاستقلال السياسي والاقتصادي والتخلص من التبعية لنجاح التنمية في اقطار العالم الثالث ، كما ان هناك مسألة غاية في إلأهمية وهي إلاعتماد على النفس لتحقيق التنمية اذ ان الكثير من البلدان النامية تمتلك كثيرا من الموارد المحلية سواء أكانت هذه الموارد طبيعية او بشرية ، ويمكن استثمار هذه الموارد بشكل عقلاني دونما تبذير او اهمال مما يساعد البلد المعني من تحقيق التنمية المستقلة لا سيما اذا ما استطاع ان ينظم إلى التكتلات او التجمعات الاقتصادية والسياسية والتي يمكن ان تنشا بين بلدان العالم الثالث ، كما ان هناك بعض البدائل المتاحة امام الدول النامية منها البدائل القائمة على الأنتاج الصغير الذي يعتمد على الذات والذي يمكن ان يلقى التشجيع محليا وتتحقق له مستلزمات النجاح.