في كل مرحلة من مراحل الحضارة الإنسانية، وفي كل فترة من حياة الإنسان ; يواجه الناس مصالح كثيرة يحتاج تحقيقها إلى عمل وسعي بدرجة واُخرى، ومهما اختلفت نوعية هذه المصالح وطريقة تحقيقها من عصر إلى عصر ومن فترة إلى اُخرى فهي دائماً بالإمكان تقسيمها إلى نوعين من المصالح:
أحدهما: مصالح تعود مكاسبها وإيجابياتها المادية إلى نفس الفرد الذي يتوقف تحقيق تلك المصلحة على عمله وسعيه.
والآخر: مصالح تعود مكاسبها إلى غير العامل المباشر، أو إلى الجماعة الذين ينتسب إليهم هذا العامل، ويدخل في نطاق النوع الثاني كل ألوان العمل التي تنشد هدفاً أكبر من وجود العامل نفسه، فان كل هدف كبير لا يمكن ـ عادة ـ أن يتحقق إلاّ عن طريق تظافر جهود وأعمال على مدى طويل.
والنوع الأول من المصالح يضمن الدافع الذاتي، لدى الفرد في الغالب، توفيره والعمل في سبيله، فما دام العامل هو الذي يقطف ثمار المصلحة وينعم بها مباشرة، فمن الطبيعي أن يتواجد لديه القصد إليها، والدافع للعمل من أجلها.
وأما النوع الثاني من المصالح فلا يكفي الدافع لضمان تلك المصالح، لأن المصالح هنا لا تخص الفرد العامل، وكثيراً ما تكون نسبة ما يصيبه من جهد وعناء أكبر كثيراً من نسبة ما يصيبه من تلك المصلحة الكبيرة. ومن هنا كان الإنسان بحاجة إلى تربية على الموضوعية في القصد وتجاوز للذات في الدوافع، أي على أن يعمل من أجل غيره، من أجل الجماعة. وبتعبير آخر: من أجل هدف أكبر من وجوده ومصالحه المادية الخاصة. وهذه تربية ضرورية لإنسان عصر الذرّة والكهرباء، كما هي ضرورية للإنسان الذي كان يحارب بالسيف ويسافر على البعير على السواء، لأنهما معاً يواجهان هموم البناء والأهداف الكبيرة، والمواقف التي تتطلب تناسي الذات والعمل من أجل الآخرين، وبذر البذور التي قد لا يشهد الباذر ثمارها. فلابد إذن من تربية كل فرد على أن يؤدي قسطاً من جهده وعمله، لا من أجل ذاته ومصالحها المادية الخاصة، ليكون قادراً على العطاء وعلى الايثار وعلى القصد الموضوعي النزيه.
والعبادات تقوم بدور كبير في هذه التربية الضرورية، لأنها ـ كما مر بنا ـ أعمال يقوم بها الإنسان من أجل الله سبحانه وتعالى، ولا تصح إذا أداها العابد من أجل مصلحة من مصالحه الخاصة، ولا تسوغ إذا استهدف من ورائها مجداً شخصياً، وثناءً اجتماعياً، وتكريساً لذاته في محيطه وبيئته، بل تصبح عملاً محرماً، يعاقب عليه هذا العابد، كل ذلك من أجل أن يجرب الإنسان من خلال العبادة القصد الموضوعي، بكل ما في القصد الموضوعي من نزاهة وإخلاص وإحساس بالمسؤولية، فيأتي العابد بعبادته من أجل الله سبحانه وفي سبيله بإخلاص وصدق.
وسبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان ، لأن كل عمل من أجل الله انما هو من أجل عباد الله، لأن الله هو الغني عن عباده. ولما كان الإله الحق المطلق فوق أيّ حدّ وتخصيص، لا قرابة له لفئة، ولا تحيز له إلى جهة، كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الانسانية جمعاء. فالعمل في سبيل الله ومن أجل الله هو العمل من أجل الناس ولخير الناس جميعاً، وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك.
وكلما جاء سبيل الله في الشريعة أمكن أن يعني ذلك تماماً سبيل الناس أجمعين، وقد جعل الإسلام سبيل الله أحد مصارف الزكاة، وأراد به الإنفاق لخير الإنسانية ومصلحتها، وحث على القتال في سبيل المستضعفين من بني الإنسان وسماه قتالاً في سبيل الله (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) «سورة النساء آية ـ 65».
وإذا عرفنا إلى جانب ذلك أن العبادة تتطلب جهوداً مختلفة من الإنسان ، فأحياناً تفرض عليه جهداً جسدياً فحسب كما في الصلاة، وأحيانا جهداً نفسياً كما في الصيام، وثالثة جهداً مالياً كما في الزكاة، ورابعة جهداً غالباً على مستوى التضحية بالنفس أو المخاطرة بها كما في الجهاد.
إذا عرفنا ذلك إستطعنا أن نستنتج عمق وسعة التدريب الروحي والنفسي، الذي يمارسه الإنسان من خلال العبادات المتنوعة.. على القصد الموضوعي وعلى البذل والعطاء، وعلى العمل من أجل هدف أكبر في كل الحقول المختلفة للجهد البشري.
وعلى هذا الأساس تجد الفرق الشاسع بين إنسان نشأ على بذل الجهد من أجل الله، وتربى على أن يعمل بدون انتظار التعويض على ساحة العمل وبين إنسان نشأ على أن يقيس العمل دائماً بمدى ما يحققه من مصلحة، ويقيمه على أساس ما يعود به عليه من منفعة، ولا يفهم من هذا القياس والتقييم إلاّ لغة الأرقام وأسعار السوق، فان شخصاً من هذا القبيل لن يكون في الأغلب إلاّ تاجراً في ممارساته الاجتماعية مهما كان ميدانها ونوعها.
واهتماماً من الإسلام بالتربية على القصد الموضوعي، ربط دائماً بين قيمة العمل ودوافعه، وفصلها عن نتائجه، فليست قيمة العمل في الإسلام بما يحققه من نتائج ومكاسب وخير للعمل أو للناس أجمعين، بل بما ينشأ عنه من دوافع ومدى نظافتها وموضوعيتها وتجاوزها للذات، فمن يتوصل إلى اكتشاف دواء مرض خطير وينقذ بذلك الملايين من المرضى، لا تقدّر قيمة هذا العمل عند الله سبحانه وتعالى بحجم نتائجه وعدد من أنقذهم من الموت، بل بالأحاسيس والمشاعر والرغبات التي شكلت لدى ذلك المكتشف الدافع إلى بذل الجهد من أجل ذلك الاكتشاف، فان كان لم يعمل ولم يبذل جهده إلاّ من أجل أن يحصل على امتياز يتيح له أن يبيعه ويربح الملايين، فعمله هذا يساوي في التقييم الرباني أي عمل تجاري بحت. لأن المنطق الذاتي للدوافع الشخصية كما قد يدفعه إلى اكتشاف دواء مرض خطير يدفعه أيضاً بنفس الدرجة إلى اكتشاف وسائل الدمار إذا وجد سوقاً تشتري منه هذه الوسائل. وانما يعتبر العمل فاضلاً ونبيلاً إذا تجاوزت دوافعه الذات وكان في سبيل الله وفي سبيل عباد الله، وبقدر ما يتجاوز الذات ويدخل سبيل الله وعباده في تكوينه; يسمو العمل وترتفع قيمته.

المصدر: الموسوعة الإسلامية
ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 65/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 698 مشاهدة
نشرت فى 27 يوليو 2010 بواسطة ahmedkordy

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

29,876,276

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters