تتطلب عملية الاصلاح الاداري قبل كل شيء وجود جهاز تنظيمي خاص يتولى هذا النشاط الهام بهدف تحديد وحصرالمسؤوليات بالتنسيق مع بقية اجهزة الادارة العامة المعنية ببرنامج الاصلاح بحيث يكون هذا الجهاز مسؤولا عن تأمين الاطر البشرية المؤهلة والمؤمنة بالاصلاح من جهة، وتهيئة المناخ الملائم على ارض الواقع لتقبل وتنفيذ برنامج الاصلاح عبر صيغ تعاونية في كافة مفاصل النظام الاداري العام من جهة ثانية .
ويعتبر اكتشاف الحاجة الى عملية الاصلاح الاداري والايمان بضرورتها أولى الخطوات الاساسية لعملية الاصلاح الاداري ، لقد بدأت التنظيمات والقيادات السياسية والمهنية والنقابية والقوى الاجتماعية ومراكز البحوث والدراسات والجامعات المتخصصة والمؤسسات الاعلامية القائمة في المجتمع تستشعر الحاجة لاعداد وتنفيذ برنامج الاصلاح الاداري من خلال التعرف على مستويات الاداء في اجهزة الادارة العامة ومعدلات النمو الاقتصادي ومتوسط انتاجية الفرد العامل وتدني مستوى جودة الخدمات المقدمة لافراد المجتمع وغير ذلك من المؤشرات .
وللقيادات السياسية دور فاعل في عملية اكتشاف الحاجة للاصلاح الاداري وهي التي تتبنى الاصلاح وتدعمه وتوجه بتنفيذه وآلية الشعور بالحاجة للاصلاح الاداري كعملية سياسية حسب رأي العديد من الخبراء يمكن ان تتم كمايلي :
• يجب ان يظهر وينمو الاحساس بالحاجة للاصلاح في اطار النظام السياسي الواعي والمتطور بشكل مبكر.
• ينتقل هذا الاحساس عبر الاقنية السياسية القاعدية الى القيادة السياسية العليا للدولة التي تدرس وتتبنى فكرة الاصلاح الاداري .
• تنتقل مفاهيم واهداف القيادة السياسية بالنسبة للاصلاح الاداري الى المؤسسات والمعاهد والجامعات والمراكز المعنية بالتطوير الاداري والتي تحدد الاتجاهات والصيغ الرئيسية لعملية الاصلاح بالتعاون مع الادارات المتخصة.
ويجب على القيادة السياسية أن تتبنى فكرة الاصلاح الاداري كعملية قيادية قبل ان تنقلها الى عناصر التنفيذ حتى يمكن تحقيقها بمفهومها الصحيح والا اصبح الاصلاح الاداري على شكل مجموعة من الاجراءات العقيمة والتعديلات البسيطة التي لا تلامس جوهر المشكلات الادارية.
الخطوة التالية تكون بوضع الاستراتيجية الملائمة للاصلاح الاداري ،وهذا يعني تحديد الاهداف والغايات المطلوب بلوغها ووسائل وطرق تنفيذها بأعلى كفاءة ممكنة.
ان تحديد اهداف وغايات الاصلاح قد تكون صعبة للغاية نظرا لوجود اطراف متعددة في المجتمع تتمثل بالقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة والخاصة ذات اهداف قد تكون متباينة، لهذا يمكن إلقاء هذه المهمة من قبل القيادات السياسية على عاتق المراكز والمعاهد والجامعات المتخصصة في الاصلاح والتنمية الادارية والتي يفترض ان تقوم بعملية التوفيق بين وجهات نظر الدوائر السياسية والفنية المعنية بالاصلاح الى جانب التوفيق بين رؤية خبراء الاصلاح من جهة ورؤية المواطن من جهة اخرى لهذا فإن خبراء الاصلاح الاداري يجب ان يتصفوا بالمرونة في تقبل الافكار وغربلتها واعتماد المناسب منها،على ان يتم تصميم استراتيجية الاصلاح الاداري التي يجب ان تهدف الى :
• ¬ إحداث تغييرات جوهرية في مفهوم الخدمة المدنية وتحديد دورها ومهام مؤسساتها وعلاقاتها مع المؤسسات الاخرى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في اطار النظام السياسي.
• ¬ تحقيق المزيد من المساءلة على عمليات الجهاز الاداري وتقوية نظام الاتصالات وتبادل ونشر المعلومات بشفافية.
• ¬ تحقيق المزيد من اللامركزية بالنسبة للمسؤوليات والسلطات الادارية.
• الغاء الاسراف المالي والمبالغة في تقدير النفقات من جانب الجهاز الاداري للدولة والتركيز على اقتصاديات التشغيل .
• ¬ التركيز على انتاجية العنصر البشري في المؤسسات الانتاجية
الخطوة الثالثة هي ¬ تحديد الجهاز المسؤول عن الاصلاح الاداري وتعتبر هذه الخطوة من اهم الخطوات، حيث ان الاجهزة والقيادات العليا المسؤولة عن برامج الاصلاح الاداري يجب ان تسخر كافة امكاناتها من اجل تحويل خطط الاصلاح الى واقع حي وملموس من خلال اتخاذ سلسلة من القرارات الهامة ذات الصلة بهذا الشأن ، اضافة الى الاعتراف باستمرارية الاصلاح الاداري ولو كان خلال فترات زمنية متعاقبة وعلى ان تسعى الاجهزة التنظيمية لتقوية مركز جهاز الاصلاح الاداري وتدعيم الثقة به وتعزيز التنسيق بين عناصر الاستشارات والوحدات الادارية التنفيذية، إن هذه الاجراءات ستقود الى تهيئة المناخ الملائم للتعاون فيما بين كافة عناصر برنامج الاصلاح وهذا بدوره سيلغي المقاومة التي قد تظهر من بعض العناصر .
الخطوة الرابعة هي تعيين وسائل تنفيذ عملية الاصلاح الاداري التي يقودها الاداريون المتخصصون ويجب ان تعتمد على عدة وسائل منها :
• ¬ الاعتماد بشكل رئيسي على التنظيمات السياسية واجهزتها المختلفة وخاصة الاعلامية منها ، حيث تلجأ السلطات السياسية عبر قرارات مدروسة الى احداث صدمة اصلاحية ادارية عن طريق تطهير وتخليص الاجهزة الادارية من بعض الشخصيات العامة وعزلها عن مواقعها العليا لأنها تعارض عملية الاصلاح او لكونها غير قادرة على اعداد برنامجه وتنفيذه، كما ان السلطات السياسية تقوم بتكوين اجهزة خاصة للمراقبة والتقصي والتفتيش تساعدها في تقديم المقترحات والتوصيات المناسبة اضافة الى تعزيز الجهاز الاداري بقيادات جديدة مؤمنة وجاهزة لتنفيذ برامج الاصلاح الاداري .
• تمكين اجهزة الادارة العامة من ممارسة صلاحياتها ومسؤولياتها بعيدا عن المركزية والبيروقراطية المعرقلة لحركة التطور الفني والتقني والتي لاتستجيب لمعطيات البيئة المحيطة، اضافة الى اجراء تعديلات دورية في المواقع القيادية والاعتماد على الاجهزة الاستشارية ودعمها في صنع القرار.
• ¬ الاعتماد على السلطة التشريعية في اعادة النظر بكل او ببعض التشريعات والقوانين التي تحكم حركة النشاط الاداري.
• تغيير الاتجاهات السلوكية للعاملين في الجهاز الاداري استنادا الى دعامات اخلاقية وتدريب الافراد على الاحساس العالي بالمسؤولية العامة وعلى استخدام السلطة خلال فترة وجودهم في الحياة العملية.
يعتبرتوقيت التنفيذ في غاية الاهمية لنجاح برامج الاصلاح الاداري ، ويحتاج الامر عادة الى تمهيد سياسي على نطاق واسع لتهيئة الرأي العام والجهاز الاداري لعملية الاصلاح كذلك لابد من تهيئة الجهاز الذي سيتولى القيام بتنفيذ عملية الاصلاح من حيث الخبرات والوسائل والادوات المساعدة لبدء العمل بكفاءة مع توطيد العلاقات بالوحدات التنفيذية في الجهاز الاداري حتى يتحقق التعاون .
الخطوة الخامسة في عملية الاصلاح الإداري هي ¬ تقويم هذا الاصلاح، أي قياس النتائج المتحققة ومقارنتها مع المؤشرات المخططة والمعتمدة في البرنامج الاصلاحي من حيث الكفاءة في تنفيذ البرنامج من ناحية الزمن والتكلفة والجودة ومن حيث المنعكسات والاثار الايجابية التي يتركها برنامج الاصلاح على النظام السياسي اي تحقيق الرضى العام للقطاع الاعظم من المواطنين المتعاملين مع اجهزة الادارة العامة .
بعد تقديم هذا العرض النظري السريع عن استراتيجية وعملية الاصلاح الاداري التي قدمها الاكاديميون والتي تنسجم الى حد كبير مع تجارب العديد من الدول لابد من توجيه سؤال محدد: اين نحن في السلطة الوطنية الفلسطينية على خارطة الاصلاح الاداري؟
وللإجابة على هذا التساؤل وتأكيدا لكل ما تقدم من مفاهيم نظرية وتطبيقية في مسألة التطوير والاصلاح الاداري فإنه يمكننا اعادة التأكيد على جملة من الحقائق بالنسبة لواقع الاصلاح لدينا والتي نرى بأن الاهتمام بها ومراعاتها قد يكون مفيدا في مسار الاصلاح الاداري وهي :
• ان تتم عملية التنمية و الاصلاح الاداري عبر إحداث جهاز تنظيمي يعنى بدراسة وتشخيص المسائل الادارية وصياغة مشروع التطوير والاصلاح الشامل والمستمر وتهيئة مقومات تنفيذه وتصحيح مساراته في حال حدوث بعض الانحرافات او التغيرات المحيطية في البيئتين الداخلية والخارجية .
• ¬ التركيز بشكل خاص على عوامل التنمية الادارية من كفاءات وفعاليات اقتصادية وادارية وفنية وقانونية تؤمن قبل كل شيء بضرورة الاصلاح على ان تكون مسلحة بالخبرات والعلوم والمعارف التي تؤهلها لممارسة هذا الدور الهام من جهة ثانية، شريطة ان تتوفر لديها الصلاحيات الواسعة التي تمكنها من القيام بمهامها.
وهذا الامر يستدعي ضرورة التأهيل السريع والمدروس للعديد من القيادات الادارية داخليا وخارجيا للافادة من خلاصة التجارب العالمية الرائدة في هذا الميدان بما يتوافق وبيئتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية خاصة في ظل الوضع الأمني الراهن.
• إعادة النظر بالقوانين والتشريعات والانظمة التي تحكم آليات ممارسة الانشطة الادارية العامة على شكل حزمة متكاملة وخلال فترة محددة دون اللجوء الى عمليات التعديل المتكررة والتي قد تغرق المنفذين في جزئيات لا تفيد .
• إعطاء مسألة الثقافة الادارية والتنظيمية الاهمية التي تستحق من خلال تكريس المفاهيم والقيم والاخلاقيات الادارية التي تتماشى مع مصلحة المجتمع والمنظمات الاقتصادية والعاملين فيها .
• ¬ القضاء على كافة الاسباب التي تقود للانحراف والفساد الاداري بكافة اشكاله عبر اعادة النظر بمعايير وانظمة ومقاييس الاداء وتكريس موضوع المساءلة الادارية والقانونية، حيث ان تطبيق مضامين هذه الفكرة يستدعي اعادة النظر بمسألة الرواتب والاجور وخاصة بالنسبة لشاغلي المواقع الادارية المتقدمة ( مع ان هذا لايعني البتة عدم الاهتمام ببقية شرائح العاملين في مختلف القطاعات والمستويات).
• ¬ توحيد الجهة الرقابية وحصرها في جهاز واحد قادر على ممارسة هذا الدور البالغ الاهمية والحساسية في سياق الانظمة والقوانين النافذة وبما يحقق المصلحة الوطنية العليا بغض النظر عن التقيد الحرفي باللوائح تأسيسا لتحقيق البرامج والخطط والاهداف المرسومة.
• ¬ السعي لايجاد السبل الكفيلة بخلق الحوافز المادية والمعنوية من اجل تنفيذ سياسات وبرامج الاصلاح ومكافحة الجهود المباشرة وغير المباشرة الهادفة الى اعاقة وضع وتنفيذ هذه البرامج.
• بناء وتطوير النظم الخاصة بقواعد البيانات والمعلومات على كافة مستويات اجهزة الادارة العامة استنادا الى الدراسات والبحوث العلمية ومصادر المعلومات الخارجية .
وعليه اود ان اؤكد على أن الفلسطينيين بحاجة إلى تعزيز مشاركتهم في المسؤوليات والحقوق أكثر من أي وقت مضى، ففي ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي واستمرار سيطرة الانقلابيين على قطاع غزة واجه الكثير من المؤسسات تحديا كبيرا أدى إلى توقف عدد منها عن تقديم الخدمات، وتخبطت عملية التخطيط عند مؤسسات أخرى، وزادت المركزية غير الفعالة في الكثير منها.
وهنا لا بد من التأكيد على أهمية توفر مؤسسات رسمية قوية، متماسكة، ومهنية ونظام حكم يستمد شرعيته من الجمهور، ويسعى لتفعيل المصادر ويوجهها وينظم الطاقات البشرية والمؤسساتية نحو تحقيق أهداف التنمية البشرية المستدامة بالمعنى الانعتاقي الشامل.
إن نظاما اصلاحيا، لا يمكن تحقيقه بدون إدارة مركزية قائمة على سيادة القانون ومنهجية عمل ديمقراطية، حيث تتصف العلاقة بين المركزية واللامركزية بالجدلية، فقوة المركز لا بد أن ينتج عنها قوة للمجتمعات المحلية التي تؤدي إلى قوة السلطة المركزية.