* قد تكون مسألة التقليد سلبية لأنها لا تنطلق من قاعدة فكرية ترتكز على القناعة في طبيعة الحركة أو الموقف الذي يقوم الإنسان بتقليدهما، مما يجعل الإنسان صدى للآخرين، فلا يملك نفسه أو فكره، الأمر الذي قد يؤثر على نموه الفكري والشعوري والعملي والمستقبلي، حيث يبقى يحدق بالآخرين من خلال العنصر الخارجي لشخصيته بدلا من أن ينطلق من قناعاته التي تمنحه قاعدة في الفكر والشعور والحركة.
وهذا هو الذي ركز الإسلام عليه في عملية المنهجية على مسألة تقليد الآباء، لأن المسألة العاطفية التي يعيشها الأبناء مع آبائهم تجعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم بحيث يستقلون في الفكر، أو يناقشون الفكر الآخر، فيتخففون من كل حالة فكرية أو شعورية أو روحية ليندفعوا وراء آبائهم، الأمر الذي يجمد الفكر عند هؤلاء الآباء والأجداد لتكون الأجيال القادمة أجيالا تقدس هذا الفكر وتعظمه دون أن تسمح لنفسها ولا لغيرها أن يناقشه فضلا عن أن يرفضه.
التقليد الممتلين:
وهذا ما نلاحظه الآن في تقليد الأجيال الطالعة من الشباب والفتيات للممثلين والممثلات والمغنين والمغنيات أو للأشخاص الذين يمتلكون موقعا يجتذب أحاسيس الجيل بشكل وبآخر، بحيث أنهم تحركوا ضد القيم الأخلاقية والإجتماعية وما إلى ذلك، لمجرد محاكاتهم للآخرين، فلم تعد القيمة عندهم أنها تتحرك إيجابا أو سلبا في حياتهم، لا فرق في ذلك بين القيمة الملائمة أو القيمة المضادة، بل أصبحت القيمة عندهم هي ما يتحرك به الآخرون الذين يعيشون المشاعر الحميمة اتجاهها.
وبهذا نجد أن الذين يشرفون على التخطيط للصرعات المتحركة في أجواء الشباب استطاعوا أن يصادروا الكثير من الأجيال بهذا الاتجاه، بحيث فقدت أصالتها التي تربطها بجذورها والتي تفتح أذهانها على آفاق جديدة.
الأسوة الحسنة:
وقد نلاحظ بعض الإيجابيات للتقليد عندما ترتبط المسألة التقليدية بالنماذج الجيدة والمنفتحة على المستوى الاخلاقي أو الروحي أو السياسي أو الجهادي، بحيث يكون ارتباطهم بالشخص- من خلال تعظيمهم له- هو الذي يدفعهم إلى أن يسيروا كما يسير وأن يأخذوا كما يأخذ به ليرتبطوا بالقيمة الإيجابية، وفي المرحلة الثانية يدفعهم ذلك إلى الدفاع عن هذه القيمة من خلال الإنفتاح على الجانب الفكري الذي ترجع اليه، أو على الظروف التي تحيط به وما شاكل.
وهذا ما يتحدث عنه بـ (الأسوة الحسنة) والقدوة الحسنة، وما جاء في قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
فالصورة الحسنة تجتذب الإنسان فيحاكيها ثم تتعمق في نفسه بعد ذلك، وكما قال ذلك الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
إن المحاكاة الإيجابية حتى ولو لم تنطلق من عنصر فكري سوف تتحول إلى حالة طبيعية في الإنسان، كما يقال إن (الطبع قد يغلب التطبع في بعض الأحيان). ولكن المسألة المهمة هي أن يتعود الإنسان على أن يكون نفسه، أن يفكر، وأن يؤمن، وأن يكتب بحيث تكون الصور الإيجابية والسلبية لدى الآخرين منطلق فكر له لا منطلق محاكاة.
وتبقى المحاكاة الأسلوب الذي نعتمده في الحالات الإيجابية لربط الناس بالقيمة الإيجابية التي لا يرتبطون فيها- في البداية- إلا من خلال النماذج التي تتحرك في الواقع لنستطيع حمايتهم من القيم السلبية ريثما نعمل على تعميق هذه القيم- بعد ذلك- في نفوسهم من الناحية الفكرية أو الروحية.
منطلقات التأثر والانجذاب:
أما عندما يكون التقليد في المضمون السلبي، فإن علينا أن نعمل على انقاذ الشباب منه بالتركيز على سلبياته والدوائر التي تنتجه، وعندما يكون التقليد إيجابيا فعلينا أن نشجعه ثم نحاول في المرحلة الثانية بعد أن يكون قد استقر في شخصية هذا الشاب من خلال المحاكاة لنعمقه بعد ذلك ونتحدث له عن محاسنه ومنافعه، وإننا نقدر فلانا لانه أخذ بهذا ولا نقدر هذا لأن فلانا أخذ به.
إننا قد نحتاج في الخط الإيجابي في التربية إلى اختصار الكثير من التجارب بربط الشاب بالنموذج الجيد والحي للصورة لنتولى بعد ذلك تعميق مفردات القيمة في نفسه لتتحول إلى قناعات وأفكار وقيم شخصية، وبعد أن تتركز الصورة نتحدث عن أن قيمة فلان أنه أخذ بهذه القيمة، لا أن قيمة هذه القيمة أن فلانا أخذ بها، وبذلك نربط عظمة الشخص بعظمة القيمة بدلا من الحالة الاولى التي تربط عظمة القيمة بعظمة الشخص.
فنحن قد نحتاج إلى تشجيع التقليد للنماذج الحية والجيدة كاسلوب من أساليب التربية التي قد تختصر لنا الكثير من الزمن والكثير من الجهد، ولكن لا بد من الدقة والحذر في إتباع هذا الاسلوب وتحريكه، بحيث لا تكون المسألة مسألة تشجيع للتقليد وإنما تشجيع لمضمون معين قد لا تستطيع أن تعمقه في البداية إلا من خلال التقليد.